في ورشة عمل نظمتها وزارة الخارجية السودانية بالتعاون مع لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا دار حديث كثير عن ضعف حصيلة تحويلات المغتربين السودانيين العاملين في الخارج بالطريق الرسمي وعبر المصارف حتى تستفيد البلاد من حصيلة النقد الأجنبي أو يستفيد المغترب عبر تأسيسه لنشاط اقتصادي في الداخل ووضح من الأرقام المتاحة أن تحويلات المغتربين السودانيين بالطريق الرسمي عبر المصارف في تراجع مستمر وأنها انخفضت في العام الماضي إلى واحد في المئة من الدخل القومي بعد أن كانت العام 2013 تساوي ستة في المئة. البنك الدولي أبدى حرصاً على تطوير آليات جذب مدخرات المغتربين وتحويلاتهم إلى أسرهم وتعبئة تلك الموارد لإحداث تنمية في السودان خاصة وأن الكثير من دول العالم الثالث نجحت في ذلك وانتهجت سياسات تشجع مغتربيها على إرسال تحويلاتهم عبر القنوات الرسمية واستثمار مدخراتهم في مشاريع تنموية ولكن السودان ليس من بين الدول التي حققت نجاحاً وجهاز المغتربين القائم الآن لا يعدو أن يكون جهاز جباية علاقته مع المغترب هي تحصيل الزكاة والضرائب الأخرى العديدة ولا يلجأ إليه المغترب إلا مضطراً لتسديد تلك الإتاوات حتى يحصل على خلو طرف وتأشيرة خروج يعود بها لموقع عمله بينما الدول التي تهتم بتحويلات مغتربيها تضع استراتيجية واضحة المعالم لتشجيع المغترب ومنحه تسهيلات وإعفاءات وخلق شراكة بينه وبين الدولة وحتى المصارف تسعى إلى اتخاذ سياسات أكثر تشجيعا له وتقديم تسهيلات مصرفية وفق الضوابط المعتادة ولا بد من خلق جهاز جديد لتنفيذ مثل هذه الاستراتيجية ولكن هناك عقبات كثيرة لا بد من تجاوزها قبل أن تطبق مثل هذه الاستراتيجية. أول هذه القضايا تدني قيمة العملة السودانية ووجود سعرين للدولار وغيره من العملات الأخرى أحدهما السعر الرسمي والثاني سعر الدولار في السوق الموازي الذي يزيد حوالي خمسين في المئة عن السعر الرسمي فمن ذا الذي سيحول أمواله عن طريق المصارف لتفقد قيمتها؟ وبالإضافة لذلك هناك الحصار المصرفي المفروض على السودان ولذلك حتى لو عولجت قضية تدني سعر العملة فإن مجرد التحويل سيواجه عقبات مصرفية في العديد من البلدان وهذه عقبة كبيرة وذات طبيعة سياسية في المكان الأول ولكن لها انعكاساتها الاقتصادية ذات الأثر السلبي الكبير على تحويلات المغتربين حتى لو انحلت مشكلة سعر الصرف. التحويل عبر المصارف كان مرتفعا نسبيا بالسودان في السنوات الماضية عندما كان سعر الصرف مستقرا بحيث لا يوجد فرق يذكر بين السعر الرسمي والسعر الموازي وكانت المقاطعة المصرفية أقل حدة وتشدداً على عكس ما هي الآن. وقد شهدت البلاد ممارسات اقتصادية أدت إلى عزوف المغتربين عن الاستثمار في السودان منذ تجربة المساهمة في مشروع (سندس) المدعوم من الحكومة والذي فقد المستثمرون فيه أموالا طائلة ولم يجنوا سوى المماطلة والوعود العرقوبية وقد أثرت هذه الممارسات سلبا على استخدام المغتربين أموالهم في مشروعات استثمارية في السودان غير مضمونة النتائج وأي سياسة لتشجيعهم يجب أن تنبني على دراسات وعلى ضمانات تتوفر لهم وعلى تسهيلات تقدم لهم ولكن الحكومة ما زالت تنظر إليهم كبقرة حلوب تفرض عليهم الإتاوات والجبايات دون أن تفكر فيهم كمصدر من مصادر الدخل القومي الذي يحتاج إلى مساندة ومساعدة وتسهيلات تقدم له لتشجيعه. بنك السودان يشتري الذهب الآن من منتجي الذهب في التعدين الشعبي بسعر دولار السوق الموازي ولكنه لا ينتهج سياسة مماثلة تجاه المغتربين وليس هناك أي جهة تهتم بالمغتربين وتستفيد من تحويلاتهم ومدخراتهم في مشاريع تنموية مضمونة وليست هناك قواعد وقرارات جاذبة لهم. أرقام البنك الدولي تشير إلى أن تحويلات المغتربين في شتى أنحاء العالم تقدر بأكثر من أربعمئة مليار دولار وهي بهذا تفوق تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية والمعونات الإنمائية الرسمية مجتمعة وهي بالتالي مصدر اقتصادي أهم وأكبر ولا يمكن تجاهله. والمصارف السودانية -أيضا- مقصرة فهي لا تهتم بالمغتربين ولا تصمم خدمات جديدة يمكن أن تكون جاذبة لهم ولا تسعى لتعبئة مواردهم ولا تخلق مواعين استثمارية عبر ودائع بالعملة الأجنبية تحقق أرباحاً أكثر مما يجده المغترب في بلاد أخرى مع كافة الضمانات بسداد أرباحه وأصل الوديعة في الوقت المحدد وبالعملة التي أودعت بها -وليس هناك جهة منوط بها إعداد دراسات جدوى لمشاريع صغيرة تنشأ بمدخرات المغتربين حتى تصبح حاضنات استثمارية تجذب مدخراتهم وتحقق لهم أرباحاً مغرية. هناك عشرات الأفكار التي يمكن أن تطرح للتعامل مع تحويلات ومدخرات المغترب السوداني وقد طرح العديد منها في ورشة العمل الذي انعقدت هذا الأسبوع ولكنها غير قابلة للتنفيذ ما دامت الحكومة تنظر إلى المغترب كبقرة حلوب يدر لها الإتاوات عبر جهاز رسمي مهمته الأولى والأخيرة هي تحصيل تلك الجبايات من كل مغترب تطأ قدمه أرض السودان!!