د. فيصل عوض حسن دَرَجَ العالم مُمثَّلاً في مُنظَّمة الأغذية والزراعة للأُمم المُتَّحدة (FAO) على الاحتفال سنوياً في السادس من أكتوبر بيوم الغذاء العالمي، تقديراً من العالم ومُؤسَّساته ومُنظَّماته المُتخصصة لأهمية الغذاء كعُنصُر حيوي وهام للبشر واستدامة الحياة. فكان أنْ خصَّصت هذا اليوم للاحتفال بالغذاء، إبرازاً لأهميته، مع تحديد شعار مُحدَّد في أحد مُكوِّنات الغذاء يرتبط بالزراعة بشقيها النباتي والحيواني، باعتبارها المصدر الأساسي للأغذية. في هذا الإطار، ووفقاً للمُعطيات الماثلة، فإنَّ السودان من بين الدول التي نالت اهتماماً خاصاً على مر العصور السابقة، انطلاقاً من الموارد الطبيعية العديدة التي يتميَّز بها، بدءاً بالمساحات الشاسعة جداً والتنوُّع المناخي الكبير، مروراً بتوفُّر مصادر المياه بأنواعها المُختلفة (سطحية وجوفية وأمطار كثيفة)، انتهاءً بالأيادي العاملة على مُختلف مُستوياتها الأكاديمية ذات العلاقة بالإنتاج الزراعي، مع أعداد وافرة من الثروة الحيوانية ممثلة في الماشية والمجترات الصغيرة (ماعز وأغنام) بجانب الإبل. هذا بالإضافة إلى الموقع الجُغرافي المُتميز للسودان، حيث يربط بين شمال أفريقيا وجنوبها وغربها من جهة، ويُطل على البحر الأحمر من جهةٍ ثانية، كرابط مع بقية الدول العربية في المشرق العربي. هذه المُعطيات العديدة، دفعت بالعالم أجمع للنظر إلى السودان كأحد الروافد الرئيسية لإنتاج الغذاء، ليس فقط على الصعيد الإقليمي وإنما على مُستوى العالم، فكان السودان حاضراً منذ استقلاله في كل ما يرتبط بالغذاء عالمياً وإقليمياً. كما اتجهت الدول العربية بمُؤسَّساتها التخصُّصية نحو السودان، بل وأُقيمت المُؤسسات الرئيسية المسئولة عن الزراعة على الصعيد العربي بالسودان، فجعلوه مقراً لها استناداً للمُعطيات آنفة الذكر، وتمَّ ضخ أموال مُقدَّرة في هذا الخصوص سواء في ما يتعلق بالاستشارات الفنية أو المشروعات التنفيذية التي تُصب جميعاً ضمن جهود تحقيق الأمن الغذائي العربي. وبالفعل حقَّقت تلك المُؤسَّسات نجاحات مُقدَّرة، لا سيما في سنينها الأولى والتي انحصرت في عقد السبعينات والثمانينات حتى عقد التسعينات. والجميع شاهد الإنجازات التي حقَّقتها المشاريع الزراعية العربية في السودان، سواء كانت إنتاجاً زراعياً أو حيوانياً أو تصنيعاً غذائياً، ولكنها بدأت في التراجع وبلغت مُستويات مُحبطة جداً، بفعل الإدارات غير المُواتية، فضلاً عن السياسات الاقتصادية ومن ضمنها الزراعية التي انتهجها االسودان. فبالنسبة لإدارات تلك المُؤسَّسات، وهي في الغالب مُشتركة، كانت ثمة ضوابط صارمة تحكمها ويتم مُتابعتها بنحوٍ مُشترك بين الجهات العليا لكل مُؤسسة وبين الحكومة السودانية، إلا أنَّ السودان سمح بمجموعة من التجاوُزات ساهمت في هذا الواقع المُتراجع والمرير. وفي ما يخص السياسات، فإنَّ السودان ساهم بنحوٍ كبير – منذ بدايات التسعينات وحتى الآن – في التراجع الذي شهده الإنتاج الزراعي، سواء الخاص بالسودان كدولة أو تلك المشروعات المُشتركة. ولعلَّ من أهمَّ السياسات الخاطئة بجانب الفساد المستشري في نظام الحكم، تلك الخاصة بتغيير التركيبة المحصولية لمشروع الجزيرة، وإحلال القمح محل القطن نزولاً لاعتبارات سياسية (بحتة) دون دراسات تخصصية وموضوعية ودقيقة، فخسر السودان الأسواق التي كان يبيع فيها قطنه الذي ساهم كثيراً في الدخل القومي السوداني منذ عهدٍ بعيد، واستفاد السودان من عائداته في تلبية كثير من احتياجاته المحلية الأخرى بما فيها القمح، وفي ذات الوقت فشل في إنتاج القمح بالمُواصفات القياسية العالمية المعروفة وبالكميات الاقتصادية المطلوبة، نتيجة لعدم مُلاءمة الأجواء المناخية السودانية لإنتاج قمح بالمُواصفات المُشار إليها. ومنذ ذاك الوقت أي بدايات التسعينات دخل مشروع الجزيرة في مُتاهاته اللامُتناهية ولا يزال، ولربما يستمر في هذا الخصوص ما لم تتغير الرُؤية فيه أو في بقية المشروعات وفقاً للميز النسبية التي يتمتع بها السودان بعيداً عن أي اعتبارات سياسية. على أنَّ أخطر ما في موضوع تراجع الإنتاج الزراعي السوداني بشقيه النباتي والحيواني، يبقى في عدم امتلاك السودان لزمام المُبادرة كالسابق، حيث أصبح السودان مُتلقياً دون أن يُبادر هو بتحريك حركة الإنتاج في القطاع الزراعي، وفقاً لما يمتكله من مزايا نسبية لإنتاج عناصر أو مُكونات زراعية أو حيوانية مُعيَّنة، لا سيما تحديد الفرص الاستثمارية بصورة مُتكاملة تشمل دراسات جدوى فنية واقتصادية كاملة في استراتيجية شاملة في إطار الاستراتيجية الشاملة للدولة، مع خطط العمل الخاصة بهذه الاستراتيجية وهو ما لم يحدث، حيث اكتفى السودان فقط بتوزيع أراضيه دون هُدى أو دراية مما ساهم في تعميق المُشكلة. على سبيل المثال لا الحصر، أغفل السودان الحبوب الزيتية التي يتميز بإنتاجها بنحوٍ كبير كالسمسم وزهرة الشمس والفول السوداني والقوار بجانب صناعاتها، ولم يُقدِّم أي مشروع أو دراسة نوعية ومتخصصة مُتكاملة منذ عقد الثمانينات حتى الآن، وهي وحدها كانت تكفي لتحقيق التميز للسودان وتدعم اقتصاده الوطني، في ظل الفجوة الغذائية العربية الماثلة في الزيوت النباتية والتي قُدرت وفق آخر إحصائية بنحو 76%، مما يعني ضمان تسويق هذه المُنتجات وبالتالي تحقيق وفورات نقدية كبيرة بجانب المُساهمة في ردم هذه الفجوة. كما تمَّ التعامل مع الثروة الحيوانية برعونة شديدة اعتمدت بالأساس على تصدير (كميات) كبيرة بعيداً عن (القيمة)، شملت في أحايين كثيرة تصدير الأناث، وهي عملية أضرت بالسودان من جهة وبالدول العربية المستوردة من جهةٍ ثانية، حيث يتم جلب الأناث من السودان بغرض الإكثار في أجواء غير مُواتية، مما يرفع تكلفة الإنتاج ويُقلل من جودة المُنتَج (وهو موضوع آخر سنفرد له مُساحة خاصة). هذه الأمور ساهمت – مُجتمعة – في إضعاف الإنتاج الزراعي السوداني، رغم وجود مُعطيات أو فلنقل فرص النجاح. وللحقيقة، ورغم التقدير العالي جداً للأموال العربية التي تمَّ ضخَّها في تلك المشروعات الزراعية المُشتركة المقامة في السودان، والتي أسفرت عن بعض النجاحات كما أشرنا بعليه، إلا أنَّ نجاح الإنتاج الزراعي السوداني، وبالتالي الغذاء – فعلياً – ليس بحاجة لكل هذه الأموال بقدر حاجته للإدارة السليمة والواعية، التي تعمل على الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية الهائلة جداً التي يحتويها، وهو ما لم يتحقق. إنَّ مسألة الغذاء باتت حيوية أكثر من ذي قبل، باعتباره أضحى من المُقومات الرئيسية لتقدم الدول، وتُستهلك أموالاً طائلة لجلبه وتوفيره للشعوب، ليس فقط على الصعيد الإقليمي وإنما على المُستوى العالمي، وينبغي ألا تمر هذه المُناسبة – يوم الغذاء العالمي – كمناسبة عابرة، يجري فيها تبادل الكلمات والعبارات البروتوكولية، لتتجاوز هذه الشكليات وتصل إلى حلول موضوعية وعلمية و(عملية) بناء على دراسات واقعية ورصينة، يجريها ويُشرف عليها مُتخصصون في كل المجالات المُرتبطة بإنتاج الغذاء. وبالنسبة للسودان، فإنَّ الفرصة لا زالت مُواتية أمامه، إذا ما تغيرت الطريقة التي يُدار بها القطاع الزراعي. وبمعنىً آخر، لابد من وضع استراتيجيات واضحة المعالم لتنمية وتطوير القطاع الزراعي، بما يعود بالمنفعة عليه وعلى من حوله من الدول، وبما يُقلل من الضغط الاقتصادي الناجم عن استيراد الغذاء، ومن أهمَّ مُرتكزات هذه الاستراتيجيات الميز النسبية التي يتمتَّع بها السودان باعتبارها مفتاح النجاح، ومن الخطأ إنتاج ما تحتاجه أنت (داخلياً) حتى ولو كان غير مواتياً هذا الإنتاج، وإنما الحكمة تستدعي إنتاج وتطوير ما يجود إنتاجه في بلدك، بما يُحقق لك التميز بأقل التكاليف الممكنة، على أنَّ هذه الأمور لن تتحقَّق تحت ظل هذه المجموعة الإسلاموية الفاسدة، بعدما (عمدت) لإلغاء وطمس كل معالم المؤسسية والعلمية والأخلاق في كافة مناحي الحياة بالسودان.