في حوار في منتصف التسعينيات مع الروائي السوداني إبراهيم إسحق إبراهيم صاحب روايات: حدث في القرية ومهرجان المدرسة القديمة، وأخبار البنت مياكايا، وفضيحة آل نورين، ووبال في كلمندو. قال لي: حفيف أوراق أشجار (المرخ) في غابات بلدي يعني لي أشياء كثيرة مرتبطة بوعي للوجود. ويتسرب إلى كتاباتي الروائية. والحفيف، موسيقى، تنبعث من أوراق الشجر، وهي جزء من سيمفونية هائلة تعزفها الطبيعة، وعند إحالة الطبيعة إلى موقعها في المكان، تشير بشكل مباشر إلى الألفة، بكل ما تعنيه من تفاصيل ودلالات ومعان. إذ يمكن ببساطة أن يختزل هذا الحفيف، صورة البيت والأهل والجيران والحبيبة والأصدقاء، فيخرج من موقعه في التجريد المحض- نغم معلق في سيمفونية الطبيعة، إلى ملموسية محضة، يستحضر فيها السامع صورة بيته وأهله ورموز الألفة عنده. هاجس الموسيقى وقد ألهمني هاجس الموسيقى وأثره الوجودي إلى إعادة قراءة نصوص إبراهيم إسحق من هذا المدخل، كيف يمكن استعارة إطار نغمي في البناء السردي لشخصية أو موقف أو حدث. ولم يراودني الشك لحظة في أن روايات إبراهيم إسحق هي موسيقى وجود. وهو لا يستعير هذا الجوهر فقط في عمله الروائي، بل يمضي أبعد إلى استخدام أصوات الطبيعة ونغماتها وتقليد الإنسان لها في نصوصه، ويحاول إيجاد معادل لغوي لها، مثل قوله في رواية وبال في كلمندو: «انصرفت مستورة، وأنا أعقبت التُكل (المطبخ) أجمع الحطب المشقوق، جدتي أم سلمة كانت تحذرني في العمرايات (قرية) وأنا بنجوسة (صغيرة): عيب إذا جا الضيف، ست البيت تجري على ضهر التكل بالفاس (كَوكَو، كنك) (كأنك) للضيف تخبط في راسو.. كَوكَو حطبنا ما في، كَوكَو.. ملاحنا ما في.. عصيدتنا ما في.. كَوكَو. ظلّت تعدد لي خبطات ذلك الفاس، تترى علي، تكسر دماغي كسراً، والنجوم تغيب الواحدة تلو الأخرى، حتى وجدتني مع حلاوة الأذان. تنهر على عجوز أم سلمة من جديد: كلتومة؟ يا كلتومة؟ يا كلتومة قومي احلبي الغنم! فقفزت بالمحلاب في يدي أتعثر على أغطياتي وأحذر أن يسمعني الضيف.. يا للعيب.. شَو شَو حليبنا ما في.. شَو شَو روبنا ما في، ثم استدركت يا لفرحتي إننا لم يكن لدينا ضيف هذا الأسبوع، وهبطت أنفاسي من هيجان ملعون». والمشهد في أصله يقدم سردية عن علاقة الضيف بالمضيف، ويكشف عن الأثر الاقتصادي، في ذلك السياق الذي يعيش أهله في رقَّة من العيش والحال. وينتهي إلى قمة وجودية تتحول فيها كل هذه التفاصيل إلى لحن كثيف متماسك يرمز ويدل ويوحي «يصبح علامة ودلالة على هوية». الطيب صالح والروائي الكبير الطيب صالح، وظف المشهدية الموسيقية في روايته بندرشاه ليدل على الألفة، وعلى قوانينها في قرية على منحنى النيل، يستعين أهلها على الوجود وعلى صياغة موقفهم الاجتماعي وعلاقة الذات بالآخر، من خلال موسيقى الطمبور، وهو «ربابة يعزف عليها أهل شمال السودان مشاعرهم»، والأهازيج، والزغاريد التي هي «موسيقى تعبيرية أو تصويرية مرتبطة بمشهد الألفة». في الرواية يعبر أهل القرية عن احتفائهم بالغريب من خلال منحه قطعة أرض زراعية وبيتاً وتزويجه بإحدى بناتهم. ويقيمون لذلك الأفراح وعندما عرفت إحدى النساء العابرات أن هناك عرساً استهلت تعبيرها بزغرودة وصفها الطيب صالح في الرواية بأنها وسيلة هذه المرأة للدخول في نغم الألفة الكبير. وأنها إعلان عن هذا الشعور الذي يحولها إلى حبّة قمح ليست عزلاء، بل ضمن كوم قمح، ولحن ليس أعزل، بل ضمن نغم كبير للألفة. وكذلك تدخل جمجمة «بفتح الجيم الأولى والثانية» (بنجي) في رواية (الصخب والعنف) لوليم فوكنر في هذا الإطار الوجودي العجيب.