(1) ليس من حقِّ قوةٍ من القوى السياسية السودانية الحجر أو إقصاء أحد من المشاركة في الحراك الثوري -الذي يجتاح البلاد بهدف إسقاط نظام الإنقاذ الفاسد الذي يحكم منذ ربع قرن- مهما كانت مواقف هذا الأوحد السياسية، ما لم تكن يده ملوثة بدماء الشهداء أو الاعتداء على المال العام، فأولئك الذين ظلوا يصطفُّون على الرصيف، ويمارسون نوعًا من الحياد السلبي، أو حتى الذين ساندوا هذا النظام في فترة من فترات حكمه، وساروا في ركابه خوفا أو طمعًا دون أن يرتكبوا جرمًا مباشرًا، يمكنهم اليوم إذا ما تحرَّروا من مواقفهم السابقة، وصدقوا النية أن يشاركوا في الثورة، من أجل خلق حاضرٍ أكثر إنسانية ،ومستقبل أفضل لهذا الشعب، ولو من باب تكفير ذنوبهم الماضية. (3) أما طائفة الذين خطَّطوا لقيام هذا النظام الظالم، وظلوا جنده وسدنته في جميع مراحل عدائه السافر للشعب، وشاركوا مباشرة في تنفيذ مشاريعه المدمرة، ويريدون اليوم والسفينة الإنقاذية على مشارف الغرق القفز منها، وإقناعنا بأنهم قد تبيَّنوا فجأةً الرشدَ من الغي، وتابوا وأنابوا دون الإيفاء حتى بمتطلبات التوبة الشرعية في حدها الأدنى، المتمثل في: الاعتراف بالذنب أولاً، وطلب الغفران ثانيا، والعمل بعد ذلك على إزالة آثار الذنب والجرم، إبداء لحسن النية وصدق المشيئة، فلن تقبل منهم توبة، ولن تشفع لهم أعذار، مهما دبَّجوا المقالات، وساقوا المبررات، وأجادوا صياغة المبادرات، فالذي يبنى على باطل فهو باطل، لذا فلا مكان لهم بين قوى التغيير الثورية، ولا مجال لمشاركتهم، فجدار الشك يعلو بينهم وبقية الشعب، ويحجب أفق الشفاعة والغفران. (4) وفي هذا المقام يستوي "السائحون" و "المصلحون" ، فلا فرق بين "ود إبراهيم" و"غازي صلاح الدين" جميعهم مطالبون بالاعتراف بخطأ الانقلاب على السلطة الشرعية الديمقراطية في يونيو 1989م، والجرائم كافة التي ارتكبت في حق الوطن والشعب، في ظل سلطة الانقلاب طوال ربع قرن، ومن ثم الاعتذار علنًا للشعب قبل أن يرهقوا أسماعنا بتصريحات خجولة، ومبادرات دسمة لغويا وفقيرة المصداقية، خاصة وشعب السودان قد عايش من قبل فصول هذه المسرحية إبان حكم الدكتاتورية المايوية، والتي كانت خاتمة فصولها المأسوية عودة سدنة النظام المايوي من تيارات الإسلام السياسي من الشباك، بعد أن تم طردها من الباب، في انتفاضة إبريل 1985م المجيدة. (5) لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وشعبنا المؤمن لدغ من جحر تيار الإسلام السياسي مرة، ولا تثريب عليه إن تحلى من بعده بالحيطة والحذر في تعامله مع أفراد ومجاميع هذا التيار، التي تدعي أنها اكتشفت بعد ربع قرن من الحكم المطلق فساد وخطل نهجها وعطب مشروعها، دون أن يكون لها الشجاعة في نقد مجمل التجربة، وتقديم مراجعات واضحة تؤسس لنهج جديد يتقاطع مع القديم، ومشروع فكري يناقض ما تعارف عليه باسم "المشروع الحضاري" الذي سقط وقاد الجميع للسقوط في وحل الفشل. (6) إن منطقَ القفزِ من السفينة الغارقة منطقٌ انتهازيٌّ، أدمنته تيارات الإسلام السياسي، ولم يعد ينطلي على أحد، فالكلُّ بات يعلم أن هذا هو السيناريو المفضل لتلك التيارات للخروج من أزمات تجاربها الفاشلة، والمحافظة على الكيان من الاضمحلال والفناء، فمسرحية خروج البعض على الجماعة وإعلانهم الانشقاق وتبنيهم لمشروع إصلاحي يَتَمَاهَا مظهريا وروح العصر في ظاهرة شبيهة بتأقلم الحرباء مع الوسط الذي تعيش فيه حماية لنفسها من الانقراض قد أصبح سمةً من سمات تلك التيارات الموصوفة بالإسلامية. (7) وهذا المنطق قد يكون مقنعًا للجماهير في دورة من دورات وعيها الباكر بيد أن التجربة وتراكم الخبرة كفيل بهزيمة وفضح هذا النهج الانتهازي، ولا أظن أن مذكرات النفاق التي ترفع من قبل السائحين والمصلحين مستنكرة قتل المتظاهرين السلميين، اليوم ستجد آذان صاغية لدى الشعب الذي يعلم علم اليقين أنهم قد شاركوا النظام من قبل في ارتكاب جرائم أبشع من التي يستنكرونها في كل من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وسيعتبرها المواطن في أحسن الأحوال بضاعة كاسدة مردودة على أصحابها لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، الغرض منها إعادة إنتاج الذات المهزومة من جديد، دون مراعاة لوعي اللحظة التاريخية الذي اختلف منذ آخر مرة سطت فيه هذه الجماعات على المكاسب الثورية للجماهير في انتفاضة إبريل 1985م. (8) إن مهر تأسيس دولة المواطنة المدنية الديمقراطية، والخروج من نفق الدولة الثيواقرطية غالٍ وباهظُ التكلفة، ويستوجب تقديم كثيرٍ من التضحيات والعمل الجاد على معالجة أخطاء الماضي كافة، وكشف جميع الأساليب السياسية الملتوية وغير الشريفة، التي أوصلتنا لهذا النفق المعتم، والذي كانت نتيجة دخولنا فيه انهيار الدولة وانشطارها في ظل نظام الشيوخ الذي حكم طوال ربع قرن ولا يزال دون أن يجد من القوى السياسية من يتصد له، و يقف ضد مخططاته ومشاريعه المدمرة التي تحاول جماعات "سائحون ومصلحون" اليوم أن تبث فيها الروح وتعيد تدويرها من جديد بحجة أن المنهج صحيح والعلة كانت في التطبيق. (9) اجتهادات جماعات "السائحون والمصلحون" الجارية لنفض اليد من جرائم نظام الإنقاذ وتحسين صورتها، لا تعدو أن تكون محاولة بائسة لإيجاد موطئ قدم، بعد أن تأكد لها أن النظام الذي دعمته وظلت تدافع عنه قد فقد مشروعية استمراره وبقائه، ولا محال هالك، وبما أن هذه الجماعات لا تزال ترى وتؤمن بأن الدولة الثيوقراطية العروبية الشمولية هي الأصلح لحكم السودان، فكان لابد لها من أن تجتهد وتعمل من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أنقاض نظام الإنقاذ، على أمل إعادة ترميمه والعودة به من جديد للساحة بمسمى ومظهر عصري يتماها مع بعض متطلبات المرحلة، مع إخفاء للثوابت إلى حين التمكين وقوة الشوكة، وعندها يكون لكل حادثة حديث. (10) الجماعات التي تعمل وفق فكر ونهج "السائحون" مغتربة عن الواقع، وتداعب خيالاتها أحلام مستحيلة بإمكانية إيقاف عقارب الساعة عن الدوران والعودة بها إلى الوراء، متناسين حقيقة أن ربع قرن من الحكم "الثيواقراطي" قد كان كفيلاً بفضح المخفي من برامج الخِداع التي تخفي حقيقة أمرها وراء مظاهر الورع والتقوى الكاذبة، وأن هذه السنوات الطوال -رغم آلمها وما جرته على الوطن والشعب من بلوى وأذى- إلا أنها أيضا زودت الجميع بوعي نوعي، ذلكم هو وعي الشباب الثائر اليوم في ساحات الوطن، رافضًا حكم الشيوخ الأنجاس، ومطالبا بنظام ديمقراطي مدني، أكثر عدالة وطهرًا، فلا مجال بعد اليوم لنظام دكتاتوري وعنصري بلبوس ديني، فوعي المرحلة التاريخية قد تجاوز هذا النوع من نظم الاستبداد الفاسدة . ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.