عندما استولت «الجبهة الإسلامية القومية» على السلطة في السودان من طريق الانقلاب العسكري، في 30 حزيران (يونيو) 1989، طرح منظرو الإسلام السياسي للمرة الأولى، بجدّية، سؤال: كيف تستطيع طليعة إسلامية أن تدير دولة حديثة؟ ولم تسعفهم كل التنظيرات التجريدية عن «الإسلام دين ودولة»، ولا الأفكار المرسلة عن الشورى، والتسامح، ومجتمع المدينة. وبدأ البحث عن شكل النظام السياسي الإسلامي الحديث، والذي يمكن أن يطابق الشعارات المرفوعة. ولكن ظهر مبكراً، أن الإسلاميين لا يستندون الى مشروع سياسي فكري قابل للتطبيق، على رغم أنهم امتلكوا سلطة كاملة بلا منازع. ومع غياب الرؤية والاستراتيجية، لجأ الإسلاميون السودانيون إلى التجربة والخطأ، والى البراغماتية بمعنى قياس السلوك السياسي أو القرار وفق نفعيته وعمليته بغض النظر عن مبدئيته أو أخلاقيته. وما الانتخابات الأخيرة إلا تجسيد لسياسة المنفعة والجدوى، فما يهمّ النظام هو كيف تساعد مثل هذه «الانتخابات» في عملية التمكين في الحكم والاستمرار في السلطة؟ وفي هذه الحالة، لا يهتمّ النظام بالنقد الموجّه الى نواقص قوانين الانتخابات وشروطها المعروفة، لكنه يهتم بما تضفيه عليه العملية، على رغم عبثيتها، من طلاء ديموقراطي. يدخل النظام السوداني، باستمرار، في مغالطات سياسية عقيمة ولكنها مضنية، مع خصومه ومعارضيه، حول طبيعته الاستبدادية والديكتاتورية. فهو يحاول توظيف كل الجوانب الشكلانية والإجرائية في العملية الديموقراطية، وإفراغها من مضمونها تماماً. فالانتخابات الحالية، شارك فيها، رسمياً، أربعة وأربعون حزباً سياسياً، وتنافس على منصب رئيس الجمهورية إلى جانب عمر البشير، 15 مرشحاً آخر. كما راقبتها عشرات من منظمات «المجتمع المدني»، وهي في حقيقتها صناعة حكومية لإغراق منظمات المجتمع المدني المستقلة. كما أن هناك 39 صحيفة سياسية، مع وجود عشر قنوات فضائية سودانية. وهذا مشهد يعطي، في شكله الخارجي، انطباعاً بالتعددية الحزبية وحرية التعبير. ولكن في حقيقة الأمر، يدير البلاد نظام «أمنوقراطي» مهيمن. وهو يختلف عما نسميه النظم الأمنية، حيث يساعد جهاز الأمن السلطة الحاكمة. ففي الحالة السودانية، جهاز الأمن هو الحاكم الفعلي، لأنه يصدر القرارات، ولا يكتفي بتنفيذ قرارات تصدرها الحكومة. فجهاز الأمن يقوم بكثير من مهام حزب «المؤتمر الوطني»، ويمارس كثيراً من السلطات القضائية والتشريعية. فهو، مثلاً، من يقوم بإغلاق الصحف، وبالرقابة القبلية عليها، وليس مجلس الصحافة ولا القضاء. كما تأتي أوامر الاعتقال أو إطلاق السراح من جهاز الأمن، وليس من النيابات أو الجهاز القضائي. ويدير جهاز الأمن عدداً من الشركات بخاصة في مجال الإلكترونيات والمقاولات، كما يمتلك عدداً من المستشفيات والصيدليات والجامعات والمدارس الخاصة. ويمتلك، بصورة كاملة أو جزئية، عدداً من الصحف اليومية والمراكز الإعلامية. بل يكرّم المبدعين ويمنح الجوائز للأدباء والفنانين. وينشر جهاز الأمن هذه الأيام، إعلانات عن وظائف في الصفحات الأولى للجرائد اليومية، وقد نجح في السنوات الماضية في تجنيد أعداد كبيرة من الخريجين، أصحاب المؤهلات الممتازة، مستغلاً ظروف البطالة في البلاد. يردد المعارضون وبعض المراقبين أن النظام يواجه الآن أزمة قاتلة، وأن هذه الانتخابات لن تخرجه منها. ولكن المشكلة في أن النظام نفسه لا يشعر بوجود أزمة حتى يحاول حلّها أو الخروج منها. وهو يدلل على قدرته بأنه استمر في السلطة، لأكثر من ربع قرن على رغم الحصار الاقتصادي، والحرب الأهلية حتى 2005، وقرارات مجلس الأمن والمحكمة الدولية الجنائية. كما أنه على رغم الضائقة المعيشية، لم تخرج التظاهرات والاحتجاجات كما كان الأمر سابقاً. ولا يرى النظام في فصل الجنوب، والإبادة الجماعية في دارفور، وقصف جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، ولا في هجرة أكثر من ثلاثة ملايين سوداني، دليلاً على فشل مشروع حكمه الإسلامي. فالنظام يبرر كل هذه الإخفاقات بالمؤامرة الغربية التي «تستهدف الإسلام والسودان». وضمن عملية المزج بين الاستبداد و «الديموقراطية الشكلانية»، أطلق النظام مطلع 2014 بالونة اختبار ما سمي «حوار الوثبة»، وهو في الحقيقة حلقة في مسلسل التمكين بوسائل جديدة. وقد اعترف الصادق المهدي بتهافت المعارضة لأنها قبلت بفكرة الحوار من دون أن يصدر النظام قانوناً للحوار. ويقصد بالقانون ضمانات تهيئة الأجواء للتحاور بلا قيود ومضايقات. لكن كان للبشير وحزب «المؤتمر الوطني» غايات مختلفة من إطلاق الدعوة، من أهمها خلق اختلافات وبلبلة بين قوى المعارضة، وقد حدث ذلك. وتصاعد شجار المعارضة حول كيفية التعامل مع دعوة الحوار، ولم يتخذ النظام أي إجراء يجعل الحوار ممكناً. أمّا النجاح المهم، فكان تراجع الحديث عن الانتفاضة الشعبية وإسقاط النظام، لترتفع أصوات الدعوة الى الحوار والهبوط الناعم. وأما النظام فكان، في حقيقة أمره، يُجهز للانتخابات التي جرت فعلاً على رغم المقاطعة والاحتجاجات. وقد نقلت الانتخابات البلاد الى مرحلة جديدة في الصراع السياسي، ولكن النظام سيجبرالجميع على التعامل مع الأمر الواقع. ويخطئ من يظن أن النظام بانتخاباته المعيبة هذه قد خسر شيئاً، وذلك وفق رؤيته هو للأمور وتقديره للمستقبل. فقد شرع في إيجاد المبررات لضعف المشاركة، مقللاً من تأثير دعوة المعارضة الى المقاطعة. فالمعارضة حتى الآن ساعدته كثيراً، فهي لم تجعل من أجواء «المعركة» الانتخابية فرصة للمقاومة الشعبية، واكتفت بشعار «إرحل»، ولم تحوّله الى فعل سياسي في الشارع يجبر النظام على مراجعة مواقفه. وعلى رغم تقاعس المعارضة، فنسب المقاطعة أو عدم التصويت فاقت ال80 في المئة. وبغض النظر عن سبب الإحجام، أكان تلبية لدعوة المعارضة أو مجرد لامبالاة وعفوية، فهذا عدد معتبر من الشعب السوداني يقف بعيداً من هيمنة النظام. وهذا تحدٍّ عظيم للمعارضة يدعوها الى إقناع هذه الكتل الجماهيرية بتنظيمها في معارضة ذات فاعلية ضد النظام. وهذا يتطلب منها أمرين، الأول: تقديم بديل حقيقي ومقنع، لأن النظام يبيع فكرة «أنا أو الفوضى». والأمر الثاني، أن تغير المعارضة آليات عملها بالتحول من بيانات الشجب والإدانة، والتعويل على الخارج، كما ظهر عند اعتقال قياداتها. لقد كانت الانتخابات مظهراً لتطبيع الاستبداد، أي أن يتعايش الناس مع القمع والقهر، ويصبح الاستبداد مع الزمن أمراً طبيعياً وعادياً. ويتم ذلك بتوظيف إجراءات الديموقراطية الشكلية في طمس الحدود بين الحرية والاستبداد. وهذا جزء من مخطط حركات الإسلام السياسي، لوأد الديموقراطية بوسائل «ديموقراطية». * كاتب سوداني دار الحياة