الغنائية وشعر المقاومة ! فضيلي جماع ظلّ النضال من أجل الحرية والجمال أهم إنجازات مشروع القصيدة المعاصرة وبخاصة في بلدان يرزح إنسانها تحت ثقل الجوع إلى اثنتين تعتبران عصب الكرامة: الخبز والحرية.. بيد أنّ المفردة وأدوات الفن بعدا بالشعر المعاصر من الهتافية وزعيق المنابر. الشاعر الشيلي الحائز على جائزة نوبل للآداب بابلو نيرودا أنجز في حياته عشرات القصائد حوتها مجموعات شعرية مثل:(عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة)، و (النشيد العالمي) وغيرهما.. ونيرودا الثائر يغلف ثورة المعنى بحرير المفردة الناعم وبالغناء ليعطي القصيدة بعدها الإنساني العميق: لا أحدٌ كان يريد أن يقول شيئاً الكلُّ كان يخاف التورّط: بحيث كفّ الجميع عن الكلام بين الشخص والآخر كبُرتْ المسافات وصار التنافرُ بين الاصطلاحات من الحدّة أو أخذوا جميعاً يتكلمون دفعة واحدة ويعلن نيرودا إدانته بقسوة للظلم وبغنائية تشبه انثيال الجداول في بلده تشيلي، يكتب عن الموت والإبادة والطغيان لكن في شفافية تلامس شغاف القلوب، وتنهض بكبرياء الإنسان مستخدماً المفردة والرمز ببراعة: لم تكن الإبادةُ وحسب لم يكن الموت وحده رغم أن الخوف كان خبزنا اليومي … لقد كان ثقيلاً، هذا العار في أن نكون بشرا كالذين دمّروا ومن أبادوا. وبالغنائية الجميلة والهادئة ذاتها يكتب الفرنسي لويس أراغون قصائد المقاومة ضدّ النازي.. كانت قصائد أراغون توزّع في جبهة القتال مثل منشورات سياسية.. لكن يظل الغناء طابع قصيدته، فالقصيدة عنده نشيد حياة وغناء قبل أن تكون هتافاً وتشنجاً. في مجموعته (عيون إلزا) يكتب متغزلاً في زوجته إلزا تريوليه: الرياح تذرو بلا طائل أحزان الزرقة عيناك أكثر صفاء منها عندما تتألق فيهما دمعة عيناك تجعل السماء التي تعقب المطر غيورة! ومحمود درويش منذ (تلك صورتها) حتى (جدارية) تخطى الهتافية.. فقصائده الأخيرة تصعد باللغة مراقي من الغنائية واستخدام الرمز بصورة تبعدها عن المباشرة والهتاف، ليكون الخطاب الشعري الدرويشي إنسانيا وعالميا: على الجِسرِ قرْبَ حياتكِ عشتُ كما عاش عازفُ جيتارةٍ قرْبَ نجمتِهِ غنِّ لي مائةً من أناشيدِ حبِّكِ تدخلْ حياتي! فغنَّى عن الحبِّ تِسْعاً وتسعينَ أغنيةً وانتحرْ ! وددت أن أقول إن القصيدة المعاصرة– وخاصة في بلدان يفتقر إنسانها لخبز الحرية ويلعق ملح جراحه دائماً بسبب القمع والطغيان- أصبحت تغيّر أدواتها وذلك بخلق عبارتها واختراع قاموسها واستخدام الرموز بحيث تعجز عين الرقيب أن تفعل شيئا غير فرض الحصار والرقابة على الكلمة دون طائل! الأحد 7 يوليو 2015.