طه الخليفة طه …. المجموعة القصصية "حشرات الروح" للقاص و الشاعر مصطفي مدثر من إصدارات مركز عبد الكريم ميرغني في سنة 2007م و لقد قام بتصميم الغلاف الجميل الفنان أيمن حسين و انجز الرسوم التوضيحية بالكتاب الفنان و المصور عصام عبد الحفيظ الصديق العزيز و لقد استخدم مجموعة من الصور المموهة بجمال و فن. مصطفي مدّثر كاتب سوداني له نصوص سردية و اشعار و مقالات متوفرة في الانترنت و هو من مواليد امدرمان في سنة 1949م . درس مراحله الدراسية في امدرمان وتخرج بكلية الصيدلة في جامعة الخرطوم و عمل صيدليا في الامارات و الكويت و مصر و يعمل الآن بكندا مديرا لصيدلية بمدينة بيري ساوند في اونتاوريو و لقدت حصل علي رخصة مزاولة مهنة الصيدلة بكندا في 2002م. متزوج و أب. زوجته الاخت الفاضلة مني الجزلي المرأة التي يجد الزائر لبيتها الأكرام و التقدير و هي أم كلٍ من المهندس طارق، رامي بجامعة يورك، غسان الفنان الذي تخرج في كلية موهاك بهاملتون و بشري بجامعة ماكماستر بهاملتون. بيتهم في هاملتون باونتاريو مكان عزيز عند كل السودانيين ففيه تنعقد الاجتماعات المهمة و به يتم الاحتفال بايام الوطن و ناسه الكرام. في هذا المقال سأتناول موضوعين في قراءتي للمجموعة القصصية و هما أولاً طريقة السرد the mode of narration . ثانياً سأسلط الضوءعلي امساك الكاتب بلحظات نادرة خلال تجربة السرد. تشتمل المجموعة القصصية علي اثني عشر سردية و هي: (1) كوب شعير: سرد الراوي الحكاية باستخدام ضمير المتكلم فشخصية السرد المركزية تفعل ما يقوله الراوي لتتم الحكاية و يتضح ذلك في البنية التالية ( تفعل ذلك كلما خَرجْت بحثاً عن أفكار. نعم اقترب قليلاً من المرآة و قُلْها بلا مواربة : أبحث عن وحي) ص8 . لقد مكنت طريقة السرد هذه الكاتب من جعل الراوي ( العليم و المسيطر) من جعل شخصياته تنجز أحداث السردية بشكل مغاير عمّا اعتاد عليه قراء القصص القصيرة. الشخصيات هنا مأمورة لتفعل ما يريده الراوي الذي. (2) مقاطع الفيروزة: هنا يخاطب الرواي القاريء و يؤانسه خلال عميلة الحكي ( صدّق إنني وحيد و غير قادر علي انتزاع النفس من براثن الليل البهيم)ص19 في هذه السردية الراوي هو المتكلم لمستمعً هو انت عزيزي القاريء. السردية المكتوبة بلغة شعرية باذخة كتبت في مقاطع و هي مقطع "فيروزة الحزن" ثم "مقطع للوحدة الأكيدة" ،"مقطع للحزن الكبير"، "مقطع ضئيل للأمل ..لضآلته" ثم "مقطع خاص بالطلاسم و القواقع" مقطع ثانٍ للوحدة الأكيدة" و المقطع الأخير بعنوان "مقطع الوصية" و لقد جاء كما يلي:( إن مررتم بمنعطف شاحب و وجدتم عنده شبحاً تلظي بنار لن ترونها. فخذوا الحكمة من شهقة إنعطابه .خذوا بعض العلم من رائحة انتظاره. ثم خذوا آمالكم و إستأنفوا) ص26 .الغنائية هنا في هذه اللغة الشعرية لا تحتاج لدليل لأنه سيسطيع القاريْ دون عناء أن يقوم بتقطيع النص لوحدات شعرية كاملة البناء. (3) إنتظار: و هي كما حدّد الكااتب تحت عنوان السردية أنها مهداة ( إلي أخي . و خليلي هاشم الخير حبيسا فس سجن كوبر 1990م) ص 27 . و هنا يستخدم مصطفي مدّثر لسوق الحبكة أسلوباً يشبه طريقة السرد في النص الأول و هو سرد الحكاية بضمير المتكلم. و يستطيع القاريء أن يقول إن الراوي يتكلم مع خيال صديقه هاشم الخير السجين السياسي في 1990م بسجن كوبر. اللغة في هذه السردية شعرية و لمّاحة جداً و فيها يحاول الرواي استنطاق خيال صديقه لاصدار تقيمات و أحكام عن عسف السجون و وحشتها. و لنحاول الآن التوقف عند هذا النشيد السردي المميز ( البحرُ ساكنٌ الاسماك تلوح لك بشهادات ميلادها إن الأمر بعد شائك، وأنا أمزق اسمالي قدّام العذاري في اللوحة التي في الغرفة التي………. في الغربة التي …….. عبرت بنا ؛ كلينا للهفة التي ……. للشهقة التي ذكرت فيها أنك طيفُ عائد و إنهم سيفسحون للريح عبر قضبانهم تنقض علي أوراق الذاكرة و إنك شامخٌ و ناذرٌ نفسك للوعد القريب) ص31 اللغة الشعرية واضحة الملامح و النشيد محدد و المواقف كلها موصوفة بعناية و حدْب. (4) إرتحالات: تختلف هذه السردية عن رفيقاتها باستخدام الراوي العليم الغائب و ايضا تتميز بلحظات سردية مدهشة جداً حيث يتنقل الراوي بما يشبه حركة الأطياف بين القاهرة و امدرمان في مشاهد عادية كمنظر فتاة جميلة تتكلم مع حبيبها عبر التلفون أمام موظف اتصال انهارت كل دفاعاته كرجل أمام جمالها الذي أوسَقه سِمْتُها فتناسلت الدهشة لتلد سرداً حافلاً بالمشاهد و الصور و المواقف. (5) حشرات الروح: و هي السردية التي حملت المجموعة اسمها. في هذه السردية يحكي لنا الراوي عن أمور حدثت له . و محور القصة عن عن هيئة الأفكار و شكلها و كيف يمكن تدميرها بمبيد فكري. الجديد في هذه السردية هو موضوعها و طريقة تعامل الكاتب معه. فالفرد في هذا العالم قد تحوجه الظروف لرش مبيدي فكري علي افكاره ليتحرر منها و كم هي كثيرة الافكار التي تستحق هذا المصير المدهش. (6) بدونها يقرعون الارض، مازالوا: الراوي هنا يحكي لنا كعليم بضمير المتكلم عن تجارب تتم بين الرجل و المرأة التي تعجبه و هي تفعل ما تريد في حياتها دون اهتمام بأحكامه عليها أو حتي دون التفات لإعجابه بها. تجادل هذه السردية حكاية الرجل مع المرأة و محاولة السيطرة حتي صورتها في ذهنه. فهنا المرأة مثقفة قد تزوجت حارس مرمي بفريق لكرة القدم كل ما يملكه هو بنيان جسدي شديد الجمال و الفتوة. و يتركنا الراوي لنحاول أن نجيب علي السؤال لماذا تحب المرأة فلاناً؟ و تترك ذاك؟ و لنتأمل في هذه السردية هو مقطعها الأخير ( إنتحيت قليلاً لأبصق سفتي، فألفيتهم.. لازالوا .. يقرعون الارض بأحذيتهم و بعض تفاصيلهم تنزلق لتطفوا بعيداً عنهم حتي لأظن..) ص 59 تنتهي السردية هكذا و نحن لا نعرف ما يظن الراوي. هذه ليست نهاية مفتوحة فحسب بل إن جاز التعبير فهذه نهاية تهتم كثيراً بحرية القاريء في الظن حتي و تخيل ما يريده عن شخصيات السرد و الراوي و مصائرهم لأن الموضوع بطبيعته به مداخل لآراء لا نهاية لها. (7) رؤي لا تطرف لها عين: مكتوبة أيضا بضمير المتكلم الذي يحول القاريء لمخاطب برسالة خاصة و في هذا إلفة و حميمية نشكر عليهما مصطفي مدّثر. لأن النص هنا يتحول لما يشبه رسالة خاصة. اللغة شعرية و عميقة. الأحداث بين كندا و امدرمان في ارتحالات طيفية و أخيلة منعكسة ففي كندا ما يذكر الراوي امدرمانه المفقودة. و يرد فيها مقطع مهم هو في الحقيقة نشيد شعري مميز ( أفسح مهابط الذاكرة لأزيز يقترب .. يقترب… و يقترب! فافتح يا زمان السهام الشالت ازيزها معاها لحقتها صاعقات من لحون ضاريات و شوف كما القعقعات و أسمع الصليل و أرتال حشرجات مبهمات مفعول المهدي يقوي علي برد السراديب …………. مفعول المهديء يفتح كوة علي امدرمان في ستينات قرنٍ فات نداءات الضحايا، ارتطام الدفوف، و هاهي ذي أبواقٌ تعزز خطو المنايا و المنايا قادمات و الوغي يعبر بيتنا يعبرنا عبر ثقوب في الكرتونة المثبة علي النافذة ) في هذا النص الشعري الذي حوته السردية نلاحظ استخدام الراوي لمفردات من اللغة الدارجة ؛ الشالت، كمان، شوف و كرتونة. تذكرنا هذه المفردات تجارب ابداعية أخري نتذكر منها ما ينسب للراحل بابكر بدري ( جاء الخريف و صبت الامطارُ و الناس جمعاً للزراعة ساروا) و غيرها عند المجذوب و عبد الله الطيب و حمزة الملك طمبل و يحى فضل الله وغيرهم ممن يزاوجون بين العامية و الفصحي. (8) دهشات صغير في نهار ربيعي: هنا ايضا يروي لنا الراوي حكايته بضمير المتكلم. و لا يفوت فطنتكم أن هذا الاسلوب دارج في القصص الشعبي و جميعنا يعرف الضم و اللإلفة العائلية في عملية سرد الحكايات و القصص الشعبية. و علي ما أظن فلقد استخدم مصطفي مدثر هذه الطرائق السردية لجعل تلك الإلفة بينه و بين قرائه أمراً ثابتا. احداث الحكاية تمت في اوتاوا بكندا و هي نص مميز. (9) طيف:مكتوبة بضمير الغائب ( الرواي العليم) في هذه السردية التي تشبه خاطرة. يناقش الراوي تجربة قراءتها لنص كتبه. و تحس ما يلتبس نفس الكاتب من اللعْج و هو يتأمل من تقرأ نصه الجديد لأول مرة. التجربة فريدة و الامساك بها مبدع و سأورد بعد اتمام التعليق علي طرائق السرد تعليقاً عن تلك اللحظات النادرة. (10) الأولاد السودانيون: حكاية بالمهجر، عن شبابنا و كفاحهم مع اللغة الجديدة و المكان المختلف و حرصهم علي أن يكونوا سودانيون كأنهم في القضارف أو امدرمان. السردية مكتوبة بضمير الغائب لراوٍ عليم بكل ما يمر من أخيِلة عند شخوصه و يرصد ما يقولون بدراية مُحِبة. الغربة و الهجرة عند الكاتب هي مجرد تبدل في المكان كما ورد علي لسان الراوي ص99. فالسودانيون هم هم هنا في المهجر أم هناك في الوطن. (11) خيوط موسي: يحكي لنا الراي بضمير المتكلم عن تجربة مهمة و هي عودة الراوي لامدرمان و لقائه بموسي بائع الخيوط و التزري امامه و بائعة الفول الحسناء ذات المظهر الفقير بسوق امدرمان. المدهش في النص أن الراوي يريد أن يحكي لموسي عن كيف رأَي نفسه تماما رأْي العين و يبدو أن موسي كان غارق في لجة الوطن بانتظاراته المؤبدة عند كل من يحلم بالرحيل و السفر بعيداً. هي قصة الحنين و لقاء الغائب من الجغرافيا المفقودة و الناس البعيدين. (12) بنت الأصول: مكتوبة بطريقة الراوي العليم بضمير الغائب. تحكي حادثة مما يجب علي السودانيين احتماله في غربتهم و هي فكرة التعامل مع ما هو غريب.يعالج النص امزجة جنسية غريبة و دهشات أخري. بعض اللحظات النادرة في متون السرد: تمكن الكاتب بنجاح باهر من الإمساك بلحظات نادرة و كان لمّاحا جدا في تدوينها فيما يلي سأورد بعضا من تلك اللحظات. فلنلاحظ هذه العبارة (البحر ساكن و الاسماك تلوّح لك بشهادات ميلادها) ص31 في القصة "انتظار". هذه صورة مدهشة جداً و يجللها خيال مهيب و المدعو للمشاهدة هو انت عزيزي القاريء. و لنلاحظ ايضاً ( فما حاجتي لي إذاً؟) ص 53 و هناك في نفس القصة "بدونها يقرعون الأرض مازالوا" عند الكتاب تتعدد لحظات الانفصال التامة بين الراوي و نفسه حتي أنه يري نفسه عيانا بيانا كما في قصة " خيوط موسي" . و لنلاحظ هذه في ص 73 بقصة "رؤي لا تطرف لها عين" ( جاءني صوتها واهناً و كنت أظنها نامت فقررت أن أُسمعها تنفساً منتظما كي تعفيني من الحديث). و كثيراً ما يفضل بعضنا الصمت حتي إلي جوار من نحب و نفقد الرغبة في التواصل و نفضل أن نجول بخواطرنا كيفما شئنا. و هنا في 75 من نفس القصة ( كانت ليلة داجية و خرجت لها النجمات كلها و دنا بعضها يسمعني لغطاً، لكن انفلاق ذلك المذنب من خلفها جعلني اركض لادخل الغرفة الأخري محتبس الانفاس) هذا امساك رفيق بلحظة نادرة جداً فانجم الليل قد تعرّت و بذلت انوارها و تكلمت. و في ص 83 من قصة "دهشات صغيرة في نهار ربيعي" ( رأيت رجلين يتهيئان للجلوس علي مسطبة امام منزلٍ قبالتي) ربما يكون من الاعتيادي أن يقال ..هما جالسان أو متوقفان عن المشي، أو ماشيان لكن التهيؤ للجلوس و تدوينه في متون السرد يعكس قدرة علي الامساك باللحظات النادرة في بنيات السرد. و في قصة "الاولاد السودانيون" سمع الراوي ( ذلك الصوت الرمادي الخشن المشروخ الذي يصدره حذاؤه و هو ينغرس في الجليد كانسب إيقاع لتعاسة محتملة) ص 94. بالكتاب العديد جداً من التعابير المهمة و ذات الحمولات المختلفة من الحنين و النزق و الخوف و الانتظار. في تقديري إجمالا المجموعة القصصية لمصطفي مدّثر " حشرات الروح" واحدة من أهم الاعمال الأدبية في زماننا السوداني الغريب هذا. لأنها تسجل خواطراً مسافرة و تجارب مهاجرة و ارتحالات قسرية و مواجهات عنيفة مع الخغرافيا غير المعتادة و الناس المختلفين . هي كتابة تشبه نشيداً يهْجِس بالحزن و مهتماً بما يتم في الواقع السوداني خارج الوطن و بداخله. غطت الكتابة فترات مهمة من تاريخنا و سجلت مشاهدات عظيمة عن امدرماناتنا المفتقدة و فراديس الخيال التي يفتح ابوابَها الحنينُ و الغربةُ.