المبتدأ : (خطاب الجلوس سأختار شعبي سأختار أفراد شعبي، سأختاركم واحدا واحدا من سلالة أمي ومن مذهبي، سأختاركم كي تكونوا جديرين بي إذن أوقفوا الآن تصفيقكم كي تكونوا جديرين بي وبحبى، سأختار شعبي سياجا لمملكتي ورصيفُا لدربي) محمود درويش. والخبر: (1) ما يتغابى عنه ولا يود استيعابه النظام الحاكم وحركته الإسلامية أن الإمعان في الكذب والإفراط في استهلاك أحجية "دخلت نملة حملت حبه وخرجت" قد دفع المواطن السوداني للملل فلم يعد يثق فيه ولا في حواره ومهما حشد النظام في حفل تدشين حوار الاذعان من تنابلة سلطان وانتهازية منابر أدمنوا القفز من صدر دكتاتور لآخر إلا أن الشعب الذي درس في كتب المطالعة قصة "النمر ومحمود الكذاب" لن تنطلي عليه بعد اليوم تلك الأحاجي ولن يؤمن بجدية الحوار ويطمئن قلبه إليه حتى يرى جميع شروط تهيئة مناخه نفاذة دون إخلال بأي شرط من الشروط التي تجعل منه حوارا ايجابي المخرجات يخرج الوطن من الحلقة الشريرة وليس طق حنك لكسب الوقت والاستمرار في عملية النهب والتكويش على ما تبقى من خيرات الوطن ؛ ويكفي مرور عابر على نص خطاب المشير أمام جلسة تدشين أعمال الجمعية العامة للحوار المزعوم المنعقد بمن حضر ليعلم المرء أن تحفظات القوى الرافضة لانعقاده في ظل هذه الظروف كانت راشدة وصائبة وأن المشهد السياسي السوداني لم ينفك يدور في الحلقة المفرغة؛ فما ذكره المشير طي خطابه تكرارا مملا لما ظل يطرحه في كل مرحلة من مراحل سلطته المديدة حين تعصف به العاصفات ويستشعر انفلات خيوط اللعبة واقتراب الأجل عله بما يذكر يؤجل ما ليس منه مهرب فوضع البلاد الاقتصادي يتهاوى باضطراد متسارع وعملته الوطنية في مهب الريح ومراكز القوى التي غادرت مركز صنع القرار دخلت بقوة في لعبة شد الحبل من منفذ خطر هو (قوت الشعب) وما صراع الفيلة الدائر بينها وبين مجموعة (دال) بمطاحن غلالها العملاقة التي مكن لها في السابق من قبل مراكز القوى القديمة إلا رأس الجليد القادر على دق عنق سفينة الإنقاذ التي (لا تبالي بالرياح ) إن لم يتم تدارك ولملمت الأمر سريعا. (2) بوسع المشير أن يتحدث ويجزل الوعود، ولكن ما الذي يمكن أن يفرض عليه الالتزام بها والعمل على ما فيه صالح شعبه ومن يضمن وفائه بالتعهدات التي يقطعها آناء النهار وينكرها عشاء ؟ لا شيء في ظل غياب مؤسسات الدولة الرشيدة وتغيب قوى المعارضة وتهميش الرأي الآخر؛ يضمن تنفيذ هذه الوعود التي ظلت تبذل طوال ربع قرن؛ لذا فليس من المستغرب أن يغرق خطاب المشير أمام الجمعية العمومية للحوار من جديد في الأماني والرغائب دون أن يأتي بجديد يجير لصالح احداث اختراق سياسي جاد يدفع بالعملية السلمية قدما؛ فنهج الدوران حول النفس والقفز البهلواني فوق القضايا التي تؤسس لحوار إيجابي هو نفسه الذي ظل يمارس منذ أن أطلق المشير وثبته الرئاسية قبل عامين ؛ بينما معضلات السودان تزداد تعقيدا وتأزما في ظل غياب مختلف صور الرقابة، وغياب الحوار الحقيقي حول السياسات، بغياب المؤسسات الديمقراطية الفاعلة القائمة على المشاركة الشعبية والشفافية وليست المؤسسات الصورية والبرلمانات التي لا يستحي نوابها من الدفاع عن قرارات رفع الدعم عن السلع الضرورية والتخلي عن مجانية التعليم والعلاج وكل ما يشغل بال نوابها المحترمين هو المطالبة بزيادة المخصصات والامتيازات الممنوحة لهم؛ إن كل ما يقوم به نواب الشعب في برلمان الاجماع السكوتي هو التصفيق لقرارات تضيق سبل العيش على الشعب والنوم تحت نظم التكييف المركزية أثناء المداولات وخطب الحجاج الفارغة؛ فهم أدرى بمغزى تلك الخطب الهادفة لمراوغة الشعب وهدهدته لينام ملء جفنيه كنوم نوابه الذي بذ نوم أهل الكهف. (3) سيظل المشير يسعى جاهداً إلى الاستمرار في السلطة، مفضلاً انتهاج سياسات تخديريه تكسبه الوقت عوضا عن إيجاد حلول ناجعة للأزمة الوطنية، فجل تركيزه ينصب على إقصاء المعارضين له، وتدعيم مؤيديه بعد أن تم تدجين مؤسسات الدولة بسياسة التمكين، وهدم البنية التشريعية والقانونية، فقد عمل نظامه طوال الفترات الماضية على تقليص دور المعارضة بكافة السبل المتاحة، فضلاً عن القيام بتقييد حريات عمل الجمعيات والنقابات، وحرية التعبير، وغيرها من العناصر اللازمة لبناء مجتمع حر وديمقراطي يمكن أن ينجز حوارا وطنيا راشدا تأتي مخرجاته في حجم المعضلات التي تواجه الوطن؛ ولم تأت الدعوة إلى الحوار إلا بعد أن تأكد المشير من أن مؤسسات الدولة النخرة القائمة اليوم لا تستطيع إنجاز حوار سوى ذاك المفصل على مقاسه ووفق شروطه التي توافق أهواء حزبه وحركته الإسلامية؛ ويكفي أن نرى مدى حماس حزب المؤتمر الشعبي وشيخه الترابي لعقد هذا الحوار المعلول لنعلم أن وراء الاكمة ما وراؤها؛ ونفهم الغرض الحقيقي من كل هذه العربدة الإخوانية؛ رغم عمليات تجميل جيد حوار الإذعان بحشد بعض الوجوه الكالحة باعتبار أنها وجوه وطنية مستقلة. (4) يصعب على المرء تصنيف نظام المشير الحالي ؛ حيث يبدو اليوم خليطا عجيبا من الأوتوقراطية والثيوقراطية المستبدة؛ والمعروف أن الحاكم الأوتوقراطي يظل في حاجة إلى مساعدة أفراد فسدة ومؤسسات في المجتمع أكثر فسادا لفرض سيطرته على الشعب؛ لذا يستهدف لف معدمي الموهبة والضمير من النخبة حوله؛ ويحتمي بالعسكر ويحاول كسب الشرعية بالتمسح في الدين؛ ليظل حاكم؛ والمشير الذي لم يستطع رغم طول البقاء في السلطة اكتساب شرعية جماهيرية كما اعترف مؤخرا أمام حشد من انصاره غدا جل همه استثمار موارد الدولة في تشكيل رأى عام مؤيد له، فتفنن في صنع مؤتمرات موائد الرحمن حتى فاق عددها عدد اجتماعات القمم العربية؛ وتوافق معها في الهرطقة والسفسطة والصرف البذخي دون تحقيق التنمية وإعمار البلاد؛ فتشكيل الرأي العام صار بديلاً للحصول على التأييد الشعبي، ومن أسهل سبل تشكيل الرأي العام القضاء على استقلالية الصحف، وفرض رقابة حكومية على تداول المعلومات، ولنا أن نلحظ مدى الجهد الذي تبذله السلطة الحالية في قمع حرية الصحافة والإعلام ومحاربة منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. (5) فكيف يمكن عقد حوار وطني منتج في ظل هذا العبث ومفارقات تصريحات الرئيس المتناقضة التي تصدم النفس ؛ فنراه يقطع من ناحية وعدا بتنفيذ مخرجات الحوار كاملا وإكمال مسيرة السلام الشامل ومن ناحية ثانية تناقض الأولى يتعهد بالقضاء المبرم على التمرد وهي جملة فقدت مضمونها وصارت مسخرة من فرط تكرارها في كل عام ؛ دون ذكر كيف ومتى سيتم هذا الحسم ؟؟! فإن كان حربا فالحركات المسلحة تواصل تحكمها منذ أمد في مساحات واسعة من البلاد ولم نر لهذا الحسم غبارا وإن كان سلما بالحوار فكيف يعقل عقد حوار في غياب وأهم مكونات الفعل السياسي من أحزاب وحركات مسلحة غابت أو بالأحرى غيبة بسبب عدم تهيئة المناخ؛ إن الحديث المرسل في الهواء عن العفو والاستعداد لوقف إطلاق النار في عدم وجود ضمانات حقيقية لم يعد يدلف لعقل عاقل ؛ خاصة وهناك أحكام قضائية بإعدام قادة الحركات المسلحة التي يدعوها للحوار؛؛ عموما لا أظن بعد أن قام المشير بتعديل دستوره منفردا؛ وعقد انتخاباته التي نافس فيها نفسه؛ والعب بورقة الحوار وتحكم في أجندته؛ ومواقيت عقده قد تبقى ما يمكن التحاور عليه وكل هذا الهرج والمرج الذي نحن فيه ما هو إلا مسرحية هزلية الغرض من ورائها تضميد جراح الصف الإسلاموي، هي لعبة مكشوفة لم تعد تنطلي أحد. ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون. [email protected]