تستعد حكومة الإنقاذ لبدءخمس سنوات جديدة من حكمها عقب انتخابات هزيلة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. فهي هزيلة في برنامجها الانتخابي المتناقض، هزيلة في برنامجها التعبوي الراقص، وهزيلة في نتيجتها إذ تعيد تدوير الفشل وأسباب الفجيعة والوجيعة والهوان. لقد جاءت نتيجة الانتخابات بنسبة فوز بلغت 94 في المائة، وهي النسبة نفسها التي فاز بها البشير في المؤتمر العام للحزب الحاكم قبل ستة أشهر من الانتخابات، وتحديداً في 25 أكتوبر 2014م. بذلك يحدث التماهي بين وطنمغلوب على أمره وحزب غالب بدهائه. في برنامجهم الانتخابي الموسوم «معاً لاستكمال النهضة»، تحدثوا عن مكاسب وطنية كبرى، كان في صدارتها قدرتهم على المحافظة على السيادة الوطنية وصيانة وحدة البلاد أرضاً وشعباً؛ كما تحدثوا عن تحقيقهم لسلام شامل عن طريق المفاوضات السياسية والتسويات السلمية؛ وعن تأسيسهم للحقوق على معيار المواطنة لا غيره.تلك انجازات يرون أنها مما لا يختلف حوله أثنان! لا شك أن هذه جرأة، إن نحن أحسنا الظن ولم نصطنع لفظةوقاحة صفة لمثل هذا الإدعاء.فكيف يتحدث الأخوان المسلمون عن وحدة السودان بعدما مزقوه أشتاتاً وأشلاء؟ وكيف يتحدثون عن سلام شامل في وقت باتت فيه دارفور كالمرجل الذي يغلي بمكوناتعديدة لكنها طالما كانت ردحاً طويلاً من الزمن تتعايش في تسامح ومحبة ووئام؟ وكيف لهم أن يتحدثوا عن احتكامٍ لمعيار المواطنة بعدما شُرد الشرفاء من مواقع عملهم لا لذنب اقترفوه سوى معارضتهم لفكر الأخوان، وربما لمجرد حيادهمتجاه النظام ليس إلا؟ هؤلاء لا حياء لهم. فكثيراً ما يزعمون أن حكمهم، «لله لا للسلطة ولا للجاه»في وقت استأثروا فيه بالسلطة وبالجاه وبتكديس ثروات طائلةربما حسب البسطاء من أمثالنا أنها من كسب سواعدهم بعدما أراقوا فيها عرق جباههم. لكن الأمر ليس كذلك، وإلاّ فلماذا يقدومون للطلاب من حزبهم عربات فارهة وهم لا زالوا طلاباً يحسن بهم أن يتفرغوا لتحصيل دروسهم؟ ثم أنها عربات لم يركبها أباؤهم ومن في سن أبائهم من خريجين تقدمت بهم السنون وتغضنت منهم الوجوه هماً وغماً من تدهور أوضاع السودان ودخوله حالة غيبوبة تامة استمرت نحوا من ربع قرن ونيّف، ظل البلد خلالها، «لا هو حي فُيرجى ولا هو ميت فيُنعى». أحالوا البلد إلى أطلال. وقسموا الشعب إلى ثلاثة أكوام كيمان: الكوم الأول يزيد عدداً ويتضاعف بؤساً بوتيرة متسارعة ومعدلات مرتفعة. وهذا الكوم يمثل قنبلة وشيكة الانفجار في وجه الإنقاذ. بالطبع تحتاج مهمة هذا الكوم إلى دور تنظيمي كانت تقوم به الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات، بما في ذلك اتحادات الطلاب، والإعلام والنخبة المستنيرة. إلاّ أن الإنقاذ شلّت فاعلية كل هذه الجهات، إن بالحسنى وإن بغيرها. ولا غرو أن يتعثر التغيير طويلاً. بالطبع هذا لا ينفي وجود عناصر نزيهة من أحزاب وطنية ومنظمات مجتمع مدني شجاعة وأفراد أشاوس وصحفيين شرفاء؛ وهم جميعهم يتصدون للإنقاذ ولجبروت أجهزتها الأمنية ولتضليلها الإعلامي الموغل في سوء ظنه بعقل الشعب السوداني. لكن، رغم كل هذا، سيخرج الشارع هادراً كنهر النيل الذي تستطيع أن تبطيء تياره أو ترجيء تدفقه أو تغير مساره، لكنك لن تقدر على وقف تقدمه مهما أوتيت من قوة وحيلة. هيهات! الكوم الثاني هو مجموعة من السودانيين آثروا الغربة وتشتتوا براً وبحراًوجواً في أصقاع المعمورة. وهؤلاء يبحثون عن أرزاقهم ويؤثرون صحة أبدانهم وسلامة عقولهم في وجه جنون يخنق البلد بإحكام شديد. وهؤلاء يتعاطفون كثيراً مع الكوم الأول، ربما بوازع من إدراك باطني أن مآلهم سيكون إلى الكوم الأول إن عاجلاً أو آجلاً، لا سيما وأن أوضاع دول المهجر لا تبشر بخير، وربما أيضاً بوازع من ضمير لما يزل نظيفاً ويقظاً مردداً لهم القول، بين الفينة والأخرى، أن كفى هروباً وكفى أنانية.. فلهذا الشعب أن يسترد دينه على أبنائه، خاصةً أولئك الذين تعلموا مجاناً من ضريبة دُفعت من جيب خاوٍ أو يكاد. أما الكوم الثالث، فهو الذي ينقص عدداً بحكم أنه ينهل من معين آخذ بالتناقص في ظل ظروف اقتصادية متراجعة. ضمن هذا الكوم يمثل الأنقاذيون الخلص النواة الرئيسة؛ وهذه النواة صغيرة جداً لكنها تتمتع بكل سبل السلطان وأدوات حمايته وبهرج وجاهته، وهي تقوم على واحد أو أكثر من ركائز ثلاث: السوق أو الأمن أو القبيلة. بقية المكونات ضمن هذا الكوم تعتبر كقشرة البصلة، كلما بعدت عن النواة، زادت عوامل تعريتها واقتربت من تهديد الانتقال إلى كيمان أخرى (إما بسبب الفقر المدقع، أو شبحه على الأقل، لتنزلق إلى الكوم الأول أو بدافع الهجرة وبالتالي الانضمام للكوم الثاني أو الذهاب للآخرة رأساً متى كانت هناك ملفات ومعلومات يخشى عليها من التفشي!). تبقى هنالك ملاحظة مهمة ينبغي وضعها في الحسبان: ذلك أن الأخوان المسلمين، بعدما استوثقوا من قدرتهم على شل حركة الجهات المنظمة لقوى الشارع، أيقنوا أن الشعب السوداني في حالة استكانة تامة وبالتالي يمكنهم فعل ما يشاءون. وهنا بالضبط مكمن الخطر الذي لا يحسبون له حساباً. إن الشعب السوداني، الذي يرزح تحت أعباء جسام من غلاء في أسعار السلع الأساسية والأدوية الضرورية للحياة، قد يفقد صبره، ويبدي عن نواجذه في أسرع من لمح البصر. ويا ويل الإنقاذ وزبانيتها في ذلك اليوم، الذي يرونه بعيداً ونراه قريباً. [email protected]