يتناول كتاب الدكتور محمد نور الدين أفاية "في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية" الحائز على جائزة "أهم كتاب عربي" لدورة 2015 التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي في بيروت المعالم الأساسية لتطور النقد الفلسفي من كانط إلى ماركس، ويعرض الكتاب في فصوله الستة قضايا وأبعاد الفكر النقدي، بدءا بالمقدمات النظرية للنقد في الفلسفة الحديثة ثم في الفلسفة المعاصرة، مرورا بوجهات النقد الفلسفي، وبالكثافة النقدية التي تتضمنها الفلسفة وعلاقتها بأسئلة الوجود والحياة، وأسئلة القيم والقلق العام الذي أصبح يساور الأفراد والجماعات، وانتهاء بالنزعات النقدية في الفكر العربي المعاصر. فقد قدم الدكتور أفاية المشهد الفكري النقدي الذي شهد كما يقول الناقد المغربي عبر تاريخه، تفاوتا في نوعية حضوره في مختلف الحقول النظرية، وعلى الرغم من المستجدات التقنية والاقتصادية والإعلامية التي يعمل العالم على ابتداعها في كل لحظة وحين، ويشهد عليه التراكم اللامحدود للمعارف، وتقنيات المعاينة والبحث في مجالات التاريخ والأنثروبولوجيا، والفن والعلوم الاجتماعية، وعلى الرغم من الاجتياح الكبير للتيارات التي تؤجج ملكات الإدراك، وتستفزّ الانفعالات ومختلف تعبيرات المتخيّل وتستهدف في الآن ذاته محاصرة قدرات الوعي والتشويش على مقتضيات النظر النقدي، فإن القدرات المعرفية لفهم الذات الإنسانية والواقع الاجتماعي وآليات السلطة بكل أشكالها لم تكن بالغنى والقوة التي هي بهما اليوم. ويتضمن الكتاب ثلاثة أقسام وستة فصول تختلف فيها الاهتمامات بمرجعيات الفكر النقدي وسياقاته، ويشتمل الفصل الأول من القسم الأول فيه على المقدمات الفلسفية للنقد في الفلسفة الحديثة، وعلى النصوص التي أسست للنظر النقدي. بينما يقدم الفصل الثاني امتدادات النقد في الفلسفة المعاصرة، ويتناول الفصل الثالث من القسم الثاني الكثافة النقدية التي تتضمنها الفلسفة وعلاقتها بأسئلة الوجود والحياة، والأبعاد النقدية الثاوية المكونة للديموقراطية باعتبارها نظرة إلى الانسان وإلى المجتمع فضلا عن كونها سياسة تنبني من المساءلة والمراقبة والنقد. أما في الفصل الرابع فيحاول الدكتور أفاية تلمس القيم والقلق العام الذي أصبح يقلق ويربك الافراد والجماعات، لاعتياد الناس كثيرا في هذا العصر على مطالعة طروحات كثيرة تتحدث بصراحة عن فقدان القيم ونشوء أزمة القيم، فقد ساعد النظام المعولم لنقل وتوزيع الثروات على قيام هذه الأزمة، ويتناول الفصل أيضا الشعور بالقلق والفوضى في كل المجالات السياسية والمالية والاجتماعية والبيئية والقيمية، خاصة وأن أنماط عيش الناس تغيرت وتحول الانسان بالتدريج إلى كائن مديني وحضري. وتغيرت أيضا أفكار كثيرة كان يعتقد بها الإنسان فيما مضى تخص جوهر العلاقات والقيم التي أصابها أيضا تيار التغيير واكتست بالخلخلة واهتزت صورتها وإطارها كثيرا، وتغيرت الأهمية التي كان ينظر من خلالها إلى كثير من أمور حياته، فما كان مهما في وقت ماض ربما لم يعد كذلك الآن. وإزاء هذا التغير فقد يجد البشر أنفسهم في مواقف متناقضة وغير مفهومة أحيانا، خاصة وأننا في عصر تتصاعد فيه موجة من الخطابات الإعلامية عبر الصورة والصوت تعبر عن الموعظة والنواهي القيمية والأخلاقية. أما الفصل الخامس من القسم الثالث فيتناول استجلاء "النزعات النقدية" التي أنتجتها تيارات الفكر العربي المعاصر، ولا سيما تلك التي انصبت مجهوداتها النظرية على كشف مكونات العقل العربي،ونقد أساسياته بقصد إنجاز تركيب فكري قادر على إدخال المنسوب الضروري من الحيوية النقدية في الفكر العربي. ويشرح الفصل السادس ما يمكن وصفه "التفكيكية العربية" مركزا على أعمال المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي باعتبارها تقترح بروتوكولا نظرياً ومنهجياً وجمالياً لمعالجة القضايا الكبرى في الفكر العربي. ويقول الدكتور أفراية في وصفه للخطيبي "لقد امتلك عبد الكبير الخطيبي جذارة فكرة في سياق ثقافي عربي لم يتمكن من التحرر من الأسر الفقهي التقليدي الذي كبل الثقافة العربية ولم يتعب نفسه كثيرا في المرافعات التي سجنت مناقشات المثقفين المغاربة والعرب ومساجلاتهم منذ الستينيات فأسلوبه في الكتابة تحليل وقلق وحضور، وقد تمرد على المنهج السوسيولوجي الصارم للانشغال بكل تجليات الكائن، غامر في الشعر والمسرحية والرواية والنقد والجماليات والفلسفة". وقد أدرج الدكتور أفراية القسم المتعلق بالفكر العربي المعاصر في سياق الفكر النقدي "لأننا نحسب أن المفكرين العرب الذين أتينا على مقاربتهم ينتمون بجدارة الى الفكر النقدي الانساني؛ لأنهم بنوا صروحهم الفكرية في احتكاك مباشر بتاريخ الافكار الفلسفية والتاريخية والسياسية التي أنتجها الغرب ولا نشعر بالحرج لديهم حين يستلهمون هذا الفيلسوف أو المفكر الغربي أو ذاك؛ من زكي نجيب محمود في علاقته بالوضعية المنطقية، أو حين يدعو عبد الله العروي إلى ادماج التاريخانية في الفكر العربي، واقامة أسس الدولة العصرية فإننا لا نجده يتردد في استلهام ماركس الشاب أو ماكس فيبر". وأكد الدكتور أفاية أن اختياره للنصوص والمفاهيم الفلسفية ابتداء من كانط ومرورا بهيغل وماكس وفوكو وغيرهم يجيء ليثبت أن كل إنتاج فكري يمكن أن يكون نقدياً كلما تمكن من إبراز معنى جديد، وانتزع لذاته فضاء مناسبا في الإنتاج الفكري والنظري والثقافي، وذلك ما لا يمكن الوصول اليه من دون تفكير منتبه الى العمل الفلسفي والفكري باعتباره تفكيراً مجالاً مساجلاً برهانياً باحثاً عن المعنى ومن المؤكد أن المتن العربي الذي قدمه من خلال الخطيبي يكثف هذا المقتضى المعرفي والمبدئي. والمفكر أفاية ولد في مدينة سلا المغربية عام 1956، حاصل على شهادة دكتوراة دولة في الفلسفة، وهوأستاذ التعليم العالي في تخصص الجماليات وفلسفة التواصل ويرأس جمعية البحث في التواصل ما بين الثقافات وصدر له كتب كثيرة منها "الهوية والاختلاف في المرأة"، "الكتابة والهامش"، "الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس"، "الغرب في المتخيل العربي الإسلامي" وصدر باللغة الفرنسية، "الغرب في المتخيل العربي الإسلامي في العصر الوسيط"، "أسئلة النهضة في المغرب"، "السلطة والفكر"، "من أجل ثقافة الاعتراف في المغرب"، كما أن للدكتور أفاية مساهمات في مجموعة من الكتب الجماعية ودراسات ومقالات في مجلات عربية وأجنبية. (نقلاً عن ميدل ايست اونلاين).