ثمة فرق جوهري بين المدني والأصولي، ذلك أن الأخير ليست لديه القدرة أو الطاقة على استيعاب مفهوم "الدولة" بوصفها الكيان الحاوي للمؤسسات والقائمة على النظم والقوانين، والمرتّبة للأدوار، والضابطة لإيقاع القرارات وإصدار التشريعات. إن الحالة الأصولية عبارة عن "مستوى أممي" يكاد ينعدم إزاءه الوطن تماماً، إذ يتم محو معنى الدولة، ويطمس مفهوم المواطَنة، ويستهتر بقيم المؤسسات وتستباح هيبة الدولة. لهذا لا يستطيع الأصولي التوقف للتأمل في الأحداث الكبرى والمنعطفات الحاسمة حتى تتخذ الدولة موقفاً معيّناً، أو تقرر اتجاها محدداً يحفظ كيان الوطن من عاتيات الرياح، وصراعات الأقاليم، واضطرابات الجوار. ومن ذلك ، البيان "الجهادي" الذي أصدره بعض الدعاة، وتولّى نشره الشيخ ناصر العمر، وهو من رموز الصحوة، والمشرف العام على موقع "المسلم"، ومن المهتمّين بمسألة الجهاد الأفغاني في الثمانينات. بنفس مستوى الحماس وبذات صيغ الخطاب اهتم العمر بالموضوع السوري.، فهو وبعد خلافاتٍ بين جماعات القتال في سوريا ذكّر بمحاضرةٍ له من خطر تكرار نموذج الخلاف بين "المجاهدين" الأفغان! لكنه لم يتحدّث عن خطورة تكرار نموذج "الأفغان العرب" المكوّن الرئيسي لعوالم الإرهاب التي تضرب بكل اتجاه في قارات العالم السبع. لكنه خصص وقتاً طويلاً من محاضراته آنذاك لمواجهة التنمية والنهضة، ومحاربة التحديث، كما قاوم تغيير المناهج، وحذّر من تجديد الخطاب الديني، وبادر في محاضرةٍ له بعنوان "السكّينة … السكينة" إلى مهاجمة الوزير السعودي غازي القصيبي، ولنتوقف قليلاً عند هذه المواجهة بوصفها مدخلاً للمقارنة بين مستويين من التفكير أحدهما:انكفائي رجعي، والآخر: تنموي عصري يسعى إلى اللحاق بركب العالم واستثمار ثروة البلاد الطائلة بطفراتها المتعددة. وثّق غازي القصيبي المواجهة مع ناصر العمر في كتابه"حتى لا تكون فتنة" الذي بات وثيقةً تاريخية، تبيّن عبرها سبق الوزير الراحل إلى أخطار الأصولية الصاعدة آنذاك، وقد ناقش في الكتاب جمعاً من رموز تلك المرحلة وأتوقف مع قصته مع العمر تحديداً. حيث استغرب القصيبي من إشعال رموز الصحوة لقضايا "المطالبات" في وقت دخول السعودية بحربٍ شعواء ضد العراق. العمر بمحاضرته الآنف ذكرها يقول عن العلمانيين:"ومن أساليبهم ومن مبادئهم ما يسمّى بمبدأ الحوار، عندهم مبدأ الحوار، حاور … هذا المبدأ خطير … خطير … خطير". (القصيبي، حتى لاتكون فتنة31 الطبعة الثانية 1991). العمر نفسه تحدّث في موقعه الشخصي ضمن زاوية "الفتاوى" بنفس النبرة التي مضى عليها ربع قرن حول تجديد الخطاب الديني يقول عن ذلك:"يعتبر من الضعف وتحقيق رغبة الأعداء، وبخاصة أن أصل هذه الدعوة جاءت من الغرب لإذابة مفهوم الولاء والبراء، وإضعاف العداوة للكفار، ونشر ثقافة التسامح حتى مع المحاربين وإلغاء التميز والعلو والعزة للمسلمين، وهو ما يطرح كثيراً الآن في مصطلحات كثيرة مثل الحوار مع الآخر، والتعايش، وإلغاء الكراهية وغيرها". (الفتوى نشرت بتاريخ 19-3-1434). ضمن نفس الصيغ تلك، تم تدبيج البيان، إذ تضمن أسس النبرة الرجعية، واعتنى بالحشد، واعتدى على وظيفة ومفهوم الدولة، إذ لا يمثّل هؤلاء جهة سياسية رسمية، أو مؤسسة أمنية أو حربية، والبيان لا يتضمن رأياً فكرياً، بقدر ما يتضمن رؤية سياسية، ودعوة ميدانية، وتدخلات حربية، لتعود نفس ذكرى أفغانستان، حيث افتتح البيان ب:" ما أشبه الليلة بالبارحة! فقبل ست وثلاثين سنة غزا الاتحاد السوفييتي الشيوعي أفغانستان المسلمة لينصر الحزب الشيوعي ويحميه من السقوط، وها هي وريثته روسيا الصليبية الأرثوذكسية تغزو سوريا المسلمة لنصرة النظام النصيري وحمايته من السقوط، فلتعتبر بمصير سلفها". ثبّت الموقّعون أن الحرب "صليبية" وبالتالي فإن هذا المعنى سيخاطب وجدان آلاف الشباب المسلمين للجهاد. العجب، أن من تولّى كبر البيان ناصر العمر نفى على صفحته ب"تويتر" أن يكون البيان تضمن الدعوة إلى الجهاد والنفير، بينما نقرأ بصلب البيان هذا القول العربي البيّن:"وندعو الكوادر وذوي القدرات والخبرات في كافة المجالات إلى البقاء وعدم مغادرة الشام، بل المساهمة في البناء والتحرير، وندعو القادرين منكم إلى الالتحاق بركب الجهاد، فهذا يومكم"! ثم يُدخل البيان المذهبية في المعنى السياسي، حيث يهاجم جميع الفرس، وجميع المسيحيين، وجميع العلويين بالمنطقة، وكأنهم كلهم ضمن المشاريع التي تدار من إيران، وروسيا، والنظام السوري، وهذا افتئات واضح وظلم صريح، فليس كل الفرس من الخمينيين، ولا كل المسيحيين من المؤيدين لحرب بوتين، ولا كل العلويين مع بشار الأسد … هذا على الهامش، ليتبيّن لنا أن استهداف داعش للأقليات أتى ضمن خطابٍ لم يبتعد كثيراً عن مضامينٍ سوّدت في البيان "الجهادي" الذي بين أيدينا. إن الاستهداف الأصولي للأقليات الدينية والمذهبية من "الأيزيدية" إلى "العلويّة" وسواها لم يكن إلا ترجمةً لهذا التمييز الصارخ ضد الأمم والمذاهب والشعوب، ومحاولة تسييسها قسراً وإدماجها ضمن نظامٍ محدد ومن ثم استهدافها والقضاء عليها، وهذا فعل ضد الإنسانية، وضد القيم، وفي ترويجه خطر على الأخلاق. ثم يأتي توجيه لمن؟! للدول … نعم البيان يوجه الدول! ويخبرها عن الذي يجب عليها فعله أو تجنّبه، يقول:" إن الدور الأكبر في نصرة الشعب السوري يقع على كاهل الدول السنية المجاورة لسوريا، وعلى الدول التي أعلنت بقوة وصراحة وقوفها إلى جانب الشعب السوري وأنه لا مكان للقاتل في أي حل مقبل، وعلى رأس هذه الدول بلادنا المملكة العربية السعودية، وتركيا وقطر، فندعوهم لاتخاذ مواقف عملية قوية نصرة لإخوانهم السوريين؛ مواقف تتحقق بها حماية الشام أرضا وشعبا من نفوذ الفرس والروس. وهي مواقف محمودة شرعا وعقلا ، وتمليها ضرورات الدين والدنيا. وسيكتب التاريخ فاعل ذلك في سجل عظماء الإسلام. ونطالب الدول الإسلامية -والعربية على وجه الخصوص- بسحب سفرائها من روسياوإيران وقطع جميع العلاقات والتعاملات معهم". يقول البعض أن هذا البيان يعبّر عن موقف تجاه قضية، كالبيانات التي تصدر عن أيقونات هوليود في الحروب والأزمات، بيد أن الفرق شاسع، والبون كبير، ذلك أن البيان هذا خرج بصيغةٍ دينية، واستخدم مفردات شرعية، وأعلن "الجهاد" ضد ما وصفه ب"الحرب الصليبية" وبالتالي فإن الآلاف من البشر سيتجهون إلى تلك المناطق المضطربة لإزهاق الأرواح وإسالة الدماء. إن المواقف المدنيّة لها حدودها وأسلوبها وأنماطها، فرق بين "برفسور بالفقه" يصدر بياناً دينياً، وبين أيقونة رياضية أو فنية تصدر رأياً عادياً، إذ أن للأول أتباعه العطشى للتوجيهات، والمتحمسين ل"الجهاد" والمنتظرين للرأي الشرعي والإذن الديني، وهنا الفرق الجذري الواضح البين الناصع. إن خطورة البيان في نتائجه، وفي محتواه ودعوته، وليست في صياغته، أو توقيته أو قيمته، فالموضوع بالدرجة الأولى له بعده الأمني واتجاهه القتالي وتأثيره الميداني. تلك الخطابات ظنّنا أنها انطوت وانتهت غير أنها عادت من جديد، وكأن قدر المسلمين أن تعاود الأحداث تفريغ خلايا على غرار "الأفغان العرب" كل ربع قرن! وما أشبه الحال بقول نصر بن سيار الكناني في كتابه إلى يزيد بن عمرو بن هبيرة: أرى تحت الرماد وميض جمرٍ ** ويوشك أن يكون له ضرامُ فإن النارَ بالعودين تُذكى ** وإن الحرب مبدؤها كلامُ فإن لم يطفِها عقلاء قوم ** يكون وقودها جثث وهامُ. (منقول).