إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار…وفن الخدمة المجانية
نشر في حريات يوم 17 - 02 - 2014

لعل أبرز المحطات التي شهدناها في القرن المنصرم هي إفول نجم الإتحاد السوفيتي الدولة الشيوعية الأولى في العالم، وقد ظن الكثيرون أن سقوط قلعة من قلاع الالحاد هو في حد ذاته انتصار كبير، لكن تسلسل الأحداث أثبت فيما بعد أن وجود هذه القلعة الإلحادية كان (نعمة) وليس نقمة، فما هي إلا سنوات حتى بدأ الحصاد المر وظهرت ثمار غيابها للعيان، إذ دخلت عدة دول في فوضى تامة بسبب ازدياد شراسة الإمبريالية الأميركية والقوى الغربية الأخرى، إذ خلا لها الجو تماما فباضت وغردت، غزيت دولتا افغانستان والعراق، وسادت الفوضى الصومال، وارتكبت المجازر في رواندا والبوسنة والهرسك وغزة، واضمحلت القضية الفلسطينية وسقطت في قاع الخلافات التي تزكيها الأيادي الغربية، وتحول مجلس الأمن إلى أداة لتمرير القرارات التي تخدم أجندة الدول الكبرى، وأضيفت إليه أدوات أخرى مثل المحكمة الجنائية الدولية، ليعمل جميعها جنباً إلى جنب مع أدوات السيطرة القديمة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي..
ولم تكتف القوى الغربية بذلك بل انتهجت سياسة نشر الفوضى والتى ابتدعوا لها اسماً هو (الفوضى الخلاقة)، فهي فوضي تدمر وتهدم أسس المجتمعات المعادية لها ثم تعيد خلقها وفقا للمعايير الغربية. أما أدوات الفوضى الخلاقة فهي الخيار العسكري تارة و إثارة النعرات العرقية والمذهبية في بلدان العالم الثالث تارة أخرى، مع تشجيع المجموعات المتمردة على التمرد، وإختلاق الكثير من المشاكل الحدودية بين عدة دول وإفهام كل طرف أن منطقة النزاع هي منطقة استراتيجية مليئة بالغاز والنفط والذهب، ففي السودان على سبيل المثال بشرنا بأن مثلث حلايب غني بالنفط وكذلك ابيي.
الهدف الواضح من كل ذلك هو تكريس الهيمنة الغربية عسكرياً، واقتصادياً، وثقافياً، وهي هيمنة تهدف في الأساس لخدمة رفاهية الإنسان الغربي على حساب مواطني بقية الكون. وذلك حتى يضمن المواطن الغربي استمرار تدفق النفط والمعادن والماس والذهب والمواد الخام وغيرها مما يحتاجه بأرخص الأثمان، بينما يقوم بتصدير ما ينتجه من هذه المواد للشعوب الفقيرة بباهظ الأثمان.
هذا المشروع الغربي ليس جديداً ولكن حين تبلى شعاراته التي يستظل بها وتنكشف سوءاتها يقوم بتغييرها بصورة ثعبانية من حين لآخر، وعنصر الذكاء فيه مستمد من غباء الآخرين. فهي الآن الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية ومكافحة الإرهاب، بينما كان الشعار في الماضي هو (عبء الرجل الابيض)، ذلك الكائن الأسطوري الذي بذل جهداً ضخماً لنقل البشرية المتخلفة في افريقيا وآسيا الى الحضارة، وما نال مقابل ذلك سوى قليل من الماس والقطن والشاي والمطاط وغيرها من ثروات ما كانت لترى النور ابداً لو أنها تركت لأولئك الهمج المتخلفين كما يرون.
وفيما ما مضي وقبل أن يستيقظ ضميره – هذا إن استيقظ فعلاً – قام الرجل الأبيض بشحن ملايين قليلة من الأفارقة لمزارع القطن والقصب في العالم الجديد، مع الوضع في الإعتبار أنه يرى أن كونهم عبيداً وما لاقوه من معاناة، لا يعتبر شيئاً يستحق الذكر مقابل الخير العميم الذي أصابهم، حيث وجدت أرواحهم الخلاص على يد يسوع بعد أن كانوا في ضلال مبين، كما أن ذريتهم ترتع الآن في بحبوحة من العيش في كنف أبناء اسيادهم البيض مستظلة بالديمقراطية، وأصاب هذه الذرية من الرخاء ما جعل عضلات الذكور تنفتل و أرداف الاناث تكتنز، بينما بقى أقرانهم في أفريقيا، من لم يسعفهم الحظ بنعمة العبودية، ضحايا للملاريا والفقر والجهل والتخلف والحروب وعظام أضلاعهم يمكن حسابها من على البعد.
حين سقط هذا المشروع الأمبريالي التوسعي بفضل حركات التحرر و المقاومة في أفريقيا وآسيا، خرج المستعمر الأبيض ظاهرياً من مستعمراته، لكنه خلف وراءه جنوداً يعرفهم قام بتربيتهم على يده، وخلف أيضا جنوداً لا يعرفهم وما قام بتربيتهم كانوا بالأمس ألد أعدائه وهم يخدمونه اليوم مجاناً، ويعبدون شعاراته الماكرة مثل دعم الديمقراطية، وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب..إلى آخر تلك الشعارات التي ثبت أنها تمارس بانتقائية وانتهازية لخدمة المصلحة أولاً وأخيرا وليس لخدمة المبدأ السامي الذي يمثله هذا الشعار أو ذاك.
هذه المقدمة لابد منها لمحاولة فهم مواقف اليسار عامة، و في السودان خاصة، من الشعارات الغربية التي يستخدمها الغرب ساتراً لصرف الأنظار عن أهدافه الحقيقية.
لقد استفادت القوى الإمبريالية من التناقض الجذري بين القوى الإسلامية – وهي خليط بين التطرف والإعتدال – وبين القوى اليسارية وتنطبق عليها أيضا وصفة التطرف الإعتدال، فقد تمكنت الأمبريالية من تفتيت الدولة الشيوعية الكبرى الإتحاد السوفيتي، مستعينة في سبيل ذلك وتحديداً في افغانستان بجماعات إسلامية، وكان مدخل الإمبريالية لقلوب تلك القوى الإسلامية هو موضوع إلغاء الأنظمة للشيوعية للدين، باعتبار أن الصراع يدور بين أهل الكتب المقدسة من جهة وبين ملحدين من جهة اخرى، فكانت هزيمة الإتحاد السوفيتي عسكرياً على يد تلك الجماعات وهي الهزيمة النكراء التي عجلت بسقوطه، ولما أنهت القوى الإمبريالية مهمة تفكيك الإتحاد السوفيتي عاد الغرب ليكبح جماح القوى الأسلامية الصاعدة المنتشية بالنصر، وأخذ في تجميع شراذم اليسار وإقناعها بأن المعركة الجديدة ستكون بين جماعات ظلامية متطرفة منغلقة الذهن تهين المرأة ولا تقيم وزناً لحقوق الإنسان وترفس الديمقراطية، وتدمر آثار الحضارة الإنسانية كما فعل المتطرفون في افغانستان وبين فكر مستنير متحرر يعلي من شأن العقل والفنون ويحترم المرأة ويساوي بين البشر في الحقوق والواجبات وغير ذلك مما يغازلون به العقل اليساري.
و أكثر ما يثير الدهشة أن القوى اليسارية بوعي أو دون وعي، بقصد أو دون قصد، بلعت هذا الطعم وأخذت تخدم خدمات مجانية للمشروع الإمبريالي ولشعاراته بصورة لم يحلم بها، وأخذت تساعده في إكمال عمليات الإحتيال والنصب والتفتيت والتجزئة للشعوب، ولم يعد اليسار هو اليسار الذي عهدناه، داعيا إلى التحرر من التسلط والهيمنة وعدواً لدوداً للأميريالية، بل اصبحنا نرى أفراده مجرد (شيالين) في الكورس الامبريالي يؤدون مقطوعاته بحماس يحسدون عليه.
وحتى نكون أكثر تحديداً سنستعين هنا بفقرة جاءت في مشروع برنامج الجزب الشيوعي الخامس يستدل منها أن إدراك قوى اليسار في السودان لهذه الحقائق أمر قائم، لكن ما يحير هو أن التعامل معها يحدث باسلوب إنتهازي يطوع المبادئ التي اعتنقوها لسلطان القوة المادية الغاشمة، فقد جاء في الفقرة المشار إليها ما يلي:
(انفردت الولايات المتحدة بموقع الدولة العظمى، بإستراتيجيتها المتمثلة في مواصلة هيمنتها على مصادر الطاقة وعلى حلف شمال الأطلسي وتفوقها العسكري على القارة الأوروبية والعدوان على الشعوب تحت سيف محاربة الإرهاب وشعار " من ليس معنا فهو ضدنا ").
ونلاحظ في هذه الفقرة وعياً وفهماً لأبجديات اللعبة، بل أن الفقرة التالية تذهب إلى مدى أبعد إذ تبشرنا بنجاعة التحليلات الماركسية لمواجهة هذا السطو على خيرات الشعوب وحرية أفرادها، تقول الفقرة:
(ويتأكد يوماً بعدآخر أن ما حققته الرأسمالية من طفرة في تثوير القوى المنتجة وفي إنتاجية العمل، لايلغي جوهر الرأسمالية في الاستغلال الطبقي، ونهب خيرات الشعوب وتهديد السلام العالمي، ولا يلغي استنتاجات الماركسية الأساسية، بل يؤكد جدوى الماركسية وفاعلية منهجها ومقولاتها)
لكن الواقع يمد لسانه ساخراً لجدوى الماركسية وفاعلية منهجها ومقولاتها ويحول كل ذلك إلى حبر على ورق وترف فكري مكانه بطون الكتب، إذ أن الوقائع الماثلة تشير إلى أن التعاون مع الأمبريالية من قبل يساري السودان قد ذهب مذهباً بعيداً واصبحت بعض مراكز أبحاثهم وأشهرها لا ترى حرجا في القبض بالدولار من الخزينة الأمريكية لتمويل أعمالها وأبحاثها. والمعروف أن من يمول لا يمول لوجه الله و لا يخدم أجندة متلقي التمويل بل يخدم أجندته هو، وما متلقي التمويل عنده إلا مغفلاً نافعاًا. إذ لا (تكية ) في الفكر الإمبريالي.
وقبل أن تتحول مراكز أبحاث أهل اليسار إلى يتيم على مائدة لئيم، كان واحد من كبار رموزهم وهو جون قرنق، يركل كل أطروحاته اليسارية وييمم صوب الغرب طالباً الدعم المادي والمعنوي لمواجهة ما اسماه بالأسلمة والتعريب والتهميش في السودان، فوجد نصراء له من قبل مجلس الكنائس العالمي والبارونة كوكس ومادلين اولبرايت، وتعامى جمعهم عن قميصه الأحمر، وغفروا له صداقته القديمة مع الماركسي منقستو هيلا ماريام حليف الإتحاد السوفيتي الأول في أفريقيا والذي منحه القواعد والمأوى. غير أن قرنق كان براغماتياً من الطراز الأول يغلب منطق كراسة الحساب على منطق كراسة الأشعار، فسرعان ما خلع قميصه الأحمر ووضع كتاب رأس المال على الرف ونفض الغبار عن الإنجيل، لذا آزرت تلك الفرقة قرنق ولمعته، بنفس القدر الذي لم يقصر فيه اليسار السوداني في مساندته ومعاونته وجرى كل هذا في صورة نادرة من التناغم الهارموني بين اليسار واليمين واصطفاهم في جبهة واحدة لدعم قضية من القضايا التي تهمهم.
وسنقدم هنا نماذج أخرى للتعامل اليساري مع بعض القضايا السودانية، يتضح فيها الإنسجام الكامل بين اليسار و القوى الأمبريالية وأنها تستخدمه كمخلب قط لخدمة أهدافها، ومن ذلك:
1 - قضية البترول في السودان
2 – قضية تفتيت النسيج الإجتماعي السوداني،
ونبدأ بالبترول، فقد حاولت القوى الغربية ومعها المعارضة الداخلية – وفي مقدمتها اليسار – وأد حلم استخراج البترول السوداني، وسنستعين هنا بما خطه الباحث د. جعفر كرار أحمد في بحثه القيم التعاون الصيني – السوداني في قطاع النفط، النشأة والتطور.. الفرص والتحديات، دراسة تحليلية، وهو باحث غير محسوب على الحكومة متخصص في الشئون الصينية العربية، يقول الباحث:
(وفي الواقع كانت القوى الداخلية والخارجية تستهين بشكل كبير بقدرة حكومة الخرطوم على استخراج النفط حيث اعتبرت المعارضة الداخلية في السودان أن حديث الحكومة عن استعدادها لاستخراج النفط هو من باب الدعاية السياسية فقط بينما كانت الشركات الغربية الكبرى مثل شيفرون ترى من الصعب أن تنجح حكومة الخرطوم في استخراج النفط في ظل ظروف الحرب في الجنوب والحصار الدولي المفروض على الحكومة.
وعندما أدرك الجميع أن الحكومة السودانية تتجه حقيقة لاستخراج النفط بدأت عدة جهات دولية وإقليمية ومحلية حملة إعلامية وسياسية ودبلوماسية وعسكرية لعرقلة جهود الحكومة لاستخراج النفط أو وقف تدفقه وقد افتتحت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحملة وذلك عندما أجاز الكنغرس الأمريكي في 3/نوفمبر 1997 قانون سلام السودان حيث حرم الأمر التنفيذي رقم 13067 الشركات والأفراد الأمريكيين من تقديم معاملات أو تسهيلات مالية تساعد السودان على بناء البنية الأساسية الخاصة باستغلال النفط مثل تمويل أو مد أنابيب النفط.
وقد سبق هذا القانون حملة بدأها في عام 1996 عدد من منظمات حقوق الإنسان والمنظمات المسيحية مثل العون المسيحي Christian Aid والبعثة الإنجيلية الأمريكية، ضد صناعة النفط السودانية ومارست ضغوطا على شركات النفط العاملة في السودان للخروج من السودان. حيث تحولت كجزء من هذه الحملة شركة أراكس الكندية التي كانت تعمل آنذاك في السودان إلى موضوع رئيسي في الإعلام الكندي.) انتهى النص
إذن فقد توجهت الآلة الإعلامية الغربية ودارت عجلتها لتوجيه الأكاذيب ويستطرد الباحث في هذا الصدد:
(أشارت تقارير أمريكية وغربية أخرى إلى أن هناك أكثر من 40 ألف جندى صيني يقاتلون قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب. ونقلت صحيفة الشرق القطرية عن صحيفة الديلي تلغراف قولها" أن الخرطوم أصبحت بوابة الجيش الأحمر للقارة السمراء وأن ما يحدث هناك هو اتفاق بين الشيوعية والتطرف الديني".
وفي سياق آخر من البحث جاء فيه:
(ومع تصاعد الحملة الغربية ضد الاستثمارات النفطية في السودان خصصت صحيفة انترناشوينال هيرالد تربيون الصادرة في 17-18 مارس 2001 افتتاحيتها للاستثمارات النفطية في السودان وذكّرت افتتاحية الصحيفة هذه الشركات "بحرق القرى في جنوب السودان لفتح الطريق أمام الشركات مشيرة إلى إزالة قرية Chotyiel من الوجود بعد أن تم قصفها بطائرات الهيلوكوبتر المزودة برشاشات". ودعت الصحيفة إلى منع الشركات التي تعمل في السودان من تسجيل أصولها في البورصة الأمريكية) انتهى الإقتباس. .
هذه بعض المواقف الأمبريالية من قضية النفط في السودان، و هنا يفترض من القوى اليسارية المعارضة والمنضوية تحت راية التجمع الوطني الديمقراطي التي تدعو إلى التحرر من الهيمنة الغربية أن يكون لها موقفاً مختلفأ عن الموقف الإمبريالي الذي يسعى لخدمة مصالحه، موقف توازن فيه هذه القوى التحررية بين عدائها للأسلاميين من جهة ومواقفها المبدئية الرافضة للهيمنة الغربية وحق الشعوب في التحرر والإستفادة من ثرواتها من جهة أخرى، لكن هذا التوازن لم يحدث، يقول الباحث:
( إلا أن موقف المعارضة السودانية بشقيها الشمالي والجنوبي لم يكن مختلفاً عن الموقف المصري آنذاك، فالمعارضة الشمالية وعلى رأسها التجمع الوطني الديمقراطي التي وما أن أدركت أن حديث الحكومة حول استخراج النفط ليس للدعاية السياسية، وأن زمان تصدير النفط قد اقترب حتى بدأت حملة إعلامية ودبلوماسية واسعة ضد الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع فأصدر التجمع في يونيو 1997 ومارس 1998 على التوالي عددا من التحذيرات ضد الدول والشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط معتبرها أهدافاً عسكرية مشروعه. كما اعتبر الدول التي تدعم حكومة الخرطوم ماليا وعسكريا شريكة في الحرب على شعب السودان وذلك في إشارة واضحة للصين. بل ذهب التجمع أكثر ليعلن أنه" لن يعترف بالاتفاقيات التي تبرمها هذه الدول والشركات مع النظام الحالي.
وقد حاول فاروق أبو عيسى أحد قيادات التجمع أن يقدم تفسيراً لموقف التجمع من الاستثمارات الدولية في قطاع النفط فأشار في حديث لمجلة المجلة إلى " أن من الطبيعي أن يسعى التجمع لاعاقة مشاريع نظام الجبهة الإسلامية لأن هذه المشاريع تهدف بالدرجة الأولى لتثبيت أركان النظام وتقوية آلياته وأجهزته القمعية لقهر الشعب
هذا وقد اتبع التجمع أقواله بالفعل في سبتمبر 1999 عندما أعلن عبد الرحمن سعيد المتحدث باسم القيادة العسكرية للتجمع أن قوات تابعة للتجمع قد فجرت خط أنابيب النفط بالقرب من مدينة عطبره في شمال السودان. وقد استمر التجمع ينتقد وإلى وقت قريب دور الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط..
الحركة الشعبية لتحرير السودان اعتبرت هي الأخرى آبار ومنشاءات النفط أهدافاً عسكرية بل اعتبرت أن وقف إنتاج النفط من أهم شروط وقف إطلاق النار وبدء المفاوضات بينها والحكومة للتوصل إلى تسوية سلمية للنزاع وبالفعل دارت عدة معارك في مناطق بالقرب من منشاءات النفط. وكان المتحدث باسم الحركة الشعبية ياسر عرمان قد أعلن في يونيو 2000 أن اندلاع المعارك أرغم الحكومة على إغلاق ستة آبار نفط في منطقة هجليج" وقال بيان الحركة آنذاك" إن إغلاق هذه الآبار يشكل بداية النهاية لأكبر عملية تبذير للموارد لأصولها في البورصات الأجنبية وبيع أسهمها لمساهمين في الولايات المتحدة.) انتهى النص
ومما يجدر بنا ذكره أنه وعند صدور العقوبات الأمريكية على السودان في 2007 اصدرت سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني بيانا بتاريخ 4 يونيو 2007 جاء فيه:
( الأثر السلبي لهذه العقوبات ستتسع دائرته في حالة نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في إقناع الاتحاد الأوروبي للانضمام إليها. وسيكون هذا الأثر أكثر اتساعاً في حالة تبني مجلس الأمن لهذه العقوبات. ويصبح الحصول على التكنولوجيا المتطورة من المصادر الأمريكية والأوروبية متعذراً ومن ثم توجه البلاد للاعتماد على التكنولوجيا الأقل تطوراً كالتكنولوجيا الصينية فيتضرر كل الاقتصاد الوطني وعلى وجه خاص قطاع النفط. ظاهرة النضوب السريع لبعض آبار البترول هي من أحد جوانبها ناتجة من استخدام التكنولوجيا الصينية غير المتطورة تعمل على تخريب آبار النفط وتهدد مستقبل تطور هذا القطاع.)
هذه فقرة جاءت في ذلك البيان. ومن الطريف ملاحظة أن الحزب الشيوعي السوداني اصبح من المروجين للتنكلوجيا الرأسمالية وينصح بضرورة استخدامها، وفي نفس الوقت يقلل من قدر التكنلوجيا الواردة من دولة شيوعية، والسؤال هو: طالما أن التكنولوجيا الرأسمالية بهذا الجمال والكفاءة وفي المقابل تبدو التنكلوجيا الشيوعية رديئة، لماذا الأصرار على السيير في طريق الشيوعية ونبذ طريق التطور الرأسمالي؟
قدمنا فيما سبق قصة النفط نموذجاً لإختلال موازين اليسار، أما نموذج الإختلال الثاني فهو ركوب القوى اليسارية موجات تمزيق النسيج الإجتماعي في السودان، وقد بدأت هذه المحاولات حتى قبل وصول الأسلاميين للحكم، ويشمل ذلك كل ما يوصف في أدبيات اليسار (بالمسكوت عنه)، ويجرى النبش في هذه الأمور على مستويات عدة:
1- المستوى الاجتماعي:
ويهدف النبش هنا إلى ضرب العلاقات الأنسانية بين افراد المجتمع وفتق ما التأم من جراحها، ومن احب الميادين إليهم في هذا الشأن (ميدان) قضية (الرق) ومن اشهر الكتب التي نشرت بخصوصه كتابين هما: (مذبحة الضعين – الرق في السودان ومؤلفاه هما سليمان بلدو وعشاري أحمد محمود والكتاب الآخر هو علاقات الرق في المجتمع السوداني ومؤلفه محمد إبراهيم نقد
2 – المستوى الجغرافي:
ويجري إدارة هذا المستوى بإثارة قضية المركز ضد الهامش وإخراجها عن سياقها وجعلها قضية عرقية من خلال الزعم بان المركز خاضع لسيطرة أعراق معينة تستنزف إنسان الهامش وتجعله مجرد أداة لخدمة مصالحها وعمدة اليسار الأساس في هذا الشأن كتاب السودان / حروب الموارد والهوية ومؤلفه هو د. محمد سليمان محمد.دار كامبردج للنشر - المملكة المتحدة. و هنا تلخيص الأستاذ محمد الحافظ حامد عبد الله الوارد بموقع (اركماني) للكتاب وفيه:
(تطرق الكاتب في جوانب كثيرة للاختلالات الهيكلية بين المركز والهامش فيما يتعلق بتوزيع السلطة والثروة والظلامات التاريخية لأهل الهامش وفقاً للمحاور التالية:
أ - الخلل الهيكلي في توزيع الثروة والسلطة.
ب - انعدام التنمية الشاملة والخدمات في هذه المناطق.
ج - هيمنة نخب المركز على مقدرات وموارد السودان.
د - الأخطاء التاريخية ومحاولة نخب المركز فرض ثقافة أحادية لمناطق تمايز ثقافي.
ه – غياب طرح حلول دائمة قائمة على أسس العدالة والحرية والديمقراطية)
3 - المستوى الثقافي:
ويجري النبش هنا بإثارة قضية الهوية العربية كنقيض للهوية الأفريقية وفي هذا السياق تستخدم شماعة التخويف من الأسلمة والتعريب لإثارة هواجس المجموعات العرقية المحتلفة حيث يزعم اليسار أن الأسلمة والتعريب سيقضيان على ثقافة هذه المجموعات السكانية وحضارتها وتراثها .
فقد أورد خالد فضل في صحيفة أجراس الحرية بتاريخ الأحد 23-05-2010 بعنوان الاستفتاء.. تقرير المصير.. استقلال جنوب السودان: جدل الموارد والهوية ما يلي:
((يرد د. منصور خالد، المفكر والقيادي البارز في صفوف الحركة الشعبية بالقول: (والعنصرية هذه صفة يلصقها أهل الشمال بكل صاحب حق يناهض للمطالبة بحقه من عناصر السودان غير العربية وكلها إما حقوق سياسية أو اقتصادية لا شأن لها بالأصل العرقي أو المنبت. وفيما يبدو فإن العنجهية العرقية عند بعض أهل الشمال لم ينج منها حتى الذين ينتسبون منهم للصحوة الإسلامية، علماً بأن الإسلام دين لا يتفاضل عربه على عجمه إلا بالتقوى))
ويقول الكاتب خالد فضل في سياق آخر :
(بل في الواقع يكتشف أي مراقب عادي، أنّ مسألة الهوية السودانية لم يتم الوصول إلى صيغة توافقية حولها منذ مهد بناء الدولة الوطنية المستقلة في منتصف القرن الماضي، إذ بدأ بناء تلك الدولة على خلفية أن الهوية الوطنية هي الهوية ذات الملامح العربية الإسلامية دون أدنى اعتبار لحقيقة التكوين التعددي للمجموعات السودانية، وقد تجلى ذلك ضمن سياقات عديدة وعلى مرّ عهود الدولة الوطنية، خاصة في العهود ذات الطبيعة العسكرية والشمولية، فقد تم منع تداول اللغة النوبية بين الأطفال في المدارس في الشمال الأقصى، وتم إرغام الأطفال في بعض مناطق جنوب السودان على تغيير أسمائهم ودياناتهم حتى يتسنى لهم الالتحاق بالتعليم الحكومي النظامي)
ولاحظوا معي مسألة منع تداول اللغة النوبية، ولا ندري متى حدث ذلك، وهي محاولة لإثارة النوبيين. ومثلها الإدعاء بإرغام الإطفال في جنوب السودان على تغيير اسمائهم القبلية لاسماء عربية ليلتحقوا بالتعليم الحكومي، وفي هذا السياق فقد شاهدت برنامجا تلفزيونيا بثته قناة بي بي سي قال فيه قاروق جاتكوث احد القادة الجنوبيين وبصورة غاضبة أن اسم (فاروق) منحه له مدير المدرسة وهو رجل شمالي.
هذا الطرح وهذا الغضب لتغيير الاسماء لا يظهر أبداً عندما تقوم الكنيسة مثلاً بتغير ديانة الأفراد واسمائهم، فلا مشلكة مع اسم جون او بيتر او سايمون او ميري، ولا مشكلة في الإنتقال من الآلهة المحلية إلى ديانة أخرى، لكن المشكلة وجدل الهوية يثاران من قبل اليسار حين يكون الأسم فاروق او عبد الله
4 - مستوى التضاد بين المصالح القومية والمصالح الخاصة:
يجرى العزف على وتر التضاد بين مصالح مجموعات سكانية معينة والمصلحة القومية الكبرى بصفة لا تخلو من تواتر بين مثفي اليسار، باسلوب تخويف هذه المجموعات من الآثار المترتبة على قيام بعض المشاريع القومية وتحريضها لمنع قيام تلك المشاريع. ومثال ذلك سد كجبار، كما يجب ألا ننسي جملة التشكيك التي قامت عند إنشاء سد مروى.
ونحن نختم هذا المقال لا شك لدينا بأن سعادة القوى الغربية بهذا العمل الدؤوب من قبل قوى اليسار لا توصف، فالإمبريالية تجني الثمار دون ان تفرز نقطة عرق واحدة، إذ أن الجواد اليساري يجقلب والشكر لحماد، وكما قال معاوية بن ابي سفيان حين بلغه موت مالك بن الأشتر النخعي: (أن لله جنودا من عسل) في اشارة لشبهة اغتيال، لذا فإن الإمبريالية تقول لنا اليوم ونحن نشاهد ثمار أفعال اليسار (إن لليمين جنودا من يسار) ولله درهم من جنود


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.