سيف الحق حسن من الحقائق التاريخية المعروفة انه لم يدخل دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التسع سنوات الأولى سوى أربعين نفرا، وبلغ المسلمين عند الهجرة حوالي بضع وثمانون فقط. وهنا أريد أن أسألك: هل كنت ستكون مع أولئك الأربعين أم كنت ستكون مع أبوجهل وزمرته، الذين كذبوه وقذفوه بالحجارة؟. وبغض النظر عن الحقيقة والصواب، حتما إنك ستقول سأكون مع الأربعين، وأي واحد فينا سيقول ذلك لأننا نشأنا في بيئة تقدس النبي عليه أفضل الصلاة والسلام. ولكن إن كنا نشأنا في بيئة تقدس الأوثان سيكون جوابنا مع أبوجهل لأن تفكيرنا وسلوكنا سيكون مثل غالبية الناس في ذاك الزمان الجاهلي. فلا فرق إذن، والرابط هنا التعصب الأعمى للتقاليد والموروثات. إن الناس تختلف في تفكيرها ولا يمكن أن تكون بنسق واحد، ولكن أكثر مايؤثر فيها تعصبها للاشعور. فكل إنسان له عوامل لاشعورية تؤثر في تفكيره من حيث يدري ولا يدري: كالمعتقدات والقيم التي نشأ عليها في بيئته، والعاطفة المسيطرة عليه، والمصلحة التي يسعى نحوها، وسعة المعرفة التي يملكها، ودرجة ذكاؤه الموروثة، والتجارب التي مر بها، والعقد النفسية التي تتحكم به. فكلما كان الإنسان أوسع معرفة وأكثر تحررا وذكاءا، وأقل تقوقعا وإنعزالا، ضعف تعصبه وتأثير العوامل اللا شعورية فيه. ولاحظ أنها تقل فقط، إذ لا يمكن أن التخلص منها تماما. ولكن بهذه المرونة النسبية والإعتدال يتمكن الإنسان من معرفة الحقائق إلى حد ما. وإذا ظل إنسانا متعصبا طوال حياته لن يرى الحقيقة ويضل عن طريق الحق. ويمكنك الآن قياس تعصبك بوضع نفسك مكان الآخر، إذا كنت في نفس ظروفه، -إذا كنت إسلاميا أو كوز مثلا- هل كنت ستتصرف مثلهم أم لا، كن صريحا مع نفسك ولداء التعصب علاج ناجع سنتعرض له لاحقا بعد التطرق لبعض أمثلة التاريخ. ولكن دعنا نغوص هنا قليلا في مصدره الذي ينبع من اللا شعور. اللاشعور.. للا شعور جوانب سلبية وإيجابية. فمن الجوانب الإيجابية فيه بأن الأفكار المبدعة التي ساعدت في تطور المجتمع البشري إنبثقت من ومضات خاطفة من لا شعور بعض الأفراد. ويمكن أن نقول أن معظم الناجحين في الحياة قد إستمدوا حياتهم من الحدس وإستثمارهم مواهب اللا شعور. إنهم يوفقون بين إبداعات خيالهم وما يلحظونه من الواقع حولهم ولا ينسجون واقع إفتراضي وهمي يرميهم في وهن شباك أسلافهم. وهم يراقبون اللا شعور الضار الذي ينبعث من الجمود والتمسك اللا إرادي بكل ما في الماضي. أما الجوانب السلبية للا شعور فله عدة جوانب أهمها: - التعصب التقليدي: وهو ميل الإنسان للتمسك بالمعتقدات والعادات والموروثات والقيم التي نشأ عليها، أو بمعنى آخر الثقافة التي نشأ عليها. والله تعالى يريدنا أن نتفكر ونعقل لنعي حقائق العصر ونتبع الحق. فهذا التعصب يمقته الله عز وجل في أكثر من موضع بقوله سبحانه: ((وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)) [الأعراف: 28]. ((بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون* وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون* قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون)) [الزخرف: 24]. فالتعصب أعماهم عن الحقيقة وقادهم للتكبر وعدم التسليم وبالتالي لكفرهم. - التعصب العاطفي: وهو ميل الإنسان للتحيز بالعواطف في الأمور. فإذا أحب شخصا أفرط في المحاسن وغض النظر عن مساؤه واتبعه بإنقياد أعمى. بل وقد لا يرى عيوبه ويحبه كحب الله والعياذ بالله((ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله)). ويتصور أنه مالك الحقيقة ومع الحق طوال الوقت. إن الناس اليوم أغلبهم من هذا النوع. فهم يتبعون مذهبا أو جماعة أو شيخا بعينه، فلا يحيدون عنه ولا يستمعون لغيره ويتبعون فتوى وكل سبيل يشقه لهم هذا المُتبع. والله تعالى يحذر من ذلك بقوله: ((إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب)) [البقرة: 166]. الذي يريد التخلص من هذا التعصب عليه بتعويد نفسه الحكم بالعدل، والنظر والإستماع للأراء المختلفة في مختلف المواضيع، وإتباع أحسنها وإن كانت واردة من مخالف له في فكره. وبذلك يكون من الذين يقول عنهم الله تعالى: ((الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب)) [الزمر: 18]. - الدافع المصلحي: وهو بحث الإنسان عن مصلحته الشخصية ودرء الضرر عنها، وهو قد يجمع كل القرائن والأدلة ليثبت أنه يسعى للحق في قضيته، وذلك مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ((و إنه لحب الخير لشديد))،((بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره)) [القيامة: 15]. فمن يؤيده فهو عادل ومن يختلف معه ظالم لعنة الله عليه. - عوامل أخرى: كالأنوية: وهي سعي الإنسان لرفع مكانته. والرغبات المكبوتة: التي يريد الإنسان أن يفعلها ولكن هناك حدود مجتمعية لا يستطيع تخطيها. وهذا ما تلخصه الآية: ((بل يريد الإنسان ليفجر أمامه)) [القيامة: 5]. وكمثال، بعض الأحزاب والحركات والجماعات والحكام الذين يصفون أنفسهم بالأتقياء وربما قد يكونون كذلك قبل السلطة ولكن عند السلطة يتحلون إلى مجرمين لأنهم بشر يميلون لكل خير للنفس وينسى بقية الناس، وهذه طبيعة الإنسان. ومن عوامل اللا شعور التجارب الحياتية: وهي التي تؤثر في نفسية الإنسان بطريقة سلبية أو إيجابية. فمنها ما قد يرسب الحقد والإنتقام، ومنها ما قد يعزز العفو والتسامح. الإندفاع غير الواعي لعوامل اللا شعور هو الذي يقود للتعصب. وفي هذا العصر الحاضر على الرغم من كل ما توصل إليه الإنسان من تحضر ورقي في المفاهيم الإنسانية وحرية الفكر والرأي فلا يزال كثير من الناس متأخرا جدا في محاولة تفهم وجهات النظر الأخرى التي تختلف عنه، أو التعرف على الزاوية التي ينظر من خلالها من يخالفه الرأي. ونجد داء التعصب يتفاقم في سلوكيات الجماعات والحركات والطوائف والأحزاب التي لا تأبه بشن الحروب على طول الأرض وعرضها لنصرة حقها ولسحق الباطل الذي هو أساسا حق غيرها. فكل من يكون تحتهم لابد أن يرفع راية الولاء عاليا الذي قد يضله ضلالا بعيدا. وبذلك لن يعرف التفريق بين الحق والباطل، ولن ينجوا من هذه الدوامة بتاتا. * الحلقة: كيف تفرق بين الحق والباطل (6) المألوفات والفذلكات الإجتماعية.. السبت إن شاء الله.