هذا المقال جزء من فصل في كتاب أعكف حالياً على تأليفه في محاولة متواضعة للتوثيق لفترة العمل المعارض من خلال التجمع الوطني الديمقراطي. يصر الكثير من الاتحاديين وغيرهم من المعارضين للنظام الحاكم في بلدنا على فرضية أن الحركة الشعبية لتحرير السودان قد باعت القوى السياسية والنقابية الشمالية التي تحالفت معها في التجمع الوطني الديمقراطي، حيث يرى هؤلاء أن قرنق قد استخدم التجمع بذكاء لتمرير أجندة انفصالية عبر اعتماد مبدأ تقرير المصير ثم إجراء مفاوضات ثنائية مع النظام قادت إلى التوقيع على اتفاقية نيفاشا التي أدت في نهاية المطاف إلى انفصال الجنوب وتأسيس الجنوبيين لدولتهم المستقلة. من جانبي لا ألوم من يؤمنون بصحة هذه الفرضية، ففي العادة لا تتضح لنا الحقيقة جلية عندما نعتمد على النظرة الأولى السطحية، وذلك بسبب غياب المعلومات الناتج بدوره عن حالة التغييب التام للشعب التي أضحت ممارسة مألوفة لقياداتنا السياسية. لذا أحاول عبر هذا المقال كشف بعض الخبايا التي لم تتاح للكثيرين فرصة الاطلاع عليها. في رأيي أن الفرضية المذكورة أعلاه خاطئة وفيها ظلم بائن للدكتور جون قرنق الذي كان وحدوياً حتى النخاع، ولم يكن قبوله بمبدأ تقرير المصير إلا سماً تجرعه تحت الضغوط الهائلة من بعض القيادات والقواعد في حركته ومن المثقفين الجنوبيين في المهجر (اعلان أدير)، وقناعتي الشخصية هي أنه كان بالإمكان تجنب الانفصال لو لم ينكص مولانا محمد عثمان الميرغني بوعده بالحضور إلى أمريكا كما كان متفقاً عليه بين الرجلين وسأورد في هذا المقال ما يعزز هذا الرأي، فقد كنت حاضراً وشاهداً على الأحداث خلال فترة العمل المعارض وشاركت في الكثير من اللقاءات والاجتماعات في واشنطنوالقاهرة بحكم وجودي على رأس لجنة التجمع الوطني الديمقراطي في الولاياتالمتحدة وكذلك كرئيس للجنة الحزب الاتحادي الديمقراطي بمنطقة واشنطن الكبرى. الواقع أننا عانينا كثيراً خلال سنين العمل المعارض من تجاهل الإدارة الأمريكية لما يدور في السودان الذي كان دائماً في أسفل أوليات الإدارة الأمريكية والمؤسسات الأمريكية فيما عدا منظمات حقوق الإنسان وعدد قليل من أعضاء الكونغرس. ظلت الغالبية من المسئولين الأمريكيين تشكك في وحدة وجدية التجمع وفي إمكانية أن يصبح بديلاً مقنعاً ومقبولاً لنظام الجبهة الإسلامية، فقد كانت وجهة نظرهم هي أن أحزاب الأمة و الاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية ليسوا سوى وجوه لعملة واحدة، لذلك كانوا يرون أن سقوط نظام الجبهة لن يغير شيئاً في المعادلة وأن الحرب الأهلية في الجنوب لن تتوقف. وقد لعب الدكتور فرانسيس دينق دوراً كبيراً في تعزيز وجهة النظر تلك ، باعتباره لاعباً أساسياً في تشكيل الرأي العام وسط المسئولين الأمريكيين في الإدارة والكونغرس وفي المنظمات ومراكز البحوث التي تلعب دوراً كبيراً في تشكيل السياسة الأمريكية الخارجية. وللذين لا يعرفون الدكتور فرانسيس دينق فان ذلك الرجل كان بمثابة الكل في الكل فيما يتعلق بشؤون السودان، وكما يقول الفرنجة كان دينق (The authority ) في موضوع السودان، فقد كانت الإدارة الأمريكية ومؤسساتها المختلفة كوزارة الخارجية تلجأ اليه لأخذ المشورة والنصح، كما ظل يتلقى الدعوات من مجلسي النواب والشيوخ كمتحدث رئيس في جلسات الاستماع المناط بها جمع المعلومات اللازمة عن ما يدور في السودان، هذا علاوة على حضوره القوى والدائم في مراكز البحوث والمعاهد والمنظمات غير الحكومية المهتمة بالشأن السوداني التي تعتمد عليها الإدارة الأمريكية في وضع سياساتها تجاه السودان وقلّ ما كان د. دينق يغيب عن جلسة نقاش أو مؤتمر حول السودان. وبسبب حضوره الكثيف في مثل هذه المناسبات وصفه صديقي ستيفن وندو الذي كان وقتها ممثلاً للحركة في واشنطن بقوله (Dr. Francis owns Washington) وهو وصف يعبر حقيقة عن مكانة الرجل لدى الأمريكان وتأثيره عليهم فيما يتعلق بقضايا السودان. عكف الدكتور فرانسيس دينق على عقد العديد من المؤتمرات عن السودان وكان يصر على دعوة أشخاص من اليسار والقوى الحديثة إضافة إلى الدكتور عبد الوهاب الأفندي ، وقد استخدمهم بذكاء منقطع النظير لتمرير أجندته الخاصة، فقد ظل ممثلو اليسار والقوى الحديثة يعبرون باستمرار عن رفضهم للشريعة وضرورة تطبيق العلمانية ليحظوا في نهاية الجلسة بإشادة الدكتور دينق بما قالوه ، لكنه كان يؤكد في ذات الوقت على أنه لا قيمة لما يقولونه في السودان لأن الغالبية تنتمي إلى الأحزاب الكبيرة ( الأمة والاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية ) ، مؤكداً في كل مرة أن هذه الأحزاب تنادي ببرنامج ودولة تقوم على العروبة والإسلام. أما الدكتور الأفندي فقد ظل يهاجم مشروع السودان الجديد الذي نادي به قرنق والقائم على فكرة سودان جديد على أسس جديدة لا مكان فيها للدولة الدينية مع تحقيق وحدة تساوي بين كل السودانيين، حيث كان الأفندي يقول أن هكذا طرح لا يمكن أن تقبل به جموع الشعب السوداني وبالتالي فهو غير قابل للتطبيق ولذلك فان الحرب التي يخوضها قرنق حرب عبثية لن تؤدي إلا إلى تقتيل السودانيين خاصة أهل الجنوب وتدمير هذا الجزء من الوطن. بالطبع كان مثل هذا الطرح مكملاً للصورة التي أراد دكتور فرانسيس رسمها للأمريكان. فقد أكد لهم بذلك أنه لا فائدة ترجى من التجمع باعتبار أن مكوناته ستستمر في شن الحرب الأهلية حتى لو سقط النظام. وما عزز هذا الرأي هو استمرار حكومة الصادق المهدي في الحرب طوال العهد الديمقراطي وإجهاض الإمام لمبادرة السلام التي وقعها الميرغني مع قرنق. من ناحية أخرى كان الدكتور دينق يعزز وجهة نظره بأن مشروع السودان الجديد مجرد حلم في مخيلة قرنق وهو حلم غير قابل للتحقيق ولذلك فان الحرب الدائرة حرب عبثية لن يجني الجنوبيون منها سوى الموت والدمار ولذلك فالأفضل أن يتم التوصل إلى اتفاق سلام مع الجبهة الإسلامية الحاكمة لوضع حد لتلك الحرب. بذلنا في المعارضة جهداً كبيراً لطرح وجهة نظر مخالفة تؤكد على حدوث تغيير في طريقة تفكير القوى السياسية وأن الاتفاق مع قرنق ووجوده في التجمع كفيل بوقف الحرب بعد سقوط النظام، وكنا نردد أن التحالف بين الحركة الشعبية باعتبارها القوة الأكبر في الجنوب والحزب الاتحادي الذي مثل بدوره القوة الأكبر في الشمال ضمان لوحدة السودان ولتنفيذ ما تم الاتفاق عليه داخل التجمع. وكنا نؤكد أن ذلك التحالف لم يكن تحالفاً انتهازياً مرحلياً، وإنما هو تحالف استراتيجي من أجل مستقبل السودان وأن القوى المتحالفة ستكون صاحبة الأغلبية في أي تغيير قادم، الأمر الذي سيمكنها من تحقيق كل ما تم الاتفاق عليه. وقد طلب منا الأمريكيون أكثر من مرة تنظيم زيارة مشتركة للدكتور قرنق ومولانا الميرغني لكي يسمعوا منهم ذلك الكلام وتلك التأكيدات وقد بذلنا الكثير من الجهود في هذا الشأن وأرسلنا العديد من المذكرات في هذا الخصوص لمكتب مولانا ، لكن للأسف لم تكلل مساعينا تلك بالنجاح. آخر تلك المحاولات كانت بعد اجتماع مع الأخ نيال دينق واستيفن وندو تقرر فيه أن نقوم من جانبنا بكتابة مذكرة إلى مولانا وأن يتحدثوا هم من جانبهم إلى الدكتور جون قرنق لتنسيق الزيارة المشتركة لأمريكا، ولم نتوان في كتابة المذكرة المطلوبة، لكننا لم نتلقَ رداً عليها. ثم فجأة وبدون أي مقدمات اتصل بي الأخوة في مكتب مولانا لإبلاغي بأنه سيحضر إلى أمريكا في زيارة مشتركة مع دكتور جون قرنق لمقابلة كولن باول وزير الخارجية الأمريكي وقتها، وكان الأخ التوم هجو رئيس لجنة الحزب بأمريكا موجوداً في القاهرة حينذاك فطلبوا منه مغادرتها والتوجه إلى واشنطن على جناح السرعة لإكمال ترتيبات استقبال مولانا الميرغني، وقد حضر الأخ التوم إلى واشنطن التي وصلها أيضاً الدكتور جون قرنق على رأس وفد كبير ضم في عضويته منصور خالد وبنجامين برنابا وزير خارجية الجنوب الحالي والمرحوم سيمون كواجي ورياك مشار وياسر عرمان ومالك عقار وآخرين. تحرك مولانا من أسمرا وقتذاك إلى لندن في طريقه إلى أمريكا ولكنه نكص بوعده وقرر فجأة عدم الحضور ، وقد وبذلنا محاولات مستميتة لإقناعه بضرورة الحضور ومقابلة وزير الخارجية الأمريكي برفقة دكتور قرنق حتى يتسنى لهما إقناع الأمريكيين بجدية التجمع في العمل على إسقاط النظام ووقف الحرب وتحقيق السلام وقلنا له أن عواقب عدم حضوره ستكون وخيمة على البلد إلا أنه أصر على موقفه بعدم الحضور. حاول الأخوة في الحركة الشعبية إقناعه بتغيير رأيه ، لكن دون جدوى. وحتى هذه اللحظة لا يعلم غير الله سبحانه وتعالى ومولانا السبب الذي دعاه لتغيير رأيه والنكوص بالوعد الذي قطعه. وفي محاولات لإيجاد ما يبرر تلك الخطوة غير المتوقعة قال البعض أن المصريين منعوه من الزيارة ، لكن المعلومات التي حصلت عليها تؤكد أن المصريين قد شجعوه على تلك الخطوة لكونها كانت ستساهم في العمل على إسقاط النظام مما يضمن وحدة السودان، بينما تكهن آخرون بأن القذافي هو الذي منع مولانا من زيارة أمريكا، أما قناعتي الشخصية المبنية على ما قام به مولانا من خطوات للتقارب مع النظام ثم المشاركة فيه فهي أن مولانا قد رضخ حينها لضغوط النظام حتى لا تتحقق الزيارة. أياً كانت الأسباب فقد رسخ ذلك التصرف المفاجئ للأمريكان صحة وجهة نظرهم بعدم جدوى تجمع على رأسه مولانا وبجانبه السيد الصادق الذي لا يثق فيه الأمريكان بعد أن أجهض مبادرة السلام التي كان من الممكن أن توقف الحرب وتحقق السلام. عدم حضور مولانا لأمريكا مثل قاصمة الظهر وعزز قناعة الأمريكيين بألا فائدة ترجى من ذلك التجمع وأنه لا يمكن أن يكون بديلاً مقبولاً أو مقنعاً، وعليه فقد أصبح الهم الأساسي هو كيفية وقف الحرب وتحقيق السلام عن طريق التفاوض مع نظام الجبهة الإسلامية. وفي تلك المرحلة تلاقى التوجه الجديد للأمريكان مع أشواق التيار الانفصالي في الحركة فرضخ قرنق للضغوط وتبنت الحركة مبدأ تقرير المصير في حالة إصرار النظام على عدم القبول بعلمانية الدولة وقبلت الحركة على مضض بالتفاوض على أساس دولة بنظامين واحدة دينية في الشمال وأخرى علمانية في الجنوب ، وكان ذلك الطرح من بنات أفكار الدكتور فرنسيس دينق الذي ترأس بالمشاركة مع رئيس قسم الشؤون الأفريقية في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية بواشنطن لجنة شكلتها لجنة الشؤون الأفريقية بمجلس النواب بالتضامن مع معهد السلام الأمريكي، وخرجت اللجنة بتوصية الدولة ذات النظامين التي تبنتها الإدارة الأمريكية ودفعت وضغطت على قرنق والنظام للقبول بها، وكانت النتيجة تلك المفاوضات التي توجت بالتوقيع على اتفاقية نيفاشا التي وفرت الغطاء الشرعي للانفصال الذي تحقق في نهاية الفترة الانتقالية. شكل عدم حضور مولانا خيبة أمل وصدمة لا أظننا سنفيق منها، فقد كانت نتائجها كارثية على السودان، حيث شكل ذلك الموقف من مولانا بداية النهاية للتجمع الوطني الديمقراطي ولمسيرة العمل المعارض. وكان كان لذلك الموقف أثراً كبيراً على الدكتور جون قرنق، فلأول مرة في تاريخ العلاقة بين الرجلين رفض قرنق الرد على مكالمات مولانا المتكررة قبل سفره من أمريكا. قابل قرنق وزير الخارجية الأمريكي كولن باول وتطرق خلال حديثه معه إلى خطورة نظام الجبهة الإسلامية على الأمن والاستقرار ليس في السودان فحسب، وإنما في المنطقة والعالم. كما تحدث عن ضرورة إسقاط النظام وعن تحالفه مع مولانا موضحاً له أن ذلك التحالف ليس تحالفاً مرحلياً، بل هو تحالف استراتيجي لإسقاط النظام واستعادة الديمقراطية ووقف الحرب وتحقيق السلام في وطن جميع السودانيين وعلى أسس عادلة للكل ومن أجل البدء في بناء دولة السودان الحديث، مؤكداً للوزير أن ذلك التحالف يمثل الضمان الوحيد لتحقيق كل ما تم الاتفاق عليه في التجمع وانجاز ما يصبو إليه السودانيون. في نهاية اللقاء طلب قرنق من كولن باول تحديد موعد لمقابلة مولانا فرد عليه كولن باول بأنه قد استمع لشرح وافِ وواضح لموقف التجمع فرد عليه قرنق بدعابته المعهودة "Sir: Mr. Secretary: Mr. A-Mirghani is my boss and if you don't meet him I will be without a job" فضحك وزير الخارجية الأمريكي وطلب من قرنق أن يتصل بالمسئولين في مكتبه لتحديد الموعد لمقابلة مولانا. وإن دل هذا على شيء فانما يدل على عظمة هذا القائد العظيم الذي تسامى وتغلب على كل المشاعر السالبة وأصر على تحديد موعد له مع وزير الخارجية الأمريكي رغم نكوصه بوعده له في أسمرا. أحدث ذلك الموقف شرخاً كبيراً في العلاقة بين الزعيمين فقد كان قرنق يحترم مولانا ويجله كثيراً، ويثق فيه وفي صدقه وإخلاصه لقضية الخلاص الوطني، وكم كان قرنق مخطئاً في ذلك ولا شك أنه يتقلب في قبره بعد أن آلت الأمور إلى ما آلت إليه وصار حليفه ورئيسه جزءاً من نظام الإنقاذ الذي رفع يوماً شعار اقتلاعه من جذوره، ذلك الشعار الذي راح ضحية له العشرات من خيرة شباب الحزب فراحت دماؤهم هدراً. ويتقلب قرنق في قبره بعد أن صارت الحركة التي كرس حياته من أجل تأسيسها ووضع لها الأساس الفكري والنظري حركةً انفصاليةً تخلت عن طرحه ومشروعه لسودان جديد موحد ففصلت الجنوب وحتى الآن لم تحقق شيئاً يذكر لأهلنا في الجنوب ولا حول ولا قوة الا بالله والله من وراء القصد