[email protected] زارت كريمتي السودان وعمرها آنذاك سبع سنوات. سألتني بإنجليزية أهل لندن: يا بابا إنهم يبنون في الخرطوم أكثر مما هو في لندن؟ فكيف ذلك ويقولون أن السودان دولة فقيرة؟ حاولت أن أشرح لها الحالة ببساطة شديدة تتناسب وعقلها. فالملاحظ أن هنالك تنمية عمرانية لا تتناسب وحالة البلاد المالية الاقتصادية! فكيف يستقيم ذلك؟ يرد البعض أن السبب هو: أن الإستثمار العقاري هو أضمن أنواع الإستثمار. لا نجادل في هذه الحقيقة، لأن رأس المال جبان. لكن السؤال المُلِح هو: من أين يتأتى لمن يقومون بالبناء الحصول على هذه الأموال التي يبنون بها شاهق العمائر؟ المعروف أن اقتصاد الدولة يقوم على الإنتاج بأنواعه حسب وضع الدولة. فلكل دولة وضعاً متميّزاً تستغله بتوفير الإمكانات التي تساعد على نهوض ذلك التميُّز وتعمل على تطويره مع ما يتناسب مع حاجة مواطنها. فدولة ذات إمكانات زراعية مثل السودان كان لا يجب عليها الإلتفات لغير الزراعة سبيلاً للنهضة. ليس من المهم أن يتم تصدير الإنتاج الزراعي خاماً أو مُصنّعاً. فلو سمحت الإمكانات بقيام صناعة تحويلية للمنتج الزراعي كان بها وإلا فالتصدير خاماً هو ما يعود على الدولة بالمرجو من الدخل لتعمل على توفير الخدمات لمواطنيها. السودان دولة تفتقر لأدنى مقومات الصناعة. تبدأ مقومات الصناعة وتنتهي بالطاقة الرخيصة. ونحن في السودان لدينا أغلى كهرباء في العالم، والمعلوم أن الكهرباء هو عصب الصناعة. ورغم إرتفاع تكلفة الكهرباء فإنها لا تتوفر بالكميات المطلوبة من قِبل المصنِّعين. ولهذا تفشل الإستثمارات الصناعية عندنا. كما أن التعقيدات الإدارية والروتين الحكومي مع الضرائب والجبايات غير المقننة التي تُفرض على المستثمرين المحليين والعالميين تجعل من الإستحالة بمكان الإستفادة من الإستثمار ولهذا يهرب بعض المستثمرين السودانيين إلى إثيوبيا مثلاً. ومن تضطرهم الظروف للبقاء والإستثمار في السودان فإنهم يلجأون للإستثمار العقاري. وهذا هو سبب تطاول البنيان في الخرطوم بالذات حيث يفضلها المستثمرون في العقار لأسباب بدهية. لكن بكل أسف فإنّ تلك البنايات الاسمنتية التى جعلت من الخرطوم منافساً عمرانياً لدول البترودولارلا تعنى الشعب السودانى بل تعني 5% من مافيا النظام المرتبطين به إرتباط الدم بالشرايين. أما بقية الشعب السوداني الفضل والتى تُشكِّل نسبة %95 فلا ناقة لها ولا جمل في الأمر . إنها عصابات القوات النظامية ووكلائهم من بعض المدنيين من أقاربهم وأصهارهم، ولا علاقة لها بنهضة اقتصادية للوطن. إنها النتيجة الحتمية لنهب موارد البترول السودانى من قِبل فئة لا تتجاوز نسبتها ال %1 من الشعب المنكوب بالإنقاذ يضاف اليهم مبتدعي التسهيلات وكبار رجالات مافيا النظام. وللاسف هذه الفئة الفاسدة تمثل رمزياً ثلاث فقط من قبائل الشمال. باسم قبائلها استغلت الوضع لصالحها وزبانيتها، وقبائلها منها ومن تصرفاتها بُراء. واليك مظاهر نشاطها خلال الخمس وعشرين عاما منذ توليها دفة الحكم فى عهد الإنقاذ: 1- إحتكار القيادة العسكرية لمؤسسات الجيش والشرطة. 2- تسخير سلطة الجيش والبوليس لصالح هذه الفئة. 3- توريث و تعيين الضباط والتمييز فى تمكينهم. 4- عزل الشعب السودانى عن مواقع السلطة. 5- إستبعاد كل من لا يمت اليهم بصلة حتى وإن كان أكثر كفاءة ومعرفة. 6- تصنيف المواطنين الاخرين كغرباء بل معظم أهل الهامش بأنهم لا يشبهونهم مما جميعه 7- خلق عداوات بائنة مع فئات الشعب المطالبة بحقوقها بدون مبرر واضح. 8- المحسوبية في كل ما يتعلق بأمور الدولة خاصة البعثات الأكاديمية للدراسات العليا، الاختيار الديبلوماسى فى الخارج. 9- لا يتم التدريب القيادى والمهنى إلا وفق ما يتطابق مع مصالحهم ومصالح زمرتهم. 10- إحتكار قيادة التنظيمات الإجتماعية والدينية ومصادر دعمها الخارجية، وتجييرها لمصلحة المافيا التي تتوالى مع مصالحهم الشخصية. خلاصة القول أن الخرطوم العاصمة هي مركز مافيا قبلية عسكرية مترابطة ومتوارثة منذ عهد الإستعمار بغض النظر من يحكم السودان. لكن الحال إزداد سوءً باستلام الإنقاذ لزمام الأمور خلال ربع القرن الماضي. سخّرت هذه المافيا كل عبقريتها للإلتفاف حول السلطة الحقيقية للبلاد. ودائماً ما تعتمد على طفيليين إنتهازيين يرعون مصالحهم ومصالح أولياء نعمتهم قبل مصلحة الوطن والمواطن.