مقدمة : في حياتنا أناس كثيرون يعبرون الى رحاب الله دون أن نشعر بهم أو يتركوا أثرا خلفهم حتى بين أهاليهم .. ولكن بالمقابل هناك أناس آخرون يظلون أحياءا بيننا حتى وهم في قبورهم !!. وتبقى الحقيقة التي لا مناص منها وهي أن الكل ذاهب ولا يبقى الا ذكرى قد تضعه في مصاف الخالدين أو تمر كنسمة عابرة ثم تُنسى في زحمة الحياة !. والشاهد أن خلود أحدنا – حتى عقب رحيله – إنما يكون إما بعمل عمله أو بفعل فعله في حياته أو إنجاز أنجزه أو إختراع خدم به الإنسانية أو إكتشاف علمي أنقذ أرواحاً . ولكل من يطّلع على تفاصيل حكايتنا هنا الحق في أن يصنّف ( بطلتها ) وفقا لرؤياه وتقديره الخاص .. فالى أي من ( تصنيفات الخلود) تلك يمكن أن تنتمي هذه السيدة ياتُرى؟. عموما دعونا أيها الأحبة – ودون أن نطيل أكثر في المقدمة – أن ندلف معا الى حكاية هذه السيدة الفاضلة / السودانية/ الأم / الزوجة /الأب وبناتها الأربعة في بلاد الغرب .. خاصة وأننا نعيش هذه الايام نفحات (عيد الأم) .. هذه الذكرى التي تحل علينا كل عام وهي مضمخة بعبير المودة ومعطرة بأريج العطف والحنان ..لذا وددت أن أعود إليكم – بعد غيبة – بهذه الحكاية وأنا أنحني أمام كل أُم في هذا الكون إن كانت لا تزال على قيد الحياة داعيا لها بطول العمر ودوام الصحة والعافية بمن فهم أمي الحبيبة .. ومترحما على كل أم ومقبلا تراب قبرها إن كانت في رحاب الله ترفل . إنها حكاية واقعية .. حقيقية .. لا مجال فيها لخيال . حكاية كنت أنا نفسي أحد الشاهدين عليها .. لست وحدي ولكن مع غيري ممن عرفوا هذه (الأم المناضلة ) إن كان النضال يعني نكران الذات .. والتضحية من أجل الآخرين . حكاية جديرة بأن تُروى .. وأن يُكتب عنها وتُقرأ .. حكاية بطلتها امرأة سودانية تحمّلت – عن قناعة ووعي وإدراك ورضا وإرادة وتصميم وعزيمة وجسارة – مسؤولية أن تكون زوجة لرجلين مختلفين وعلى فترتين متعاقبتين .. وتكون أُماً وأباً في آن واحد لبنات أربعة . كل ذلك وسط مجتمع غير مجتمعها السوداني الذي نشأت وترعرعت في كنفه ومناخ غيرمناخها .. وفي بلد غير بلدها ..وهنا يكمن التحدي .. التحدي الحقيقي والذي قد يعجز رجال عن مواجهته . ولتعذرني هذه السيدة الفاضلة .. البطلة السودانية الجسورة إن لجأتُ للكتابة عنها بعد تردد دام سنوات .. وأزعم أنني محق ومعذور في ذلك .. وقد تتفق معي الأغلبية – إن لم يكن الكل – في ذلك ممن سيطلعون على تفاصيل هذه الحكاية والتي تستحق – وبجدارة – أن تكون فيلماً وثائقياً للأجيال عامة وللأُمهات وللتاريخ أيضاً .. أو هكذا أراها . فاليكموها حكاية كاملة .. متمنياً أن تسعفني الذاكرة بألا أُسقط أي جزء من تفاصيلها حتى لا أكون مشوّهاً لتلك اللوحة الحياتية المشرقة / المشرّفة .. كما رأيتها وعايشتها عن قرب : فجأة – ودون إرادة منها – وجدت نفسها وبناتها الأربعة في بلاد الغرب ومجتمعه المنفتح .. مما وضعها – كأُم – أمام إمتحان عسير .. ولكنها عاشت هناك إمرأة سودانية متمسكة بأصلها .. وأُماً شامخة في زمن الإنكسار.. ومرفوعة الرأس في زمان الطأطأة والإنحدار . أو هكذا تقول سيرتها الطيبة والتي تداولتها الألسن هناك .. بعد أن أضحت حديث الكثير من الأُسرالسودانية وغيرها ممن يعيشون معها أوحولها في تلك الديار البعيدة ممن عرفوها وعرفتهم . وُلدت وفي فمها ملعقة من ذهب وسط أسرة أغدق الله عليها من نعمته الكثير ووهبها بسطة في الرزق .. وعاشت طفولة مستقرة ومدللة ومُنعّمة تتمتع بحب جميع من حولها .. كل مطالبها مجابة وفي هذا يتبارى المتبارون .. وكانت لها مكانة خاصة – دون سائرأخوتها الثمانية ( بنات أربعة وأولاد أربعة ) – وكذلك في قلوب أهلها وجيرانها وأفراد أسرتها الصغيرة لاسيما والدها الراحل الذي لم يغضبها يوماً أو يرفض لها طلباً .. وكم كان يزجرمن يتجرأ على إغضابها .. وكذا أحببنها زميلاتها في المدرسة ومدرساتها اللائي كُنّ يفتخرن بها كتليمذة لديهن نشطة وذكية . ثم تزوجت وأضحت أُماً .. ولكن فجأة حدث ما لم يكن في حسبانها أو يخطر ببالها يوما !!. فمن قلب تلك الأجواء الأسرية المفعمة بالحب والعامرة بالحنان ..إنتزعتها الأقدار لتجد نفسها في إحدى بلاد الغرب البعيدة رفقة بناتها الأربعة وزوجها الذي كان يحتل منصباً إدارياً رفيعاً باحدى المؤسسات الوطنية الكبرى والداعمة لإقتصاد السودان ومحل فخر لشعبه .. ولكنه – مثل الملايين من أبناء السودان – وجد نفسه – هوالآخر- أحد ضحايا ذلك القانون الإجرامي الذي إستنّه مطلع التسعينيات الإنقلابيون الإسلامويون والمسمى زوراً وبهتاناً ب ( قانون الصالح العام ) والذي جاء في اطار(سياسة التمكين) .. وهي السياسة الرعناء والتي قادت – بدورها – الى إطلاق رصاصة الرحمة على قلب (الخدمة المدنية) في السودان .. وأدت الى تشريد الملايين من ذوي الخبرة والكفاءات وأصحاب المناصب العليا من مدنيين وعسكريين وغيرهم ممن لا يوالونهم .. ولم يسلم من ذلك (القانون الشائن) حتى البعض ممن يعملون في مهن دنيا ولكنهم رفضوا الخضوع لممارسات العصابة الانقلابية والتي إنتهجت نهجاً اقصائياً قبيحاً إنعكس بدوره تردياً خدمياً واقتصادياً وسياسياً بل إجتماعياً وأخلاقياً لم يشهد له السودان مثيلاً في تاريخه . بعد أن وجد ذلك الزوج نفسه بلا عمل .. قرر– مثل الملايين ممن جرى فصلهم من عملهم تعسفا ودون وجه حق – قررالهجرة ململما ما تبقى له من كرامة سعت العصابة الانقلابية لاهدارها رغم السنوات الطويلة التي أنفقها الرجل من عمره دراسة وتحصيلا وعلما ثم عملا وخبرة .. ثم ما لبثت هذه الزوجة أن لحقت به ومعها بناتها الأربعة وهي مرغمة تتحسر على تلك الأيام التي قضتها وسط ( الحشم والخدم ) كما يقولون في السودان وهي تنعم بالعيش الهادئ بجانب زوجها ووسط أهلها وعشيرتها وكافة المحبين لها منذ أيام طفولتها الأولى .. وهو حب إنشرّ أيضاً بظلاله الوارفة ليشمل حتى بناتها الجميلات الأربعة . في تلك البلاد البعيدة إلتأم شمل الأسرة من جديد وهي تندب حظها العاثر الذي أجبرها على الهجرة .. خاصة هذه الزوجة .. وهي التي لم تغادر السودان يوما الا خلال ( شهر العسل) وقضاء العطلات السنوية مع أسرتها في شقة والدها بالقاهرة رحمه الله .. ولم يدُر بخلد أي من الزوجين أن يجدا نفسيهما وهما يعيشان خارج حدود الوطن . مرت الأيام .. وهي مثقلة بالحنين للوطن والشوق للأهل.. مرت وهذه الأسرة تحاول استيعاب ماحولها من حياة جديدة في بلاد غريبة عليها : مجتمعاً ولغةً ومناخاً وسلوكاً وثقافةً .. مما أدخل هذه الأُسرة المهاجرة بأفرادها الستة في نفق سعت جاهدة للخروج منه بالاندماج وسط شعوب تلك البلاد دون الذوبان فيه أو التخلي عن ثوابتها القيمية والدينية والأخلاقية .. وهو أمر يتطلب جهداً جباراً وسعياً مكثفاً وعملاً دؤوباً حتى لا ينفرط العقد في محيط مجتمع يختلط فيه الحابل بالنابل . ولا شك أن مايزيد من حجم المسؤولية وعِظم الضغوط على هذه الأسرة الكريمة هو كيفية المحافظة على كيانها .. خاصة فتياتها الأربع وبينهن من هي في ربيع العمر أوعلى أعتابه .. وذلك دون المساس بشعورهن أو فرض أي شيئ عليهن أو إجبارهن على ما لا يرغبنَ في فعله.. مع إتباع سياسة اللين في تربيتهن دون إفراط أوتفريط .. وهوأسلوب تربوي حضاري يتطلب من الوالدين اليقظة والمتابعة والمراقبة وخلق علاقة أخوة وصداقة وصراحة وشفافية مع هؤلاء الفتيات علاقة تقوم على أسس متينة من التقرُب إليهن بودٍ ومحبة .. وإلاّ ضِعن كما ضاع قبلهن الكثيرات وسط زخم الحياة وصخبها في تلك البلاد البعيدة وإيقاعها المتسارع . هكذا إنخرط كل أفراد هذه الأسرة في مجتمعهم الجديد كلٌ لما هو له وماعليه من دور :حيث البنات الأربعة – كل حسب عمرها – انتظمن في الدراسة .. والوالدان يراقبان ويتابعان عن كثب مسار كل فتاة منهن .. وهما يوجهان بلطف ولين وحنان حتى أخذ ايقاع الحياة الجديدة لتلك الأسرة ينتظم رويداً رويداً . ثم كانت المفاجأة الثانية .. وهي مفاجأة / محزنة .. حيث حدث ما لا يمكن توقعه أو يُحسب له حساب أو يخطر على بال أي من أفراد هذه الأسرة الستة . لقد أصابت الزوجين (لعنة !!) طالما لاحقت الكثيرمن الأزواج السودانيين في المهاجر وديار الاغتراب .. فوقع الطلاق بين هذين الزوجين دون تحسب للعواقب .. ولكن حينما (تقع الأقدارتعمي الأبصار).. كما يقولون . انها الطامة الكبرى .. طامة حلت بهذه الأسرة في بلاد ليست ببلادها ووسط أناس ليس بأهلها !!. كان الخلاف بين الزوجين عاديا في بادئ الأمر.. كأي خلاف بين إثنين شكّلا أسرة ثم أنجبا ذرية علقا عليها آمالاً عريضة .. إلا أن الخلاف إحتدم بين الزوجين مع مرور الوقت .. وأخذ يتصاعد ويتصاعد .. حتى جاءت تلك اللحظة/ المصيبة/ القاضية التي حدث فيها أبغض الحلال الى الله . إنه الطلاق .. وتلكم كانت هي المفاجأة / الفاجعة / الثالثة !!. هكذا نجد أن شبح واقع جديد قد خيّم على الدار وفرض نفسه وإنداحت تداعياته حتى كان الفراق النهائي بين الزوجين .. وتمسك كل طرف منهما بأحقية تربية البنات الأربعة بعد أن وصلت القضية الى المحاكم في تلك الديار البعيدة .. فقال القانون كلمته الفصل وإنتصرت إرادة الأُمومة في معركة كان يمكن أن تكون الضحية فيها هن هؤلاء البنات الأربعة . في البداية سعى الوالدان – بكل السبل الممكنة – تجنب الزج بفلذات أكبادهما الأربعة في أتون هذه (المعركة) بينهما تفادياً لما يمكن أن يقود اليه – في نهاية المطاف – من إنعكاس سلبي على نفوسهن في مقبل الأيام .. وهنا لعبت الأم دوراً لافتاً عكس عُمق وعيها بصورة أدت بالفتيات الأربع – حينما وجدن أنفسهن أمام خيارين لا ثالث لهما – فأعلنّ رغبتهن الواضحة /الصريحة – ودون تردد – في العيش مع أمهن .. وأصررن على ذلك أمام القاضي الذي حكم بما سمعه منهن رغم محاولات الأب المستميتة على جذبهن اليه . إذن فقد وقع الطلاق ..وإفترق الزوجان !!. ونواصل باذنه تعالى مع تحياتي وتقديري خضر [email protected]