وكأنه عرف باكراً أنه راحل فجأة إلى غير رجعة، فيكتب : وأهجرِ العشقَ الذي لا يُشعلُ الساحةَ أنهارَ صخبْ ما يكونُ العشْقُ إلا في اتحادِ البرقِ بالأرضِ التي .. تمنحُ القُبلةَ في ليلِ التّعبْ ! وعلى الرغم من أنّنا جئنا في زمن شعري واحد ، فقد كان له صوته الشعري الرصين في جيلنا. كان يبحث عن الحداثة في المفردة والجملة الشعرية الجديدة. وعلى الرغم من أنّنا جئنا في حقبة شعرية حفلت بالتوتر والأحداث الجسام في بلادنا فوق الأربعة عقود ، إلا إنه لم يتعب ولم يرحل من الوطن العريض ومدينة ود مدني الشامخة مهاجراً إلا لفترة قصيرة من الوقت ثم عاد العاشق الحزين لمحبوبته عودة المطر لأرض أصابها العطش بغيابه. عندما نشرت في بداية الثمانينات قصيدتي (شارع في حي القبة) كان من أوائل من استقبلها بفرح من رفاقي في الشعر. وقد كتب فيها مقالاً نقدياً ناضجاً بكل مقاييس النقد الحديث لأي عمل شعري. وأذكر أنه خلص في مقالته إلى أن فلاناً قد دخل بهذه القصيدة مدرسة الواقعية الاشتراكية – رضي ذلك أم لم يرض. كتب محمد محي الدين القصيدة الحديثة بكل ما في الحداثة من روح المغامرة والإلمام المعرفي والإضطلاع الجاد. وكتب في المسرحية وفي النقد المسرحي إلى جانب أنه كان أحد مؤسسي رابطة الجزيرة للآداب والفنون ، وفي فترة من الفترات كان عضوا في رابطة سنار الأدبية. وهما منتديان يضوع منهما الند والمسك الإبداعي منذ أربعة عقود أو أكثر. كان كالنحلة محمد محي الدين يمتص الرحيق ويعطي العسل.. صفة المبدع الحق ! ويا مدني السني.. يا بواية رفدت بلادنا كوكبة لا تحصى من المبدعين، لعلنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر: مدثر البوشي وابراهيم الكاشف والمساح ومحمد عبد الحي، بل العشرات من المبدعين في حقول السياسة والرياضة والفنون.. ها أنت تودعين بدمع سخين أحد من رفدوا كراسة الأدب السوداني الحديث أندى الحروف وأحلاها. أعرف ويعرف الكثيرون أن رحمك ولود ، وأنك تعطين الثائر والمبدع كلما استقبلت السماوات روح مبدع من أبنائك وبناتك! ويا أصدقائي في رابطة الجزيرة للآداب والفنون ، أعزيكم من منفاي ، وأطمع أن تعزوني في صديق الحرف. ذلك الإنسان الخلوق ، نورس الشعر وفارس الكلمة محمد محي الدين تقبله الله وأحسن مثواه. لقد جاء رحيله في زمنٍ احتملت فيه بلادنا من الضربات وتحتمل ما يهد الجبال. لك الله يا مدني السني، لك الله يا شعبنا ، ففي رحيل مبدع ما يجعل نهر الفرح الرقراق يتوقف!