لا نعتقد أن الوسيط الإفريقي رئيس جنوب إفريقيا السابق وكل أعضاء لجنته رفيعة المستوى قد فوجئوا بفشل جولة محادثات معالجة الأزمة السودانية هذا الأسبوع في أديس أبابا وهو فشل قد اعتادت عليه اللجنة مثلما اعتادت على رفع راية التفاؤل عبر كل جولة مفاوضات فاشلة لتعلن أن تقدماً محسوساً قد حدث وأنها ستتابع الأمر في جولات قادمة، حقيقة اللجنة كانت تدرك أن الجولة مهددة بالفشل، لكنها قصدت من عقد هذه الجولة العاشرة من المفاوضات أن تتمكن من مخاطبة مجلس السلم الإفريقي ومجلس الأمن الدولي بأنها عقدت جولة تفاوض، وأنها أحرزت تقدماً وأن على المجلسين إمهالها إلى أن تكمل المهمة؛ لأنها مطالبة وفق قرارات المجلسين أن تقدم تقريراً حول أداء مهمتها بعد تسعين يوماً من صدور القرار الأخير وقد انتهت هذه المهلة الآن وربما قدمت اللجنة تقريرها الأسبوع القادم. اللجنة تعرف أن الحركة الشعبية تربط وقف إطلاق النار بالحل السلمي الشامل وتريد الآن وقف عدائيات لبضعة أشهر لتوصيل الإغاثة للمتضررين عبر ممرات آمنة وترتيبات أمنية تضمن وجودها في الميدان وتضمن وصول الإغاثة من دول خارجية مباشرة للمواقع المتضررة، وأن يأتي وقف إطلاق النار الشامل بعد الحوار الشامل والاتفاق على الوضع النهائي للولايتين، أما الحكومة فتريد وقف إطلاق نار شامل فورا أو بعد وقف العدائيات ببضعة أسابيع وحل نهائي لمستقبل الولايتين متفاوض عليه مباشرة بين الحكومة وقطاع الشمال بغض النظر عن مآلات الحوار الشامل كما تريد أن يتم توصيل الإغاثة عبر أجهزتها الحكومية فقط مع إشرافها الكامل على الحدود، وأن تبسط سيادتها فور وقف العدائيات على المناطق الحدودية حتى التي تحتلها الحركة الآن باعتبارها مناطق سيادية يجب أن تعود لسيادة الدولة، فالخلاف، إذن خلاف جذري والفجوة بين الموقفين بعيدة وقد فشلت كل المحاولات السابقة في تجسيرها ولا يمكن حسمها في جولة تمتد يومين أو ثلاثة مهما بلغت درجة تفاؤل الوسطاء أما القضية الثانية، قضية دارفور، فهي لا تقل تعقيداً والعقبة تبدأ باتفاقية الدوحة، والطرفان على طرفي نقيض في موقفهما تجاهها فالحكومة تعتبرها اتفاقية كاملة ونهائية وغير قابلة لإعادة التفاوض وحركات دارفور المسلحة تقول: إنهم لو كانوا يعتبرونها كاملة ونهائية لكانوا قد وقعوا عليها يوم صدورها وهي ينبغي أن تظل مفتوحة لإعادة التفاوض للوصول إلى صيغة نهائية، هذا الخلاف كان واضحاً منذ بداية التفاوض والوساطة القطرية لا تمانع في إعادة النظر في بعض جوانب الاتفاقية من أجل تحقيق السلام إذا اتفق على ذلك الطرفان، ولكنّ الطرفين ظلا على طرفي نقيض وسيتكرر نفس الموقف إذا انعقدت جولة مفاوضات أخرى، كما أن حركات دارفور تريد وقف عدائيات يستمر شهورا والحكومة تريده لشهر واحد فقط يتبعه وقف شامل لإطلاق النار. ألم يَحِن الوقت لكي تراجع لجنة الوساطة الإفريقية منهج عملها وأسلوب تعاطيها مع الأزمة السودانية فتتعامل معها في شمولها وتجلياتها التي تأخذ إشكالاً مختلفة ولا يمكن حلها بأسلوب التجزئة الحالي؟ لقد جربنا أسلوب تجزئة القضية من قبل فانتهينا بانفصال الجنوب، وجربناه في دارفور فأنجزنا اتفاقية جزئية وسلطة إقليمية هلامية لم تحل المشكلة واستمرت الحرب وتحاورنا بطريقة التجزئة مع قضايا النيل الأزرق وجنوب كردوفان فلم نحرز تقدماً برغم عقد الجولات العديدة، وفي مرحلة سابقة أقرت لجنة الوساطة بضرورة المقاربة الشاملة للازمة في كل تجلياتها عبر منبر حواري واحد، وإذا تحقق ذلك لا بأس من أن تنبثق عنه مجموعات فرعية لتعالج مستقبل الأوضاع في دارفور أو جنوب كردوفان أو النيل الأزرق اعترافاً بخصوصيتها حتى يتم استيعاب تطلعاتها المشروعة في إطار الحل الشامل لأزمة السودان، لكن الوساطة بعد أن اعترفت بنجاعة مثل هذا المنهج عادت إلى التفاوض عبر مسارين، وبعيداً عن منبر الحل الشامل ودونما ربط بينهما مما أعاد إنتاج الأزمة، ولعل الجولات الأخيرة أثبتت أن محاولات تجزئة الأزمة السودانية لن تحقق الحل الشامل المطلوب وأن المناطق الأكثر تأزماً مثل دارفور أو المنطقتين ليست جزراً معزولة بل هي جزء من الأزمة السودانية الشاملة وأن موقعها في نظام الحكم المرتجى لحل الأزمة ينبغي أن يأتي حسب قواعد إعادة تأسيس السودان على مرتكزات جديدة تحقق العدالة والسلام والديمقراطية وحكم القانون القائم على مؤسسات راشدة تحترم التعددية وتقضي على المظالم التي أنتجت الأزمة الوطنية، وهذه هي النظرة الكلية الغائبة في منهج الوساطة في التعامل مع الأزمة حالياً وما لم تَعُد اللجنة لهذه القاعدة ستظل تدور في حلقة مفرغة.