قضية للمناقشة: دعاة ومثقفون فريدة النقاش تشهد حياتنا الثقافية في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد صراعا خفيا حينا ومعلنا حينا آخر، بين الدعاة الذين تغريهم الأوضاع بالسعي لفرض الهيمنة على وجدان الجماهير العريضة القلقة، وبين المثقفين الذين يعيدون النظر في الكثير من مسلمات الدعاة ورؤاهم وأفكارهم، ويدعون إلى إعمال العقل النقدي في كل من شؤون الدين والحياة واضعين المتغيرات الواقعية المتسارعة في الاعتبار. وتزداد المسافات الفاصلة اتساعا بين كل من الدعاة والمثقفين كلما أوغل الدعاة في تسييس رؤاهم وأفكارهم وتعميق الارتباط بينها وبين الدعوة الإقليمية لما أسموه باستعادة الخلافة الإسلامية، دون إدراك حقيقي لفكرة أن مفهوم الاستعادة هو في حد ذاته مفهوم رجعي ووهمي لأنه يفترض بدءا عودة التاريخ للوراء. إن الداعية واعظ، يرفض من حيث المبدأ أن يكون هناك معقب على مواعظه أو مجادل، لأنه وإن لم يعلن ذلك فهو مقتنع في قرارة نفسه أنه صوت الله، وإذا لم يستمع الذين يعظهم إلى هذا الصوت يكونون خارجين على الملة، مستحقين للعقاب. ولا نستطيع حتى الآن أن نجد تبريرا متماسكا للوحشية المثيرة للغثيان التي يمارسها الطالبانيون والداعشيون، وغالبية جماعات اليمين الديني المسلح، سوى انطلاقهم جميعا من هذا اليقين الثابت الذي لم تهزه كل المتغيرات، وهو اليقين الذي جعلهم يخاصمون العصر، بل يعتبرون أن الأدوات التي وفرتها التكنولوجيا والعلم قد خصصها الله لهم لرفع رايته. ويتأسس مبدأ السمع والطاعة لدى جماعة الإخوان على مثل هذا اليقين الذي ينتج لديهم حالة ثابتة، ورؤية شاملة محصنة – باسم الله – ضد أي تغيير، وهي تستمد هذه الحصانة من أعماق التاريخ مع نزول الرسالة المحمدية، وتلقي الرسول "ص" للوحي، وما أن انقطع هذا الوحي إلا وجرى مع هذا الانقطاع إغلاق أبواب الاجتهاد، وتجريم إعمال العقل البشري فيما أنزل الله، ثم قطع الطريق عبر التاريخ الإسلامي على الحركات والقوى والأفراد الذين أعملوا العقل حتى لا تتواصل مسيرة هذا الاتجاه بصورة طبيعية وسلسلة من الثقافة العربية الإسلامية. ومايزال الجدل قائما منذ ذلك الحين أي منذ خمسة عشر قرنا حول مشروعية التأويل، وتواصلت عملية تكفير بل وقتل مثقفين وفلاسفة ومفكرين مجتهدين لأنهم كما قيل تجرأوا على النص وفقا لتعبيرات الدعاة الوعاظ. وتمثلت هذه الجرأة تبعا لهذا المنطق العتيق الجامد في تحليل ما سماه هؤلاء الفلاسفة والمفكرون بأسباب النزول متسائلين: لماذا نزل القرآن منجّماً أي متفرقاً ولم يأت دفعة واحدة. وتساءل هؤلاء أيضا عن علاقة النص بالواقع الذي كان قائما حين جاء هذا النص، وهو الواقع الذي لم يبق أبدا ثابتا بل طاله قانون التغير كما يطول كل شيء في هذا العالم. واقتضت هذه الرؤية العلمية الموضوعية الواقعية للنصوص أن يستخلص البشر منها مجموعة من القيم والمثل الأخلاقية، التي اجتهدت البشرية منذ دب الإنسان على الأرض في التوصل إليها عبر الفلسفات والديانات بل وعبر العلم والفنون والآداب أي عبر الثقافة والحضارة. واختار المثقفون النقديون- الذين كانوا عبر التاريخ الإسلامي أقلية مهمشة ولايزالون كذلك حتى يومنا هذا- اختاروا أن يقدموا للجماهير العريضة- إن استطاعوا- خطابا عقلانيا نقديا يضع الدين في المكان الصحيح الملائم، مع دعوة للنظر إلى التغيرات العميقة والمتواصلة التي أحدثتها مسيرة البشرية عبر القرون المتتالية في المجالات كافة، من العلم للسياسة، ومن الفكر للفن، ومن العلاقات الاجتماعية، إلى علاقة الإنسان بالطبيعة.. إلخ ولكن اليمين الديني يرفض قانون التغير ويظل متشبثا بالماضي باعتباره الجنة التي يسعى هو لإعادتنا إليها. ولم يكن اكتشاف المثقفين النقديين للسمات المشتركة بين اليمين الديني والفاشية افتراء أو افتعالا، لأن كلاً من اليمين الديني والفاشية يقفز فوق الصراعات الاجتماعية تطلعا لإجماع يضم الغني والفقير، الرجال والنساء وإن كانت النساء لدى الفريقين أقل درجة، ويستظل هذا الإجماع عادة براية الله الذي يمثله على الأرض الزعيم الأوحد، ودائما هناك جناح مسلح ،لأن إثارة الرعب وإسكات الأصوات الناقدة يؤدي إلى سيادة الخوف ويشل المقاومة. وتتشابه البني الذهنية للدعاة الدينيين والدعاة الفاشيست من زاوية النظرة الأحادية وعبادة القوة. وتتمثل المحنة التي تواجهها المجتمعات الإسلامية مع اليمين الديني في أن هذا اليمين ليس عرضا عابرا، بل إنه يقع في نسيج تاريخ وطني وقومي متصل. فريدة النقاش أديبة وكاتبة مصرية.