حكاية أقرب إلى الخيال جمعت بين إبراهيم عبدالباقي أكول ومصطفى آدم سليمان، حيث ربطت بينهما علاقة الصداقة منذ نعومة أظافرهما في حي مايو جنوب الحزام، واستمرت علاقتهما إلى يومنا هذا لم تتأثر بمعطيات الانفصال ولا تداعياته، فصارا أنموذجاً لتواصل أبدي بين شطري السودان. أنت سوداني وسوداني أنا ضمنا الوادي فمن يفصلنا نحن روحان حللنا بدنا منقو قل لا عاش من يفصلنا قل معي لا عاش من يفصلنا توقفت كثيراً عند كلمات الشاعر الجميل والمربي الفاضل الأستاذ عبداللطيف عبدالرحمن، وكأني به قد نظم أبياته وتداعى بكلماته، إعجاباً بعلاقة إنسانية قامت على مبدأ المحبة ونكران الذات، ربطت بين "إبراهيم أكول" الدينكاوي طويل القوام، رفيع المقام، سليل أسرة السلطان عبدالباقي أكول، بصديقه "مصطفى ود الفكي" الفوراوي، نقي السريرة، عماد العشيرة، ابن الفكي آدم سليمان. تفاصيل الحياة " إبراهيم أكول ومصطفى ود الفكي، كسرا كل الحواجز ومارسا الركض في الحواري واللعب بالطين واللهث وراء إطارات السيارات "العلاقة بين الرجلين بدأت قبل أن تبدأ داخلهما تفاصيل الحياة وتعقيداتها المرهقة، فقد كانت منطقة مايو جنوبالخرطوم، مهداً لميلاد هذه العلاقة التي انطلقت مرتبطة بحبل "الجيرة" السري بين الطفلين فترعرعا معاً في عهد الطفولة الأول. وتجاوز الصديقان حواجز الجنس واللون، متحرران من قيود انتماء أعمى، فرضه المجتمع بلا وعي لتضاد جهوي مفتعل بين الشمال والجنوب. إبراهيم أكول ومصطفى ود الفكي، كسرا كل الحواجز ومارسا الركض في الحواري واللعب بالطين واللهث وراء إطارات السيارات. وفي ميادين كرة القدم مارسا الدافوري، ولعبه البلي وسكج بكج، قبل انتظار دخول الليل وحلول الظلام، لتبدأ رحلة البحث عن "شليل" والارتكاز على حدود أحلام وأفكار في كيفية الخروج من المعاناة وتحدي ظروف الحياة القاسية. فكل سكان منطقة مايو جنوب الحزام، وبلا استثناء، يعكسون صورة حية لواقع المعاناة، وكأنهم قد أتوا إلى الوجود ليجسدوا المفهوم الحقيقي للفقر، ولا أدري لماذا لا تمد إليهم الحكومة يداً وتضعهم ضمن برامجها المنادية بدعم الشرائح الضعيفة والرامية إلى تخفيف حدة الفقر؟! غيوم المعاناة في هذه الأجواء الملبدة بغيوم المعاناة، والمرتكزة على أسس من المفارقات وقصص من التناقضات، تعمقت علاقة أكول وود الفكي. فقد ذهبا إلى المدرسة معاً، جلسا معاً، درسا معاً، وفكرا معاً في كيفية مواصلة المسيرة التعليمية في ظل حياة نمطية لا تتجاوز المعايير التقليدية. فكيف لتلميذ يحاصره الفقر والجوع وفوضى المعيشة، أن يركز مع دروسه وتحصيله الأكاديمي؟! إن في الحلق غصة، أكبر من استيعاب تفاصيل الحصة. انتهى تفكير التلميذين إلى العمل لمساعدة نفسيهما وأسرتيهما وتحقيق ولو جزء يسير من هدفيهما في الحياة، فعملا في مهن هامشية "صبي دكان في شارع النفيدي" يجلب الصحف ويقدم الشاي والقهوة والمياه للضيوف. افترشا غرفة في إحدى البنايات فسكنا معاً واستمر مشوارهما مع الحياة، صديقان عزيزان يتقاسمان رغيف المحبة والإخاء في زمن لا يعترف إلا بالمصالح الشخصية والارتهان إلى الذاتية، ولا يلقي بالاً للعلاقات الإنسانية. مشوار العلاقة " تباعدت الخطى وامتدت المسافات ولكن قلب العلاقة ظل يخفق بالمودة وأمل اللقيا، وسرعان ما تحقق فالتقيا من جديد، ليستمر مشوار الحياة في علاقة تجاوزت حدود الرجلين إلى أسرتيهما الصغيرة والكبيرة "مشوار العلاقة بين ود الفكي وأكول توقف لبرهة عند محطة المرحلة ما بعد امتحانات الشهادة الثانوية، حيث ذهب أكول إلى الكلية الحربية طالباً وانطلق ود الفكي إلى السوق تاجراً. تباعدت الخطى وامتدت المسافات ولكن قلب العلاقة ظل يخفق بالمودة وأمل اللقيا، وسرعان ما تحقق ذلك عقب تخرج أكول ضابطاً، فالتقيا من جديد، ليستمر مشوار الحياة بين الضابط إبراهيم أكول والتاجر مصطفى ود الفكي، في علاقة تجاوزت حدود الرجلين إلى أسرتيهما الصغيرة والكبيرة حتى صارت مضرب مثل في الوفاء. فلا راحة لأحدهما بدون الآخر، وحتى المشاكل العائلية التي تنشب في منزل مصطفى تنتهي بوصول أكول، وذات المشهد يتكرر بصورة طبق الأصل في منزل أكول، فعلى يد مصطفى تنسج خيوط الحلول. انفصال جنوب السودان في العام 2011، كان اختباراً قوياً لمدى صمود علاقة الرجلين، في وجه هذا التسونامي وتداعياته، ولكنهما عبرا بكل سهولة ويسر، وكأنما الانفصال جاء ليعزز من الروابط الأزلية. المحبة والانتماء انتقل أكول إلى عاصمة جنوب السودان "جوبا"، ليعمل ضابطاً في القوات الخاصة لرئيس دولة جنوب السودان، فانتقل معه مصطفى ود الفكي. انقسم السودان إلى شطرين ولكنه بقي داخل الرجلين سوداناً واحداً يقوم على المحبة والانتماء الحقيقي بلا فوارق أو جهويات، فالإنسانية وحدها تحكم العلاقة، وتعزز من عرى الصداقة. بقي مصطفى في دولة جنوب السودان، مواطناً جنوبياً يتمتع بكل حقوقه ويمارس حريته في العمل والتنقل والتملك بلا خوف ولا قلق. اندلاع التمرد في دولة جنوب السودان، أعاد مصطفى ود الفكي إلى الخرطوم، فما كان من إبراهيم أكول إلا أن خلع البزة العسكرية واستقال من الخدمة برتبة المقدم ليكون قريباً من صديق الطفولة ورفيق الدرب، فلا وظيفة ولا وطن يقطعان مشيمة المحبة التي ربطت الرجلين منذ الطفولة. ضمير الساسة " ربما هناك علاقات أكثر عمقاً جمعت بين أسر وعائلات من الجنوب والشمال، تعايشت وتمازجت وتزاوجت،فجرى الدم في شراينها مجرى النيل الذي ما انفك يخرج لسانه ضاحكاً في وجه الانفصال " ليت ضمير الساسة في دولتي السودان وجنوب السودان، يلتفت إلى حكاية مصطفى ود الفكي وإبراهيم أكول، ولعل مثلها الكثير من الحكايات التي ربطت بين مواطنين. وربما هناك علاقات أكثر عمقاً جمعت بين أسر وعائلات من الجنوب والشمال، تعايشت وتمازجت وتزاوجت، فجرى الدم في شراينها مجرى النيل الذي ما انفك يخرج لسانه ضاحكاً في وجه الانفصال الذي أجزم أنه أكبر أكذوبة سياسية في تاريخ السودان الحديث. فقد انفصل البلدان، لكن لا استقر السودان، ولا نعم جنوب السودان بدولته الحلم. شكراً إبراهيم أكول وشكراً مصطفى ود الفكي، فتجربتكما جديرة بالحكي، ويفخر بها المداد، ولتستمر علاقتكما، روحان في جسد، محفوظة من عين الحسد، ومحفوفة برعاية الواحد الأحد.