حديث الثلاثاء حزب عبد العزيز العميري فتحي البحيري ليس المقصود هنا عبد العزيز العميري بشحمه ودمه بل الانطلاق من مطلع أغنية الراحل المذكور بالخير من كلمات المبدع الجميل قاسم ابوزيد مساهو الله وصبحه أيضا بالخير (لو أعيش زول ليهو قيمة أسعد الناس بي وجودي). الحزب الافتراضي هنا ليس حزبا سياسيا بالمعنى وإن كان يشمل أجندة يسميها الناس سياسة؛ أعني أنه غير ميال لإظهار لون سياسي فاقع وعندما سئل الدكتور جعفر بن عوف عن مشاركة قيادات سياسية معروفة في الوقفات الاحتجاجية ضد تجفيف مستشفى الخرطوم قال بدون تحفظ ولا مجاملة : هؤلاء معنا بصفاتهم المهنية (أطباء ودكاترة والخ) وليس السياسية. ولكن – من الجهة الأخرى – ماذا تكون السياسة إن لم تكن الوقفات الاحتجاجية سياسة؟ بل ما هي السياسة إن لم تكن – حرفياً – معنى مطلع أغنية عبدالعزيز العميري رحمة الله علينا وعليكم وعليه وعليها. الملاحظة الجديرة بالانتباه أن السودانيين بمجموعاتهم ونخبهم الطليعية ينجحون دائما أو غالبا في الفن والغناء والنفير وإلخ ولا ينجحون في خدمة أنفسهم من المداخل السياسية المباشرة سواء كان حسن إدارة الأوضاع الديمقراطية أو المحافظة على هذه الأوضاع أو – ما نحن بصدده – التحرك بمنهجية وجدية لاسترداد هذه الأوضاع وإسقاط نظام الانقاذ الاحادي الفاشل الفاسد المتغطرس؟ استغرب بداية من المشتغلين بأمور ثقافية عندما يقولون أن الهم السياسي لا يجب أن يشغل الكاتب عن كتابته ولاالمثقف أو الناشط الثقافي عن ثقافته فالأمر ليس أمر سياسة وثقافة بقدر ماهي قضية الحريات والحقوق المدنية والسياسية الأساسية. فعندما نتحدث مثلا عن حرية التعبير وحرية النشر فأين الثقافة (التي هي ليست سياسة) وأين السياسة (التي هي ليست ثقافة) هنا؟ الحرية من حيث المبدأ هي ضرورة وجود. وبالتالي هي ضرورة قصوى لممارسة أي نشاط ثقافي أو إبداعي أو اجتماعي أو سياسي أو خلافه. واحدة من أزماتنا وخصوماتنا الجوهرية مع النظام السياسي القائم هي غياب الحريات الذي يتأثر بها النشاط الإبداعي والثقافي في كل مجالات الفنون (والآداب إن شئت) بأشد وأقسى مما يتأثر بها نشاط الأحزاب والمنظمات السياسية المباشرة. ويشتد الاستغراب عندما ينظر الناس العاديون للمشتغلين بالسياسة بغاية (أسعد الناس بوجودي) ذاتها وكأنهم قادمون من كوكب آخر فالمجموعات التي أجبرت على حمل السلاح ضد النظام وكونت حركات الجبهة الثورية هم شباب ومواطنون سودانيون مثل أولئك الذين يصافحونك في طرقات المدينة بوجوههم الطيبة. ومنهم طلاب وخريجو جامعات لم تلن لهم قناة في منازلة النظام سلميا مثلي ومثلك .نالوا نصيبا من قهره وظلمه مثلنا واختيارهم نابع من تجاربهم التي عاشوها مع مليشيات حكومية طلابية متفلتة لم تراع فيهم وفي أهاليهم وذويهم وزملائهم وأسرهم إلا ولا ذمة. لقد حسم جيلنا- الذي وجدته الإنقاذ المشؤومة في ردهات وقاعات الجامعات فقتلت منه من قتلت وخربت حياته الأكاديمية وشردته بالفصل التعسفي الاستباقي وسممت أيامه وأوقاته بسياساتها البربرية الفاجرة – منذ فجر التسعينات والأجيال التي تلته مسألة أنه (ضد لهذا الظلام) وحسم أيضا إلى حد كبير طبيعة أدواته السلمية والثقافية في منازلته. فنحن غير مشحودين على الوقوف ضد نظام كهذا مهما كلفنا ولا محرشين على اتخاذ اللاعنف وسيلة لهذا الوقوف. اللاعنف هو طريقنا الأبدي لإسقاط النظام وهو نقيض للاستكانة والخنوع أكثر من كونه نقيضا للعنف. ونحترم خيارات الآخرين في إطار تكامل الأدوات المفضية لإسقاط النظام في نهاية المطاف وإقامة دولة العدل والحرية والكرامة والتعايش والنهضة السودانية الشاملة. شباب أحزاب الاتحادي والأمة بمسمياتهم المختلفة يمثلون مع غيرهم من الشباب رأس الرمح في إحداث التغيير المنشود داخل أحزابهم وفي الوطن عموماً ولا ينكر التضحية والمعاناة والاجتهادات التي توجد في هذه الأنحاء إلا مكابر. لقد قدمت هذه الكوادر وهذه القيادات الشبابية نماذج رائعة في الوقوف الصامد الشامخ المستمر ضد دكتاتورية وقمع الإنقاذ وضد ما يوجد داخل أحزابها من قمع ومن ديكتاتورية. الخنادق اليسارية واللبرالية الصامدة بتشكلاتها الحزبية والشبابية المختلفة في تقديرنا المتواضع تظل بطاقة الثورة الرابحة وهي الحجر الذي سيكون رأس زاوية التغيير الإيجابي وإن ظل يرفضه البناءوون. الحركات الشبابية من أمثال قرفنا وأخواتها بالنظر إلى كم وكيف الحراك الذي أحدثته منذ ظهورها الذي ارتبط بالحملة الانتخابية في 2009- 2010 ينبيك هذا الحراك عن أن وراء الأمر فكرة وعقل ما. إنه طور سياسي سوداني باذخ ومتميز ينضاف إلى حراكنا المتفرد المستمر منذ جمعية اللواء الأبيض ومؤتمر الخريجين والتنظيمات الشيوعية والاشتراكية وثورات اكتوبر وابريل وأفكار الاستاذ محمود محمد طه ودكتور جون قرنق وغيرهم. لقد أحدث ظهور قرفنا وأخواتها قطيعة لا ردة فيها مع التكلس والجمود والعجز في مجال الفعل السياسي المرتبط مباشرة بالجماهير منطلقا منها وعائدا إليها. تجاوز ذكي للهياكل والمناطق المفخخة دون استعدائها. المجموعات الشبابية ليست هي الأحزاب القائمة وليست منفصلة عنها بذات الوقت. لا هي جزء منها ولا هي خصم عليها. يتسنم ذروتها شباب الهوامش السودانية وشباب المركز على حد سواء بلا تمييز ولا جهوية. تمكنت قرفنا وأخواتها بالفعل من إرباك أجهزة النظام الأمنية وإحداث اختراقات لافتة. كل هؤلاء شكلوا إلى أحد كبير المكون السياسي الواسع لحزب عبد العزيز العميري الأشد اتساعا. لكن هل يليق أن نصب قليلا من المحبة النقدية أو النقد الودود إن جازت التسمية على هذا المكون ؟ نواصل إن شاء الله.