أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ورقة سياسية هامة لفيصل مصطفى : جديرة بالقراءة والمناقشة من كافة قوى التغيير
نشر في حريات يوم 14 - 06 - 2014


(حريات)
بِلا تحفُّظ
مداخلات على مدوّنة التسوية السلمية لأزمة الحكم في السودان وقضية التغيير
فيصل مصطفى
توطئة :
إنّ ما يسعى المؤتمر الوطني الحاكم لإنجازه عبر مساعيه الجارية منذ مطلع هذا العام تحت مسميات الحوار والتفاوض والوفاق الخ.. لا يعدو – في تقدير أغلب المراقبين – أن يكون ضرباً من ضروب الإلتفاف التاكتيكى لتطويق الأزمة المركّبة،وفق أنموذجٍ مصمّمٍ للتعامل مع مظاهرها، دون الأسباب،وللتعاطى مع كيانات المعارضة السياسية السلمية والمسلحة، بمعايير إنتقائية لا لبس فيها ولا التباس، فيما يتصل بالمدلول الطبقى الإجتماعى ومكنوناته الأيديولوجية إزاء فلسفة ومفاهيم مسألتي الدولة والسلطة في إطار خارطة سودان ما بعد الإنفصال.
هذا و على الرغم من مظاهر التشويش والغرور التي شابت هذا التعاطي و لا تزال،فقد خطر ببالى الإعتقاد بأنّ التوجُه في مجمله لربما ينطوي على قدرٍ من الإذعان العقلانى لحكم الضرورة القاضى بالإنصراف عن دوغما "ثوابت الدولة الدينية"التي لم يعد بإمكان غلاة المكابرين من دعاتها دحض الوصف اللائق بها بعد ربع قرنٍ كاملٍ من الإرتجال والتطرٌف:محض أضغاث أحلام!
لكن يبدو أن تلك الخاطرة لم تكن صائبةً إلا فى نطاقٍ محدود يقتصر على ما انصدعت عنه الضمائر المؤرقة لقلّةٍ لا تذكر من مفكرى الحركة الإسلامية السودانية المعاصرة, إذ أن الأدلة الظاهرة للعيان تشير لغير ذلك. وهى ذات الأدلة التى تعزز الإستنتاج بأن الأمر برمته لم يختلف عمّا خلصت إليه فطنة السواد الأعظم من غمار الناس فى السودان: محض مكرٍ وخداع.
وهو استنتاج استخلصته قريحة الشعب من أحشاء التجربة المريرة مفاده أنّ مشروع التمكين قد تصدّع و بات يومضُ بما لا تُحمد عقباه بالنسبة للنظام الحاكم بل وللدولة ذاتها، بقرته الحلوب, فوثب لإنقاذ حياتهم تلفِعاً، هذه المرة، بعباءة أهل العروة الوثقى، أولياء الدم ، ممَن إختصَتهم مراسم اجتماع (الوثبة) الشهير في 27 يناير 2014 بتشريفات رقاع الدعوة المميزة و بروتوكولات الإجلاس في بؤرة الضوء (الرئاسية)،لإضفاء دلالةٍ لم يغِب مغزاها منذ الوهلة الأولى عن كل من تابع ذلك الحدث حياً على الهواء.
ولعلَنى قد أخطأت التقدير مجدداً بأن ذلك الإجتماع بقاعة الصداقة فى27 يناير قد كان بمثابة جرعة مركّزة من الإفصاح عن النوايا التي سرعان ما تلتها أخريات في الخرطوم وأم جرس والدوحة إستدراكاً لأهميةِ وضع الأمور في نصابها، وتسمية كل شىٍء بمُسمَاه الصحيح، لما فيه خيرحزب المؤتمر الوطني بالدرجة الأولى، وخير شركائه، بل و خير معمار مجمل البنية السياسية الفوقية، التي لا يجوزالتغاضي عن بدهية تجلي برامج أىٍ من أحزابها وتنظيماتها، معارضةً أو موالاة،عن بصمة مورّثاتها الجّذعية الإجتماعية، وشفرة جيناتها المذهبية والفكرية والسياسية.
والحالُ أنَ ما عنيته بمُصطلح (الخير) الذي يعود على الحزب الحاكم و شركائه و على مجمل البنية السياسية الفوقية ، مردٌه التعويل على فرضيةٍ متفائلةٍ بإفاقة النظام من غيبوبة الزمن الذي ولَّى،والتسليم عوضاً عن ذلك بتحديات عصر العولمة والمعلوماتية التي لا قِبل لسلطةٍ زمنيةٍ بتجاهل جدِيتها، وأبعاد تأثيرها الفعَال في حقل المعرفة والإستنارة ، مهما توافر لديها من أدوات التزييف، أو ترسانة الكوابح والمصدَات.
هذا وإن أسفرت الأحداث الماضية والجارية عن خيبة التعويل المتفائل, فالعزاء أنها ليست نهاية المطاف.وبمثلما علّمتنا الدنيا أنّ الأيام دول, فالمستقبل القريب قمينٌ بتوضيح أنَ التمادى في الإستخفاف بوعي الجماهير الشعبية السودانية أو الإستعصام بآلة البطش والتنكيل بالخصوم والمعارضة السياسية مما لا يمكن الركون إليهما إلى ما لا نهاية سيما وأنَ القوى الثورية المنبثقة من أتون الحراك العنيف في الريف، والطاقة المتجددة لكادحى المدن, قد أضحتا بالفعل قاب قوسين أو أدنى من إنجاز الإنقلاب الإستراتيجى فى موازين القوى لصالح تلاحمهما المرجح انتصاراًلقضايا التغيير الشامل.
على أشكالها الطيور تقع،و كذا الحال بقوى المجتمع: ففيم الحيرة؟
(أحمق من هبنّقة) ذلكم الذي يطلق العنان لخياله بإمكان إكمال مشوارٍ طويل فيما يُطلق الرصاص على أقدامه هو بالذات. فحزب المؤتمر الحاكم, قرين هبنّقة, وهو على دفة القيادة الفعلية لقوى اليمين السودانى بكافة ألوان طيفه، مُطالَبٌ أن يعالج معطيات أزمته الماثلة من منطلق الإختيار الواعي لآفاق الخلاص التوافقي بينه و شركاء المصير الفكري والإجتماعي،و ليس من قبيل الإلتفاف عليهم أو على سبيل الإرتداد على محاور الإكراه السياسى.
وإن شاء استدامة بقائه على تلك الدفة لشوطٍ جديدٍ في مضمارٍ أشدُ وعورةً من المضمار الذي انطوى، فمن الضرورى – ابتداءً- أن تُحظى وسائط انتقاله الحيوية بصيانةٍ شاملةٍ تضبط أداء ماكيناتها و تُعدِّل من ضغط دواليبها بما يلائم الشوط المقبل من سباق الضاحية الشرس،بل وربّما التناحري،ضد فِرقٍ صبيّةٍ،ولّادة، سخيَة العطاء ، طويلة النَفَس، ليس لديها ما يمكن فقدانه جرّاء النِزال المهول سوى ركام التهميش الإجتماعى المزمن وأثقال سيطرة الإقتصاد الطفيلى وديماغوغية الإسلام السياسى الفجَة، خبراً ومبتدأ.
وبالتإلى فخيار الحكمة يقتضي أن تجتمع على صعيدٍ واحدٍ كل القوى التقليدية والراديكالية المحافظة, لترفع آذان برنامجها الفكري والإجتماعي, وترمي بقفاز التحدى لمن شاء التقاطه من القوى المقابلة لإدارة الصراع وفق أصول الديمقراطية الليبرالية ومتلازمات منهج التداول السلمي للسلطة على حلبة السجال السياسى من حيث هي أخذ وعطاء، يوماً لك ويوم عليك, رغماً عن إدراكنا لمثالب التنزيل الحرفى لآليات الديمقراطية الليبرالية (وستمنستر) على بيئةٍ كبيئتنا تفتقر الى المقومات التاريخية الضرورية لتبنّى وإستقرار وازدهار مثل هذا النظام السياسى.
وإن كان ثمة من ضارة نافعة فى هذا السياق،فذلك يتمثّل فى أنّ من شأن هذا النهج بالجهر الجريء التمهيد لإنتاج طبوغرافيا سياسية واضحة التضاريس , إذ أن الخارطة السياسية الوطنية ، بصرف النظر عن المردود السلبي المباشر لمثل هذا الإتحاد المحافظ على المدى القصير، ما تلبث أن تستقيم على إحداثيات سليمة تفضى بكل برنامجٍ وحزبٍ أو تحالفٍ إلى مواقعه الطبيعية من مضمار السباق على المدى البعيد. وما من مأخذٍ البتة فى اتحاد المحافظين تحت أى مسمى جاء ذلك الإتحاد, بل تشتد الحاجة إليه فى السودان اليوم أكثر من أى وقتٍ مضى,شريطة نبذهم نمط الإثراء الطفيلى واستغلال نفوذ الدولة, وشريطة انفتاح أذهانهم على مستجدات العصر ومقتضيات الأهلية لنادى أقرانهم فى شتى دوائر الرأسمالية العالمية المنتجة, والأهم من ذينك الإثنين معاً, شريطة تسليمهم بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
وكما لكلِ فعلٍ في الطبيعة ردُ فعلٍ موازٍ له في القوة ومضادٍ في الإتِجاه، فإنّ ذات القانون ينسحب على معسكر القوى الليبرالية والوطنية الديمقراطية التي لن تقف مكتوفة الأيدى بطبيعة الحال.فعليها بالمثل واجبات جِسام تقتضي منها ألا تركن لمسلَمات "الإستلاب القدري" أو جدليات "الحتمية التاريخية" التي لم يشهد التاريخ البشرى مثالاً واحداً لتجلّيها بمعزلٍ عن إرادة الفكر الخلاّق الملقّح بالفعل السياسي العملي المنضبط. ففيما عدا نماذج معدودة في قارات الأرض المأهولة، لا تزال الأكثرية الساحقة من شعوب الدنيا عاجزة إلى يومنا هذا عن تحقيق أمانيها المشروعة في السلم والحرية والمساواة والديمقراطية الإجتماعية ، بل وليس في الحسبان أن يتأتى لها الإفلات من قبضة جلادي أحلامها متماثلي السمات, باختلاف السحنات والأعراق والأديان والألسن, أو الإنعتاق من نير الفقرالمدقع والعوز،دون استصحاب هذين الشرطين بمرونةٍ وسعة حيلة: الفكر والتنظيم.
بالفكر والتنظيم تتوفر المادة الأولية لعملية البناء وفق أى أنموذجٍ ملائمٍ تأسيساً على عوامل الموارد الممكنة والزمن المتاح فى المعادلة الجبرية لإرتباط النتائج بالمقدمات, ومتانة الجدار ليست إلاّ من سبك اللبنات وعمق الأساس.وخلاصة القصد هنا أن إعادة بناء البيت السودانى تأتي على رأس قائمة الأسبقيات إن أراد أهله البقاء بين جدرانٍ تصد عنهم جميعاً عاديات الزمن الذي لا يرحم من يخطىء الحساب. ولعلَ المسؤلية العظمى بهذا الشأن تقع على عاتق الحزب الحاكم سيما وهو المتسبب الكلّي فيما آل إليه البيت بعد أن أضاع ثلثه الأوفر ضرعاً وزرعاً، وأهدر حرمة كامل ترابه الذي بات نهباً مستباحاً لكلِ من هبّ ودبّ من دول الجوار أوأعالي البحار. ويلي الحزب الحاكم في صراط ذات المسؤلية الجسيمة، أحزاب الطائفية التقليدية والمؤتمر الشعبى وأفلاك الحركة الإسلامية السابحة أو السائحة- لا فرق – في ذات المجرًة الجهنّمية التي أطبقت على الوطن منذ "الجلاء" (1955) وحتى هذه اللحظة (ستون عاماً تقريباً) عدا عن ثمانِ سنواتٍ وأشهرٍ ثلاث (مايو 69 – أغسطس 77) كانت فيها النكبة من طرازٍ آخر شاءت القومية العربية أن تطلق عقالها المقيت وهي على صهوة اتحادها الإشتراكي، وأيام ثلاثة أخرى يتيمة في يوليو 71،دارت وبالاً على عنفوان الحزب الشيوعي وبرنامج الجبهة الوطنية الديمقراطية على النحو التصفوي المعروف بما لا يستدعى الإستطراد.
الشاهد والكلام على السجيةِ عن مسألة إعادة البناء وجدول الأسبقيات، تُلحُّ على البال جدوى تشديد الدعوة إلى انتظام مكونات حركة الإسلام السياسى وآبائها البيوليجيين والروحيين ، في معسكرٍ واحدٍ للقوى المحافظة بقيادة أجدرهم أهلية ودايناميكية, ألا وهم أقطاب جبهة الميثاق الذين تخلّقت أمشاجهم الجنينية في رحم المساكنة الدافئة بين المخابرات المركزية الأمريكية وشبكة الأخوان المسلمين العربية لعقود طويلة تحت ألحفة "الحرب الباردة"، قبالة تداعى مكونات الكتلة الأخرى من طلائع الطبقة الوسطى والكادحين والمهمّشين في الأرياف والمدن، إلى معسكرٍ واحدٍ للقوى الليبرالية والوطنية الديمقراطية تحت قيادةٍ مؤتلفة يتم التوافق بين ممثليها وحدهم علي مؤهلات التكليف بمهام واجباتها المنتظرة، بصبرٍ وأناةٍ على التجميع والبناء، على المساومة والتنازلات، إذ ليس فيهم ، جميعهم والحقٌ يقال ، من يملك إرثاً يُعتدُ به في معرض التفويض الجماعي التلقائي للقيادة بمن في ذلك أطولهم باعاً وأعرقهم تاريخاً ألا وهو الحزب الشيوعي السوداني، رغماً عن ظني بأن الحزب الشيوعي قد لا يستطيب مجرّد إيراد ذكره في هذا المجال، دع عنك على قدم الندية والمساواة بغيره من "المستضعفين"،وذلك تأسيساً على مجمل ردود أفعاله المشبّعة بالريبة، الموضوعية أحياناً والذهانية في بعض الأحيان، تجاه نزعات التحالف لدى شتى فصائل الوسط واليسار في انعطافات سابقة ولاحقة على انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 89.
مطلب التفكيك: لننفذ إلى لبِ مقاصده المشروعة قبل أن تذروه رياح الحوار
تعود حركة الأخوان المسلمين السودانية ، ذات الأسماء الكثر، بلا حسنٍ يُذكر ، إلى سدة الحكم اليوم ليس ببطاقة هوية رقمية جديدة فحسب، بل بكل ما تراكم لديها،عنوةً، عبر عقدين ونصف العقد (1989-2014) من غنائم السلطة المطلقة، وما استحلبته، ابتذالاً ذميماً لفقه الضرورة، من أثداء المصالحة مع مايو(77-1985)، وما سرى، قبل هذا وذاك،في شرايين مهدها وصباها من كل "محاليل التغذية" الحيوية كيفما اقتضى الظرف ، وأينما صدر القرار سواءً في أرض الحرمين أو واشنطون أو "بين سرايات" السيدين في الخرطوم درءاً لخطر الشيوعية وموجات التحرر الوطنى فى العالمين العربى والإسلامى حينذاك.
والحال إن أية صيغةٍ محتملة للشراكة السياسية مع السلطة الحاكمة اليوم على أرضية التشوهات الماثلة، وبصرف النظر عمّا ستفضى إليه مجريات الحوار المعطوب من حيث الأجندة وآليات الإدارة وخلاصة "القسمة" المعدة سلفاً وفق مكنونات مانيفيستو يناير بقاعة الصداقة ،لن تكون منصفةً لقواعد أىٍ من المقبلين عليها,مهما خلصت نواياهم، بل ومهما بذلت السلطة لهم من تنازلاتٍ، دون سقف التفكيك!
إن تساءلت لماذا؟ فإليك ما يلى من صحيفة الحقائق:
أ‌- الخدمة العامة:
- إنّ الخدمة العامة السودانية ، بشقيها المدنى والنظامى ، وهى أكبر مُخدِم في البلاد للقوى العاملة المتعلمة، أبجدياً على الأقل ، و أكبر مستهلكٍ في ذات الوقت، لموارد الدخل القومى أياً كان مصدرها، إنتاجاً وقروضاً و ضرائب وزكوات ومبيعات أصول رأسمالية ورسوم جمارك وخدمات وغرامات أو محض جباياتٍ على أرصفة المارة والطرق البرية ومعابرالولايات..إلخ, تلك الخدمة العامة قد أضحت بقضِها وقضيضها من أسلاب النظام المحصّنة بالتقادم التلقائى وبنص القانون معاً.
- باستعراضٍ خاطفٍ لتركيبة القوى العاملة من مستخدمي الدولة من شريحة الخريجين فقط على سبيل المثال ، بالإمكان ملاحظة أن من تم إحلالهم على أعتاب السلّم الوظيفي مقابل من تم تسريحهم أو من وقع عليهم "الحظر"منذ منتصف العام1989وما تلاه، وغيرهم ممّن تم استيعابهم مباشرةً في مواقع الإدارة العليا والوسيطة، يقترب أكثرهم الآن (2014) من أعتاب المعاش الإجبارى إن لم يكن قد تخطوه بالفعل إقتراناً بأعمارهم وقت التعيين، و قس على ذلك ، كيفما شئت أو شاءت لك أطيب معاذير درء الظنون بالشبهات ، لتقدير ما يكون قد ترتب عن ذلك الإستيطان المديد من حيث تراتب مستويات السيطرة الرأسية من الدرجة العاشرة وحتى المجموعة الأولى الخاصة وفق الهيكل الوظيفي للخدمة المدنية العامة، أو من رتبة الملازم حتى رتبة المشير "وإن تجاوز السن القانونية ويحمل بطاقة عضوية حزبية" في صفوف القوات النظامية،ومن حيث التحكّم إجمالاً بأهم مفاتيح الإدارة الحكومية في كافة تشكيلات الجيش وكيانات الشرطة والأمن والمخابرات والقضاء والسلك الديبلوماسي والتعليم العام وقطاعات الإقتصاد والزراعة و الصناعة والخدمات ودواوين الحكم الفدرإلى والولائى. ولعلنا لا نسهو في هذا المقام عن سخرية الأقدار التي جعلت من بعض ذلك التحصين في أجهزة الدولة نصَاً دستورياً (2005) لا يخدم في الحقيقة سوى "الدبّابين" بحمايتهم ضد التطهير أو الإحالة للصالح العام في استباقٍ ماكرٍ من نظام دولتهم لمقتضيات العدالة "حين تدور الدوائر"، وفي استهانةٍ (مستدامة) بروح ومبادىء ذلك الدستور وأى دستور جديدٍ، ما لم تتفتق الأذهان عن مخرجٍ حصيفٍ من هذا المأزق الذي يسبغ الحماية الفعلية على الغاصبين إمتثالاً لعُرف الأمر الواقع وقانون وضع اليد ، خصماً على حقوق عشرات الآلاف من ضحايا التمكين, وليس هناك من مخرجٍ دون شرط التفكيك.
ب‌- الدولة والدولة الموازية:
- توجد أدلة مادية كافية حول الأصول الرأسمالية والموارد البشرية المهولة التي تمتلكها الأجهزة الأمنية للحركة الإسلامية الحاكمة وتديرها بالكامل ، داخل البلاد وخارجها، بمعزلٍ عن إطار الدولة السودانية. بالطبع لن تعترف السلطة بوجود جهاز الأمن الخاص بالحركة الإسلامية وموارده المتاحة من تلقاء نفسها وليس من المتوقع أن يحملها على ذلك الإعتراف قسراً أى طرفٍ من أطراف الحوار، أى حوارٍ وفي أى وقت، إذ أن ذلك الإعتراف رهنُ بحيثيات أخرى، وهى حيثيات فعلٍ مختلفٍ تمام الإختلاف ليس هذا مقام الخوض فيه بأى حالٍ من الأحوال.
- أما عن الإقتصاد والإعلام فحدِث ولا حرج. مصارف وصرافات وشركات في كل القطاعات الحيّة ومجموعات قابضة ومصانع ومعامل ومزارع ومناجم ومطابع وعقارات ووكالات تجارية حصرية و استثمارات عالمية وودائع مالية في الملاذات الضريبية الآمنة ومغاسل أموال لشبكات الإجرام العالمي ومستشفيات ومدارس وجامعات خاصة و منظمات "خيرية" معفاة من الجمارك والضرائب .. إلخ مما لا يسع الحيّز حصره من منظومةٍ عكف الأخوان على تأسيسها وتنميتها بهمةٍ رساليةٍ تسندها تسهيلات الدولة بحماية وشراكة متنفذيها (راجع الخدمة العامة أعلاه)، علاوة على الترويج لأنشطتها الطفيلية والتغطية على تعدياتها على الموارد الوطنية وعلى البيئة وحقوق الأهالي و الأوقاف،عبر عشرات الصحف والإذاعات وغيرها من الفضائيات وماكينات الدعاية(المستقلة)التي تخدمها وتخدم السلطة السياسية بنفس القدر الذي تُسخّر به أجهزة الإعلام الحكومية المحتكرة للتوجيه "المعنوى" المركزى على مدار الساعة ، منذ البيان الأول للإنقلاب في يونيو 89.
- باختصار, لم تعد الدولة تملك عُشر ما أضحت تمثله إمبراطورية الأخوان المسلمين الإقتصادية والإعلامية من إمكانيات وموارد, دع عنك توظيفها الكامل للنصيب الحكومى من هذين القطاعين خدمةً لبرنامج الجماعة.
ما العمل؟
نعم ما العمل إزاء ما سبق ذكره وكل الأحزاب والحركات المسلحة مجتمعة لا تملك من مقومات العمل السياسى الضرورية شيئاً يعينها على كسب معارك النشاط الديمقراطي السلمي إبّان أو بعد فترة الإنتقال،في ظل كارثة إقتصادية مريعة ونكبة معيشية متفاقمة،حتى وإن قبل الحزب الحاكم بكل المطالب دون التفكيك الذي يعنى على وجه الدقة فك ارتباط كتلة الإسلام السياسي الحاكمة بالدولة وتصفية شبكة دولتها الموازية؟ما من إجابةٍ سهلةٍ على هذا السؤال بطبيعة الحال.فدعنا نتلمّس بعض السبل فيما نتحسس مواطىء الأقدام بحرصٍ وتأنٍ خشية الإنزلاق إلى مظان الترهات والشطط.
أولاً: فيما لا يرفض أى إنسان سوِيّ العقل و الوجدان مبدأ الحوار كسبيل للتسوية السياسية، ليس من الحكمة في شيء التعويل على تحقيق إختراقٍ خاطفٍ يُرضى أطراف الأزمة السودانية المعقّدة بين ليلةٍ وضحاها، تأسيساً على محاذير مجرياته في ظلِّ التباسٍ ظاهرٍ حول تقدير موازين القوى و اعتلال "إجماع" قوى الإجماع الوطنى. سيستغرق الحل السلمى زمناً من العسير ضبطه وفق جدولٍ تاريخىٍ محدد.هذا يخضع لمؤثراتٍ ودايناميكيات متأرجحة سلباً وإيجاباً خارج أروقة الجدال. وعليه,فلا بُدَ مما ليس منه بدٌ في روزنامة الأسبقيات ألا وهو:
- الوقف الفورى، غير المشروط، لإطلاق النار على كل الجبهات، والفصل بين القوات.
- فتح كافة المعابر والممرات لعمليات الإغاثة الإنسانية العاجلة، براً وجواً، لكل السكان المتأثرين في مناطق العدائيات العسكرية في دارفور والجبال والنيل الأزرق.
أرواح الآدميين العزّل فوق كل اعتبار, ونجدتهم العاجلة فرض عين على كل فريقٍ وعلى رأس هؤلاء حكومة المركز وإدارات الولايات والمحليات الخاضعة لها حتى وإن دعا الحال لإعلان وقف إطلاق النار من طرفها وحده إذ هي الأقوى عدةً وعتاداً، كما وهي في مواقع الهجوم في عمق خطوط الحركات المسلحة ، بعيداً عن الخرطوم وعواصم الولايات.
ليكن هذا مدخل كلِّ من يأنس في نفسه الأهلية الأخلاقية والسياسية للتعاطي مع أيٍ من قضايا الشأن العام مثار الإهتمام الآن، وليكن هذا معيار الإختبار لجدِية النظام الداعى للحوار.
ثانياً: إن من شأن الوقف الفورى غير المشروط لإطلاق النار بكافة ترتيباته العملية، المعروفة لأطراف الصراع اليوم بحكم الخبرة السودانية المقدّرة (للأسف) في هذا المجال بالذات دون غيره من مجالات الإنجاز البشرى في معارك الحياة، من شأنه أن يضع اللبنات الأولى لصرح اتفاق السلام المنشود مهما استغرقه معمار ذلك الصرح من وقتٍ وجهد، ومهما اعترض سبيله من عقبات ومصاعب. ومن هذا المدخل ، مدخل وقف إطلاق النار وما يجب أن يستصحبه من مراسيم وإجرآت حكومية تؤذن بالإطمئنان، يمكن أن يدلف الجميع متى شاءوا, إلى باحة التداول شداً وجذباً في مسألة السلام بحسبانها المسألة الأم في قائمة "القضايا الرئيسية" التي عرضها رئيس الجمهورية مطلع هذا العام و تحظى بصفة الأولوية المطلقة بإجماع الكل، محلياً وإقليمياً ودولياً.
وإن تحرّينا الصدق مع النفس، فعدا السلام، ما من قضيةٍ رئيسيةٍ أخرى أو حتى ثانوية ، تستحق كبير عناءٍ (الآن) إذ أن الحرب التي تدور رحاها حالياً بدرجات متفاوتة في سبع ولاياتٍ قابلة للزيادة ، و تحمل ألويتها ضد سلطة المركز خمس فصائل وربما أخرى في الطريق، وتسببت في فقدان مئات الآلاف من القتلى والجرحى، وشتات ملايين النازحين داخلياً والمهجَّرين قسراً واللاجئين سياسياً وإنسانياً في شتى بلاد الدنيا حتى المحرّمة منها على السودانيين,إسرائيل!هذه الحرب التي تستنزف كلفة إدارتها الباهظة أكثر من 70% من موارد الموازنة العامة سنوياً،ورفعت فاتورة الدَين القومي الواجب السداد لحوالى خمسين ملياراً من الدولارات، وعصفت بالنسيج الديموغرافي التاريخي لأعرق المشايخ السودانية والممالك والسلطنات، وأفقرت الريف وأفرغته،وجعلت من العاصمة القومية وحدها الملاذ المريرلنحو ثلث سكان البلاد،أكثرهم تحت خط الفقر المهين لكرامة وآدمية الإنسان بحيث باتت – أى العاصمة – تبدو وكأنها المسرح القادم للصدام ، تلك الحرب , ليست بسببٍ من قطّاع طرقٍ أو خوارجَ جدد يطاردهم القانون، كما و هي ليست بين جيشٍ وطنىٍ وغزاة أجانب يأتون من وراء الحدود.
فالحرب الجارية هى شأنٌ وطنيٌ وأهلىٌّ صِرف، بِذرته وسِدرة منتهاه ، السياسة.بل هي، بحيثيات مجرياتها وملابسات تأجيجها، تقيم الدليل والبرهان على الإختلال المريع لبنية جهاز الدولة المدنية بسلطاته الثلاث،و على انتفاء صفات الحيدة القومية والإحترافية المهنية بل والشرعية الدستورية عن كيان القوات المسلحة السودانية، عقيدةً وقيادةً وممارسة، منذ أن اغتصب قيادتها العامة المجلس الأربعينى السري لتنظيم الأخوان المسلمين في يونيو 89، وأعلن "الجهاد" باسمها على جميع معارضيه مما فرض على البعض، إن شئنا الإنصاف، حمل السلاج كخيارٍ أخيرٍ صعب اضطروا لركوب مخاطره الوعرة اكتواءً بنيران المظالم المزمنة.
وما الحرّيات والإقتصاد والهوية و المواطنة والعدالة والسلطة والثروة إلا بعض من تلك المظالم التي تنتفي بمعالجتها،في كلِيتها، أسباب ذلك الإضطرار.وفي خضم تلك المعالجة الصبورة حين يتوافر لها المناخ المؤات من الهدنة المستظلة بوقف إطلاق النار، ستنجلى تلقائياً ملامح الطريق نحو المستقبل, وستسطع معاني وقيّم ومباديء طيب الذكر "الدستور"في سياقها الموضوعى الموقوت عوضاَ عن إستعجال القفز عليها بنصٍ نضيدٍ، لا يلبث أن يأخذ مكانه بين أطنان الدساتير الدائمة والمؤقتة و المسوّدات التي تراكمت، مجلّدةً ومجمّدة، منذ نسخة "سوكومارسن"، في أضابير المحكمة العليا ووزارة العدل وديوان النائب العام وكليات الحقوق وأرشيف دار الوثائق القومية، شاهدةً على عُقم النصوص حال افتقارها إلى حاضنةٍ ظرفيةٍ ناضجة وإلى مباديء ضاربة الجذور في عصب ووجدان الأُمة.
ثالثاً : كقاعدة عامة, إن أى تصدُعٍ يصيب أى تحالفٍ سياسىٍ معارض من شأنه يضعف من فرص تغلٌبه على خصمه, لكن لكلِ قاعدةٍ إستثناء. وفى الحالة الخاصة بتنظيم "قوى الإجماع الوطنى"وهو يشهد انسلاخ بعض مكوِّنات تحالفه المعطوب منذ استنساخه إثر انفضاض سامر سابقه ، التجمع الوطني الديمقراطي, يتراءى هذا الإستثناء مستحبّاً إذ أنّ الإنسلاخ عن قوى الإجماع الوطنى لن يسفر فى المحصلة إلا عن إنتاج أحد أهمّ مقومات التحالف:وحدة الإرادة.
وغنىٌ عن القول إنّ للتحالف،كمصطلحٍ عريقٍ في الإرث النظري لأدبيات العمل السياسى، أصولٌ وشروط ليس لدينا دون العالَمِين من مسوغاتٍ لتلطيفها بمفاهيم عاطفية وتبريرات رعوية على سبيل السودنة!هذا ازدراء لمفهوم التحالف كما هو حطٌ من قدر رونق السودنة. فالتحالف السياسى بطبيعته، صيغة مؤقتة تحتكم لأهداف محددة تقتضيها خارطة توازنات القوى في مرحلة معيَّنة، وليس من سماته الإستمرار المفتوح أبد الدهر وبخاصةٍ حين تضطرب معاييره أو ترتدُّ عن أهدافها نباله لتصيب في مقتلٍ، جسده بالذات.
عليه ، فلربما تستأثر بعض عناصر قوى الإجماع المستضعفة اليوم في هذا الكيان باحترام التاريخ واحترام عضويتها وجماهير الشعب إن حزمت أمرها لتعلن على الملأ دعوتها لكلِ فصيلٍ لديه نصيبٌ من السلطة وإن كان محدوداَ و رمزياً ، سافراً أو مستتراً ، أن يلتحق بكتلة الأخوان المسلمين وحلقات أتباعها الدائرة في فلك المؤتَمَرين، الوطني والشعبي، اليوم قبل الغد. بل ولعلّ الإحترام يجىء مضاعفاً إن بادرت تلك القوى بفضّ التحالف وتداعت للإنصراف عنه إلى حيث تقف بمعزلٍ عن بؤرة التشويش والمراوغة التي ظلّت وما زالت تعبث بمصداقية المعارضة بأكثر مما تضفي من ثِقلٍ على كفّتها، وتقلّل من شأن فعاليتها بأكثر مما تضيف إلى جدِية خطرها على النظام.
ليس بمستبعدٍ أبداَ أن يستدعى مثل هذا الطرح ناحيته أصنافاَ من التهكم أو الإستنكار بحسبانه ضرباَ من التجاسر بالإسقاط تبرّماً بالصبر الدؤوب أو مزايدةَ على حكمة القيادة المفردة أو الجماعية لسبعة عشر حزبا يشكلون تركيبة التحالف. تبَاَ للصبر حين يلتبس بالإستكانة، وتبّاً للقيادة حين تشتبه بناظريها البقر!
على ذكر البقر، لنأمل مجدداً أن تستكمل عملية الفرز الجارية مداها ليس بالإحجام عن اعتراض انسيابها وحسب، بل بدفعها عنوةً وعن ثابت تصميمٍ تمهيداً لأرضية الحوار "القومي الجامع" تحت لافتتين قطبيتين: السودان القديم بكل مستحدثات الإسلام السياسى الراديكالية والوسطية و"هلمجرا"، والسودان الجديد بكافة مستضعفيه على اختلاف مراجعهم الفكرية وتاكتيكاتهم التطبيقية.
رابعاً : دونما جحودٍ بمبادرات الأسرة الدولية وجهودها في السعى لتسوية نزاعات الأزمة السودانية، مهما كانت الدوافع والمسببات، وعلى رأسها المصالح الجيو- سياسية الإستراتيجية التي تفرض سلطانها على كل بلدٍ يتصدى للتعاطي مع أية قضاياخارج حدوده، يبدو أن الوقت قد أزف لِشُكر الجميع على كريم مساعيهم وطلب دعمهم المستطاع لبدائل وطنية على أي نمطٍ مقنعٍ نفلح في تسويقه والترويج لجدواه مقارنةً بالآليات الأجنبية، بالإضافة طبعاً للمناشدة بتدفق مواد ومنظمات الإغاثة الإنسانية بمعزلٍ عن إملاءات السلطة التى دأبت على استخدام الإغاثة كعنصرٍ من عناصر المجهود الحربى و كمورد رزقٍ لسدنتها.
هذا ورغماً عن مشروعية مطلب البدائل الوطنية للتسوية وظاهر انسجامه و "دعاية" النظام الحاكم من حيث ادعاء التشكك فى النوايا الأجنبية, يبدو أن الطريق إليه محفوفٌ بعراقيل من صنع النظام نفسه الذى لا يقيم كبير وزنٍ للتدويل بأكثر من عنايته بإخفاء دوره المنوط به فى إطاره.
فالتدويل في إطار إعادة ترسيم خارطة المنطقة القلقة جارٍ بالفعل على قدمٍ وساق فيما لا يزال مُنظِروه على جانبى الأطلنطى يعوِّلون على استباق الزمن وإجهاض يقظة الشعوب المعنية لإحرازبضع نقاطٍ أخرى ليس السودان وحده من تقتصر عليه مؤشرات حساباتها.
لكن لديه – أى السودان -خصائصه المتميزة موضوعياً وذاتياً في إطار هذه الخارطة المعنية،وهى خصائص اكتسبت عنصراً إضافياً حاسم الأهمية بوجود نظام حكمٍ "متميزٍ" بدوره ما كان توقيت انقلابه في1989، متزامناً مع بواكير الزلزال الدولى الذي غيّب المعسكر الإشتراكى بأكمله عن الوجود،حدثاً من قبيل الصدفة.
كما وأن صبر الأسرة الدولية الخاضعة برمتها لسطوة قطبٍ واحدٍ أوحد منذ سقوط جدار برلين في 1991،وتساهلها إزاء تجاوزات الخرطوم ضد معارضيها في الداخل وتورُّط نظامها في إيواء بن لادن، و تغطية كارلوس، ومحاولة إغتيال مبارك (1995)،والهجمات الإرهابية على السفارات الأمريكية في شرق أفريقيا(1998)،وتفجير المدمرة الأمريكية في عدن (2001) الخ.. علاوةً على تشجيعها خصوم قرنق للإنشقاق على تيّاره الوحدوي غداة الإطاحة بمنقستو، و عزوفها عن دعم التجمع الوطني الديمقراطي إلا بمقدارٍ رمزيٍ محسوب ..الخ.. كل ذلك كانت له مبرراته المنطقية في معايير الجدوى الإستراتيجية من منظور مصالح دوائر دولية محددة فى النظام العالمى الجديد.
والحال إن مداد التاريخ الذي لم يجف بعد على صفحة حياتنا الحزينة، ليشهد بأنّ سلطة الإسلام السياسي الراديكالية الحاكمة ما كان لها أن تجهل مغبّة الفشل جرّاء اعتماد حملات "الجهاد الدينى" و سياسة "فرِّق تسُد" طيلة تعاملها مع الحركة الشعبية وفصائلها المنشقّة (1989 – 2005)، أو أن تغيب عن فطنتها المآلات الحتمية لسبل إدارتها للأزمة السياسية بعد إتفاق السلام الشامل، خصوصاَ عقب مصرع قرنق "المُحيِّر"،التي مهّدت الطريق لدفع قاطرة تقرير المصير دفعةً قويةً في اتجاه واحد: الإنفصال, وإضافة مقعدٍ جديد فى بهو الجمعية العامة للأمم المتحدة!
فالوصول لفصل الجنوب قد كان على وجه التحديد من أهم واجبات انقلاب الأخوان المسلمين امتثالاَ لمشيئة تلك القوى الدولية التي ظلت تثابر في طِلابه دون كللٍ منذ خمسينيات القرن الماضى،حتى وجدت ضالتها في سيطرة"أداتها الطيِّعة" على مقاليد الحكم في السودان. وهو واجبٌ سرعان ما تلته غداة انفصال الجنوب فى العام 2011 واجبات أخرى أملتها على الأرجح أحداث "الربيع العربى" وما ترتّب أو قد يترتب عليها لاحقاً من متغيِّرات أغلب الظن أن يكون لذات سلطة الإسلام السياسي،بحُلّة إنعاشها الفضفاضة الجديدة، من التكليفات بشأن بعضها نصيب.
خامساً:إن نظام الحكم الذي لم يهتز له ساكن بانفصال الجنوب بتضافر العوامل الخارجية والمحلية التي مكّنته من الإفلات من دفع الثمن السياسى المتوقّع في مثل هذه الحالات، بل وحفزته على التمادى في ذات الإتجاه, استهانةً بمطالب حركات المقاومة المسلحة في دارفور والجبال والنيل الأزرق, واستخفافاً بالمعارضة المدنية السلمية في كل الولايات والمدن والمحليات الأخرى، لا يُظهِرُ استعداداً جدِّياً للإنصراف عن السير حثيثاً نحو أهداف طبق الأصل من أهداف رسالته المطوية في الجنوب (89-2011)، مستصحباً في مسرح عملياته المنتشرة هذه المرة شمال "خط العرض عشرة"،شبكة دولية للتداخل الدبلوماسي متعدد المحاور, تنشط بصمت بين الدوحة وأديس أبابا وواشنطن ولندن وباريس وبرلين وأنقرة وبكين وطهران, لدعم فريق الرئاسة في الخرطوم بالنصح والتوجيه، بموارد مالية سخية، بضمانات انتقال عبر الحدود،بل وبتقنيات قتالية "فائقة الدِقّة والجرأة" لإستئصال مصادر خطرٍ ميدانية عند الحاجة على نحو ما أصاب حركة العدل والمساواة بتصفية قائدها د. خليل إبراهيم …الخ..
وتلك كما يفهم الجميع, إن هى إلاّ بعضٌ من مظاهر الإسناد العلنى الذي يهزأ في واقع الأمر من كامل ترسانة العقوبات،و قرارات الحظر،و"لغو"البند السابع ومطرقة لاهاي وغير ذلك من الإجراءات الدولية مما لا طائل من التعويل عليه في كبح جماح النظام،دع عنك حشره في زاوية التفكيك السلمى، إذ أنّ مصدر ذلك الإسناد هو على وجه الحصر تلك القوى الكبرى ذات المصلحة في بقائه إلى حين استنفاد أغراضه كليَاً ما لم تُطِح به،على غيرِ هواها، قوىً أخرى لا تدخل في حسبانهم الآن: قوى الإرادة الشعبية العصّية على الإستسلام والإذعان لنظامٍ ليس له من المقومات السياسية أو الأخلاقية ما يؤهله للبقاء يوماً واحداً.
لقد آن الأوان لأن تستجمع الطلائع القيادية للمقاومة المسلحة والسلمية طاقاتها المستلهِمة لروح تلك الإرادة الشعبية وتترجم رؤاها النظرية إلى برنامج عملٍ ملموسٍ يلتزم بقدسية مبدأ الوحدة التنظيمية فيما يحدد لكلِ هدفٍ إطاراً زمنياً فاصلاً.
ولتكن أولى الأهداف على جدول الأعمال توحيد منابر التفاوض مع السلطة بما يحرمها أفضلية المناورة، والإستماتة في تناول الأجندة بأسبقياتها الموضوعية بما يفصح عن الحرص على الإستجابة لمطالب الشعب بدءاً بالأهم:
- مطلب الحياة الآمنة بكل ما يقتضيه ذلك من وقفٍ فورىٍ لاطلاق النار بين جيش الحكومة النظامي وفصائل الجبهة الثورية، و
- ترتيبات الإغاثة الدولية العاجلة تزامناً مع معالجة الإحتياجات الحقوقية والإنسانية للنازحين واللاجئين.
- تصفية مليشيات الدعم السريع المخزية لشرف وعهد القوات المسلحة السودانية مهنياً وأخلاقياً،و فك إرتباطها القانونى بالقيادة العامة توطئةً لإدراجها ومن يقف وراءها في القائمة الدولية لمنظمات الإرهاب على غرار عصابات "جيش الرب" اليوغندية وشبيهتها "بوكو حرام" النيجيرية اللتان تجدان من نظام الأخوان المسلمين فى السودان نصيراً قوياً بأدلةٍ لا تنكر فى كافية قنجى وجامعة أفريقيا و"البيوت الآمنة" لجهاز الأمن والمخابرات بالخرطوم.
المقاومة الوطنية بين طريق الإنتفاضة الشعبية وطريق نيفاشا: هل ثمة من طريقٍ ثالث؟
لطالما ترددت المقولات المرسلة على شاكلة: "من رابع المستحيلات تحقيق انتصار على نظام الحكم في السودان عن طريق العمل المسلح" أو: "إن الإطاحة بسلطة الأخوان المسلمين ستفضي لا محالة إلى انهيار الدولة السودانية".
لا غرابة في أن تصدر مثل هذه الأحكام"الصمّاء" بدافعٍ من الإشفاق المخلص على وطنٍ غارقٍ في مثل أزمتنا المزمنة،أو بسبب الجزع من ويلات الحرب الأهلية المفتوحة على ما عَهِده التاريخ من أمثلةٍ داميةٍ لها ما زال بعضها حيّاً يؤرِّق ضمير البشرية.لكن ما يثير الغثيان ألاّ تفتر همّة بعض المنابر النشطة عن تدوير اسطوانة هذه النبرة خدمةً للسلطة العسكرية المتعطشة لأى شحناتٍ تستهدف إضعاف إرادة خصومها من حملة السلاح والتشويش النفسي والمعنوي على جموع مناصريهم، بينما تسوغ لها احتكار العنف كعنصرٍ حاسمٍ في عملية التدجين الإجتماعي والسياسي.
إن هذه الأسطوانة التي تنفث سمّاً من التثبيط المعزَّز بإساءات التخوين لن تجدي مروجيها نفعاً لافتقارها البصيرة ومفارقتها الحقيقة، والتاريخ المعاصر لمنطقتنا خير برهان.
بنظرةٍ خاطفةٍ إلى تجارب دول الجوار تكتظ القائمة بأدلةٍ قويةٍ على بطلان الزعم باستحالة الإنتصار على الأنظمة الحاكمة عن طريق العمل الشعبى المسلح وهى القائمة التي تشمل بالتتابع الزمنى: يوغندا لمرتين متتاليتين ضد عيدى أمين دادا في 1979 و ضد ملتون أبوتى في 1985،سقوط انجمينا وهزيمة حسين هبرى في 1990،الصومال حيث أطاحت مليشيا جنرال عيديد "الأب" و حليفه على مهدي بنظام سياد برى في 1991، زيناوى وأفوركى واجتياح أديس أبابا في 1991، رواندا ومأثرة كاقامى في 1994، كابيلا "الأب" ومسيرته من لوممباشى إلى قلب معقل موبوتو الحصين في كنشاسا العاصمة في 1997, والقائمة تطول.
بصرف النظر عن الملابسات التي أحاطت بأيٍ من هذه التجارب اللصيقة و غيرها البعيدة نسبياً في غرب وجنوب أفريقيا،أو ما آلت إليه الأحوال في بعضها مما ليس يعنينا الخوض فيه في معرض هذا الجرد التاريخي المحض يبقى السؤال:أين الإستحالة؟ بل ما الذي يعصم الأخوان المسلمين ويقي قادة نظامهم مصير الجبابرة الذين فروا عن بكرة أبيهم يطاردهم الخزى وتطارد أرواحهم اللعنات؟ وفيما عدا الحالة الصومالية التي قادت إلى تفتيت الدولة بحكم الطبيعة العشائرية "الفريدة" لتركيبة المجتمع الصومإلي، وبحكم تكالب عوامل تدميرٍ إقليمية ودولية أخرى ليس للإرادة الوطنية الصومالية منذ اقتطاع جيبوتى وأوقادين وشمال شرق كينيا و صومالى لاند من ناقةٍ فيها ولا جمل، نعيد صياغة السؤال:أين فزّاعة الإنهيار الحتمى للدولة؟
ما من إستحالةٍ ولا يحزنون. وما من انهيارٍ للدولة مما يجوز التلويح به تذرعاً للإستسلام لنظام حكمٍ لم يُبقِ من جوهر أو حتى مظهر الدولة شيئاً يُعتدُّ به في أي بعدٍ من أبعاد التعريف الحقوقى لمفهوم ووظيفة ذلك الكيان.
هذه وتلك – أى فِرية الإستحالة وفزّاعة الإنهيار – حلقتان من سلسلةٍ "معدنيةٍ" واحدة معروفة بذاتها وصفاتها. سلسلة لجم من لهم عقول الدواب.فانطلاقاً من فلسفة واستراتيجية حركة الإسلام السياسي الراديكالية ودورها المنوط بها في إعادة صياغة العالم الإسلامي في أفريقيا والشرق الأوسط و آسيا الوسطى بما ينسجم وخارطة "النظام العالمى الجديد"،توافرت حركة الأخوان المسلمين السودانية على تحطيم قوائم ومرتكزات نظام الدولة والمجتمع في "منطقة مسؤليتها": السودان. توافرت عليه وأنجزته على الوجه الأكمل خلال ربع القرن الماضى الذي حازت فيه قصب السبق وبزّت به أقرانها، بل وحُداتها أسفل النهر،في الإنقضاض الحاذق على السلطة في لحظةٍ تاريخيةٍ بالغة الدلالة دولياً كما أسلفنا،دون أدنى اكتراثٍ بثِقلها السياسي الواعد محلياً وقتها، إذ أنّ ما وضعته نصب أعينها، ما كان ليتطلب قسطاً في الحكم أقلّ من السلطة المطلقة. لقد نالت ذلك القسط بامتيازٍ لا يُنكر. ومؤكدٌ أنها ترغب في المزيد الآن بقدرما تحتمله المتغيِّرات الجيوسياسية الحساسة على صعيد المنطقة،وبمقدارما يُتاح لها على المستوى المحلي من تأمين شركاء المرحلة الماثلة بتحدياتها الحرجة واحتمالاتها المفتوحة على خيارات عديدة.
والخيارات المعنية في هذا المقام هى خيارات المقاومة بالطبع إذ أن للسلطة خيار واحد ألا وهو البقاء في الحكم أصالةً أو شراكةً أو بالوكالة.
نظراً إلى المخاطر الجدِية المرتبطة بالإستمرار في الحكم المنفرد كما سبق الإشارة إليه، فالشراكة إبحاراً على قارب "الإتفاق الوفاقى" ستظل على الأرجح رهان "الأخوان"المفضّل لعبور الأزمة. وبما أن التفكيك غير واردٍ بالمرّةِ ضمن هذا السيناريو- سيناريو الشراكة – حتى في حدِه الأدنى،حد إعادة الهيكلة التى ستطيح بأطقم الإسلاميين داخل الجيش بطبيعة الحال، فستبقى الخطة "ب" ألا وهى خطة إنقلاب القصر جاهزة، كما ظلّت على الدوام، للإستدعاء عند اللزوم لخلط الحابل بالنابل في تدشينٍ جديدٍ للفصل الثالث من فصول الحكم الإنتقالى بالوكالة. وليس بالضرورة أن تكون الوكالة التالية من حيث التركيبة والتوقيت وعامل الصدفة سيامية الشبه بمثيلتها السابقة, وكالة المشير سوارالذهب والدكتور الجزولي دفع الله, المدفوعة الأجر لاحقاً على إتقانهما قرصنة السادس من أبريل على انتفاضة 26 مارس, إذ يمكن للقرصنة المحتملة أن تُستدعى استباقاً لذروة الإنتفاضة على أيدى من تمّ تأمين مواقع تحركهم الوقائى سلفاً تحاشياً لمخاطر محاولة الإنقضاض عليها بعد اندلاعها.
غنىٌ عن القول أن أطيب الخيارات للمقاومة الوطنية بشقيها السلمي والمسلح هو خيار التغيير بلا إراقة قطرة دمٍ واحدة على أي نمطٍ تحقق هذا التغيير المنشود عقب تلالٍ من الخسائر الفادحة بكل جهةٍ وكل عشيرةٍ وكل عائلة. لكن مربط الفرس من هذه الإفادة يكمن في مصطلح "التغيير المنشود" دون سواه, وأحسب أن كل ذى بصيرةٍ يعرف على وجه الدقة معنى ومدلول التغيير المنشود في السودان اليوم ألا وهو دولة المواطنة المدنية الديموقراطية قلباً وقالباً،فقط لاأكثر. دولةٌ يستزين عقدها الإجتماعى بألقِ المساواة وعدم التمييز, يسود فيها حكم القانون, ينال فيها كل ذى حقٍّ حقّه المشروع فى التعليم والعمل والعلاج والسكن والغذاء والتنقُل وحرية الإعتقاد والتعبير والسلطة والثروة. دولةُ مؤسساتٍ عصريةٍ تعى بالتزاماتها القومية وتحترم عهودها الدولية.
ولعلّ الجميع أيضاً على علمٍ بالوجه الآخر للصك, حيث يقف دعاة الدولة الدينية – العرقية والديكتاتورية العسكرية بالمرصاد لأي تغييرٍ وفق ذلك التعريف لاصطدامه مع مفاهيمهم الأيديولوجية ومصالحهم الإجتماعية على خطٍ مستقيم. وعليه فإن أية مبادرة أو إستجابة لمائدةٍ مستديرةٍ أولمؤتمرٍ قومي للتسوية السلمية تحت وطأة اختلال توازن القوى السياسي القائم لن تفضي بالضرورة إلاّ إلى تغييرٍ"غير منشود وغير محمود" اللهم إلا من حيث فرزه النهائى، ربّما، لكامل كتلة المحافظين النخبوية "كتلة مثلث حمدى", قبالة الكتلة السياسية لتحالف متميزٍ للقوى الحديثة قد ينشأ بين خصوم برنامجها من الديمقراطيين والليبراليين.
وفي هذا الفرز – كما يطيب لكثيرين الرجاء – خيرٌ وبركة، إذ به يتوفر الشرط الأوّلِي لقياس ميزان القوى، كمّاً ونوعاً بمعزلٍ عن عناصر الإرباك، علاوةً على فرضية حفزه قوى المعسكر الديمقراطى الليبرإلى للتعاضد تجويداً لأدوات النضال الفعّال، سلماً إذاجنح ناصيته النظام وحرص على تأمين شروطه، أو خلاف ذلك مما قد يستقر على صوابه أركان قوى التغيير، علماً بأن للسلم خياراته وللحرب -لا قدّر الله- أيضاً خيارات.
خيار المدن : العصيان بالتظاهر والإعتصام والإضراب السياسي
لقد برهنت انتفاضة سبتمبر على أن للشعب مَعينٌ لا ينضب على اجتراح المآثر. كما وأفصحت تنظيمات المقاومة الأهلية الجريئة وشبكات تواصلها المستحدثة عن توافر طاقات هائلة من شأنها، إن أحسَنَ قادتها أدوات حشدها وتاكتيكاتها، إنهاك أجهزة النظام وخلخلة ركائزه الأمنية والإدارية بما يدفعه في نهاية الشوط إلى الإستجابة قسراً للمطلب السياسى الجوهرى: الرحيل.
وفيما تنكص قيادات أحزاب "التوإلي" والطوائف التقليدية عن عهودها وتلهث للمصالحة المعيبة اتقاءاً لرياح التغيير الجذري وما تحمله من نذر الختام لعهودٍ من الإذعان والتسيير بالإشارة،ينتبه الشعب لنشاط أحزاب الغد ومنظمات المجتمع المدنية التي انخرطت تقود حملات التعبئة العامة غير عابئةٍ بجبروت أمن الدولة وعقوبات محاكم النظام العام.
إن من شأن التراكم الكمّى الوئيد أن يقود للحظة تحول نوعي حاسم وتلك بالضبط خاصِية مسار الإنتفاضة من حيث هى عملية دايناميكية مستمرة، موجة إثر موجة، جزرٌ ومَد، من عمق البحر إلى البر، وليست حدثاً دراماتيكياً يتيماً. وإن تفتقد الإنتفاضة اليوم خيرة أدواتها المجرّبة ذات الخبرة في إدارة حركة النقابات العمالية والإتحادات المهنية وروابط الهيئات, فالأحياء السكنية حيث يعيش الناس ويعرف بعضهم بعضاً, بالإسم والأصل والفصل ومصادر الدخل، من هو معهم ومن هو عليهم،هى ساحات النزال البديلة للتظاهر والإعتصام والعصيان سيما وإن انبثقت مبادرات تكوين لجان شعبية طليعية للتعبئة والدعاية والرصد والحماية والتأمين والتمارين النهارية والليلية الخلّاقة … الخ مما يفوق قدرة أي جهازٍ حكومىٍ على الإحتواء في مدينةٍ باتساع العاصمة المثلثة وبحجم كتلتها السكانية الناقمة.
خيار الجبهة الثورية : قتالٌ حتى الرمق الأخير من أجل الوطن، وتفاوضٌ لا يُسقط حق أهل الريف والمدن
لا تكف أبواق الأخوان المسلمين ومن لفّ لفّهم عن الإساءة لفصيلٍ من أشرف نساء ورجال الوطن بسبب لجوئهم لخيار المقاومة المسلحة وهو خيارٌ حملتهم إليه المتاريس القاتلة التي نصبتها سلطتهم على كل طريقٍ يؤدى إلى حلول عادلة لمظالم مزمنة. هذه حقيقة.
والأهم من هذه الحقيقة أن أطراف الجبهة الثورية لتكفِهم أمانةً أنهم حملوا السلاح جهاراً, وأعلنوا على الملأ ميثاقهم معربين عن ترحيبهم بمداخلات تطويره، دون أن تنطوِ نواياهم على الغدر بالشعب على غرار غدر الجبهة الإسلامية القومية حين استوردت من الهند أزياء القوات المسلحة، ودبّرت الناقلات الخفيفة، والأسلحة الصغيرة،واستدعت عناصرها المدنية المدرّبة في إيران وأفغانستان وسهل البقاع، وسخّرت تقنيات منظمة "الدعوة الأسلامية"،وابتاعت ذمم عملائها في الحكومة المنتخبة، وأجهزة الأمن، والمخابرات العسكرية، لتقلب المائدة على الجميع بادئةً بالجيش والخدمة المدنية قبل الإنصراف لإعمال خناجرها الفتاكة نحراً وتمزيقاً في جسد الأمة ونسيج الوطن. بِمن حرىٌ بالإساءة أن تحيق, ومن هو الأجدر بالتجلّة والإحترام؟
من المواقع الآمنة نسبياً حيث أقف وكل "العوّامين على البر"،ليس من اللائق إسداء النصح لمن هم فى لُجّة البحر ممن هم أكثر دراية بشعابه, بما يمكن, وما يجب, وما سوف يكون. لكن بما أن هذا البر هو خط الملتقى المأمول, فلا حرج من الإعراب عن أنّ الثقة في قدرة الجبهة الثورية على تخطي صعاب التجويد النظرى والتطبيق العملي لبرامج وأُطر الخلاص يشوبها الحذر, ولا غضاضة في الإفصاح عن قدرٍ من الخشية فى مقدار وفائهم بالإلتزام بوجهة الإلتحام العضوي بالشق المدنى من كيان المقاومة في كل مساحة من مساحات النضال وكل جولةٍ من جولات التفاوض مع معسكر السلطة. ما من حرجٍ فى الأولى ولا ثمة من غضاضة فى الثانية. فالخشيةَ مظهر حرصٍ والحذر من طباع البشر ولنا جميعاً من تجارب الحياة ومن "إلياذة" نيفاشا على وجه الخصوص ثروةً غنية بالدروس المستفادة.
الطريق الثالث : طريق مقديشو وأديس وكمبالا وكيقالى وكينشاسا وانجمينا، ليس حراماً على الخرطوم
والخرطوم لن تظل مداساً ذليلاً إلى الأبد لكل من هبّ ودبّ يخبىء سلاحاً ويرفع مصحفاً في سقيفة السلطان. للسلاح يومه العصيب,وليته لا يأتِ, وله أهله من كاظمي الغيظ الذين على غُبنِهِم لا يخِفّون لإشهاره،إن أٌكرهوا علي ذلك،إلا بمقدار.كما وللمصحف الشريف حماته الغرّ الميامين الذين يتوقون لتطهيره من رجس ودنس الأخوان المسلمين.
عدّة عوامل موضوعية تجعل من فرضية إدارة الجولة الحاسمة من النزال داخل المراكز الحضرية وفى قلب العاصمة بالذات, إمكانيةً هائلة الترجيح. وذلك ليس فقط قياساً مجتزءاً ومبتسراً على ما تم جرده من وقائع التاريخ المعاصر فى المنطقة, بل بما يتفوق عليها من خصائص ظرفنا,ومن معطيات نهوض الوعى الجماهيرى, وتنامى مؤشرات نضوج الأزمة على مستوى حركة المقاومة وطلائعها القيادية باختلاف مشاربها وأدوات اقترابها من تحقيق هدف التغيير فى السودان الآن.
وفى المقابل لا تملك السلطة الحاكمة وهى على موقد أزمتها الناضجة منذ وقتٍ طويل, غير ما تبقى لها من رصيدها الوحيد الأوحد الذى لا تملك سواه, بل ولا تعرف سوى اللجوء إليه بديلاً, ألا وهو البطش بالشرطة والأمن والجيش وألوية الإرهاب المنظم. وهو رصيدٌ لم يسعف من قبل زياد برى ومنقستو وموبوتو وعيدى أمين وعائلة القذافى, دع عنك أن ذات الرصيد قد شابت بنيته التحتية مظاهر الإهتزاز بحيث لن يظل مأمون الجانب(ولنا من نشر ألوية الدعم السريع بعض الدلالات فى هذا الإفتراض),أو يظل منكفئاًعلى حالة الإنقياد الأعمى الى ما لا نهاية, خصوصاً إذا انتقلت المعارك داخل المدن,حيث تضع مناورات قتال الشوارع والمناطق المبنية ورؤوس المعابر والجسور, نصف ترسانة أسلحة الميدان الثقيلة وكل قاذفات الطيران خارج معادلات الكرِّ والفرّ على مدار الساعة, وتعزل قدراتها على التأثير الفعّال على النتائج المباشرة على الأرض.
مما تم إيجازه أعلاه تتلخص إفادة واضحة مؤداها أن الطريق الثالث يبقى ممكناً عملياً ومفتوحاً على كل ما ينطوى عليه انتخابه, كخيارٍ أخيرٍ, من تضحيات ومن آلام. وفى حال تمادى الأخوان المسلمين فى الإستهانة بجدية المخاطر المحدقة وترجيحهم خط المغامرة غروراً أو يأساً, فلن تنصب الملامة على اتحاد المقاومة الشعبية بأى حالٍ من الأحوال مهما بلغ حجم الخسائر, إذ العزاء الجليل سيكون فى فصل الختام لعهدٍ مديدٍ من الإفلاس والإجرام واحتقار الإنسان. وهو ختامٌ مستبعدٌ أن تشوبه همجية الإندفاع نحو الغنائم أو تجرفه نزعات الإنتقام, فتلك صفاتٌ لم تعهدها شعوب وقبائل ومنظمات أهل السودان إلاّ حصراً فى فكر وأخلاق وممارسة تنظيمات الإسلام السياسى حيثما كان لها وجود.
لكن لهذا الطريق على وجه الخصوص مطلوبات محددة لعلّ من ألحِّها على الصعيدين, الإيجابى والوقائى,وجود حليفٍ قريبٍ, متينٍ ومؤتَمن. وبداهةً تحتاج الطرق الأخرى بدورها إلى حلفاء من الخارج وإن إختلفت الأوعية والقنوات, الشحنة أو الأدوات. فما من نظامٍ فى الدنيا يعمل دون سندٍ من الخارج, وما من معارضةٍ وطنيةٍ لديكتاتوريةٍ فاشيةٍ تعفُ عن طلب عون أصدقاء قضيتها ومناصرى برنامجها أيّاً كان موقعهم على خارطة العالم.
ومُرجّحٌ جداً أنّ ينشقّ الأفق يوماً عن حليفٍ أقرب إلينا من حبل الوريد. حليفٌ تشدّ نظامه الجديد تجاه السودان بقدر ما ينبغى أن تشدُ قوى السودان الجديد ناحيته،مصالح مشتركة ومنافع حيوية متبادلة سيشكل تحديد مقاطعها والتوافر الجاد على فحص وترسيخ أسس الإتفاق المبكّر على مبادئها, مدخلاً واعداً للتعامل المستقيم الشفاف مع مطالب قضية التغيير السياسى فى السودان بالنظر إلى ما يلى من اعتباراتٍ, دون لفٍ أو دوران:
- لنا ولهم على المدى العاجل مصلحة مشتركة فى التعجيل بوتيرة القضاء على نظام المؤتمر الوطنى بحسبانه المصدر الأعظم خطراً من مصادر القلقلة والإرهاب.
- ولنا ولهم أيضاً غداة القضاء على حكم الأخوان فى السودان, آفاق رحبة الإتساع على مستقبلٍ يستضىء بأرقى ما يمكن الإستدلال عليه من نماذج حسن الجوار والتعاون والتكامل بل وربما الإتحاد الكونفدرالى بما قد يجسد أحلام الاقليم والقارة.
وغنىٌ عن القول أن الحليف الأقرب المعنى آنفاً هو مصر.مصر25 يناير و30 يونيو. مصر الجديدة. لكن الأفق المنظور يبشر فى الواقع بأكثر من حليفٍ واحدٍ وعلى أكثر من بعدٍ واحدٍ من أبعاد الاخاء والتعاون لما فيه خير شعبنا والشعوب المعنية فى الهضبة الأثيوبية بل وشرقاً عبر البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية وأمارات الخليج. هذا الأمر جدير, سواءً فى مجمله أوفى معرض التفصيل, بالتفكير الجدى واجتراح المبادرات. وهو موضوع لا يقل أهمية عن غيره من تحديات العمل السياسى المحلى اليومى المتصل لبرنامج قوى السودان الجديد خلال مرحلة المقاومة وبعد انبلاج فجر الخلاص.
والخلاص ليس نهاية المطاف. ففيما يبقى القضاء المبرم على النظام القائم فى موضع الغاية الجليلة التى تعلو على كل اعتبار, واجب الساعة,يبقى النصف المكمل لهذه الغاية فى موضع القيمة المضافة. ولا قيمة مضافة بخلو الأذهان عما يستصحب تلك الغاية أو يتلوها مباشرة من واجبات مقدسة تجاه صيانة الإستقرار الإقليمى ونزع فتائل النزاع أيا كان موقعها ومصدرها وأطرافها.فالخلاص من النظام القائم وتصفية رواسبه السامة لن يكون مكتملاً أبداً إن تعاملنا مع تركته المثقلة إقليمياً بمفهوم القنابل الموقوتة كما رتّب لها الأخوان المسلمون أن تكون. الواجب يستدعى قوى التغيير أن تضع نصب أعينها منذ الآن استكشاف السبل الكفيلة بتأمين المداخل الجاذبة لإهتمام الشعوب المعنية واهتمام أهل السودان بما يسدل الستار على الحقبة المظلمة من حكم الأخوان وكل ما قد يظلّ عالقاً بسماء الإقليم من نواياهم:
- فأبيى لن تكون كشمير السودانَين.
- ومسألة حلايب لن تكون كعب أخيل مشروع ازدهار وادى النيل.
- أما سد النهضة, فلن يكون بإرادة طرفيه والسودان الجديد فى موضع الخاصرة منهما, إلا إيذاناً عملاقاً بفتح بوابات فيضان التعاون الإستراتيجى بما يلبى طموحات شعوبنا فى استثمار حكيمٍ مشترك للموارد الطبيعية والبشربة الوفيرة, فعلاً لا افتراضاً, وبما يقيم صروحاً متينةً للتنمية الشاملة وللسلم وللرخاء بكل بلدٍ على حدة, ولكل منظومة الهضبة ووادى النيل معاً.
حاشية إضافية حول الدور الوطنى والتزام الإقليم :
هذا وللمزيد من التوضيح حول قضية التصدى للخطر الذى يحدق بالإقليم, فمما لا شك فيه أن لحركة المعارضة السودانية وفق الملامح العامة للبرامج الفردية لكل فصيلٍ وحزبٍ, ووفقاً لمواثيق قوى الإجماع و الفجر الجديد الخاضعة للمقاربة والتجويد,مسؤلية خصوصية بحكم التزامها الوطنى إزاء الإطاحة بنظام المؤتمر الوطنى الحاكم, وتلك مهمةٌ لا نكوص عن خوض غمارها على انفراد, حال تعثُر الحشد الإقليمى المطلوب, مهما طال الزمن.
علماً بأن استنفار الدعم الإقليمى المقصود لن يكون بناءاً على ما تمليه مشاعر التضامن مع شعبٍ صديق وحسب, بل بحكم ما تقتضيه مصلحة الأمن القومى و الإستقرار السياسى للإقليم ككل, ولكل دولةٍ متضررةٍ وفق تقديرات أجهزتها ومحصلة تحليلاتها للمخاطر.
بعباراتٍ أخرى, من الخطأ الإعتقاد بأن مطلب التضافر الإقليمى مما يدخل فى باب استجداء الفضل والإحسان أو غير ذلك من مظان الإرتهان. فالأمر على النقيض من ذلك بالضبط ولا مجال البتة فى التساهل إزاء أقل قدرٍ من الميوعة والإلتواء بهذا الشأن.الموقف ليس موقف نفيرٍ للنجدة لأهل السودان بل موقف مبادرة تستحث دول الإقليم المستهدفة, وعلى رأسها مصر والمملكة السعودية والأمارات المتحدة, للإضطلاع بمسؤلياتها تجاه استئصال خطر الإسلام الراديكالى من جذوره وصيانة أمن الإقليم ومستقبل أجياله. ومن هذا المنطلق لا يجوز التعلل بضعف المعارضة كسببٍ للإبطاء, بل يجب مد كل أوجه الدعم الأدبى, سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً, والمساندة العينية والمادية بالقدر المتاح.
وحاشية أخرى حول موقع المؤسسة العسكرية من مطلب إعادة الهيكلة او التفكيك :
رغماً عن إنغماس المؤسسة العسكرية السودانية فى العمل السياسى المباشر لمدة ثمان وأربعين عاماً من عمر استقلالنا الوطنى, أى بمعدلٍ يبلغُ خمسة أضعاف ما حكمته الأحزاب, ورغماً عن إنتهاء العهد بها لأن يتحكم بكافة مقاليد السيطرة بقيادتها العامة وكل أفرعها ووحداتها وحامياتها حزب عقائدىٍ لا يتحرّج من إشهار عضويته للإنتماء إليه وسط صفوفها, ولا يتورع عن نزع صفات الحيدة والإحترافية عن منتسبيها, رغماً عن ذلك, فما يزال انتقاد الجيش مما يُعدٌ مساساً محرماً يستوجب العقاب. هذا خطلٌ مريع.
فالقوات المسلحة ليست فوق الشعب, كما وهى ليست تمتلك حصانةً قانونية أو أخلاقية تعصمها من مطلب إعادة الهيكلة أو التفكيك ذاته إن دعا الأمر, حال فقدانها مقوِمات تأسيسها القومية وغياب انضباطها تجاه رسالتها المهنية. هذا معيارٌ مستقيمٌ وعادل.
هذا وفيما لا تخطر بالبال إمكانية تفكيك القوات المسلحة أو إعادة هيكلتها دون هزيمتها مادياً أو معنوياً كشرطٍ مسبق, بمثلما لا يجوز اليأس من القدرة الكامنة لدى الأغلبية الساحقة من الجنود والصف وصغار الضباط,أو تجاهل توقهم للإنعتاق من سطوة جنرالات وقادة خلايا التنظيم السرى للأخوان فى الجيش تطلعاً لمشروع التغيير, ينبغى البحث عن المسوغات المشروعة للتفكير فى إصحاح بيئتها الوظيفية مستقبلاً, وتنقية بنيانها مما علق به من تلويثٍ سياسىٍ من منظورٍ موضوعىٍ بحت.
والقاعدة المركزية التى يستند إليها هذا المنظور إنما تتنسب المفاهيم التالية:
- الجندية ليست مهنة اختصاصٍ علمىٍ محض بقدرما هى وجه من أوجه العمل الوظيفى تحكمه عقود وقوانين ولوائح خاصة لأمدٍ محدود يعقبه تسريحٌ أو تقاعد يفضيان بالجميع إلى سوق العمل المدنى المفتوح على كل المِهن وسبل كسب العيش,
- إن المتطوعين أو المجندين فى سلكها لا يمتازون عن عداهم من أقرانهم المدنيين أوان السلم, إلا بحسبان تفرغهم الكامل لمشاق التدريب والتسليح والصيانة والإمداد والإدارة.أما أوان الحرب, فالقتال من أجل الوطن فرض عينٍ على كل مواطنٍ لائقٍ بدنياً وذهنياً ونفسياً وليس وقفاً على عناصر القوات المسلحة,
- إن كم ونوع الجيش الوطنى لأى بلدٍ يرتبط ارتباطاً عضوياً بحجم ومدى المهددات والمخاطر القومية فى محيطٍ ملموس من الجغرافيا والتاريخ وليست تمليه اعتبارات جزافية تفتقر إلى مبادىء مرجعية فى علم الإستقراء والتحليل والإستخلاص,
- إنّ العقيدة القتالية للجيش الوطنى, أى جيش على وجه البسيطة, تفرضها سياسة الدولة والجوهر الإستراتيجى لرسالتها المختارة محلياً وخارجياً, وسياسة الدولة أمرٌ من اختصاص الشعب يعمِدّه بالدستور, و يولى زمام السهر عليه من تختاره إرادته الحرة,
- إنّ خصائص الوضع الجيو- سياسى للسودان ومصلحته القومية ورصيد التزاماته الدولية الموثقة لا تبرر الحياد قيد أنملة عن تبنى العقيدة الدفاعية لقواته المسلحة منذ أن كانت تُسمّى قوة دفاع السودان,
- من الطبيعى أن يكون لوضع البلاد الإقتصادى وتحديات التنمية القِدح المعلّى فى تحديد أوجه الإنفاق من الناتج القومى ومعدلاته بما يشمل كل أجهزة الدولة وعلى رأسها الجيش. فموازنة الجيش فى أبوابها الأول والثانى والثالث لا تأتى من السماء,
- يحتاج السودان فعلاً لا افتراضاً لجيشٍ وطنىٍ قومى التكوين, محدود العدد (50 ألفاً على أكثر تقدير عوضاً عن تعدادها الحالى الذى يقدر بستة أضعاف ذلك), عالى الحرفية المهنية, يكون بمثابة مركز التخطيط والإدارة والتعبئة لموجات خدمة التجنيد الإلزامى وفقاً للمعايير الدولية المعروفة فى تقنيات وآليات مدرسة جيوش الإحتياط,
- حرىٌ بحركات المقاومة المسلحة أن تنأى بفكرها عن إختزال مطلب إعادة هيكلة القوات المسلحة إلى درك مفاهيم وسوابق سياسة الإستيعاب, بل على قادتها ومفكريها البحث عن بدائل ذكية لاستثمار طاقات مقاتليهم غداة حلول السلام, أسوةً بغيرهم من أفراد القوات المسلحة الذين قد يشملهم التسريح المشروط بإعادة التأهيل والتعويض والتكريم, إن قيض لإعادة الهيكلة أن تأخذ مجراها الصحيح.
لقد أصاب الراحل قرنق حين وصف مصطلح "الإستيعاب" بأنه كلمة "معيبة" نصّاً وروحاً, وأصاب حين لم يُغرِهِ حجم جيشه بترفيع رتبته النظامية حين هجر مكانته الرفيعة فى فرع البحوث العسكرية الى الغابة,وأصاب مرة أخرى حين صمم على إعادة ترتيب أوضاع جيش التحرير بعد الإتفاقية بما أثار حنق نائبه سلفا كير, بل وكان على الدوام مصيباً فى مزجه الحاذق لهِبةِ القيادة العسكرية والحنكة السياسية وملكَة التفكير.
فيصل مصطفى
موظف سابق بالأمم المتحدة
مهاجر مقيم بكندا
مايو 2014 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.