كثيرةٌ هى المصائب التي حلت بالتعليم في ظل حُكم الإنقاذ الممتد منذُ أكثر من ربع قرن من الزمان, بعضُها يرتبطُ بالمناهج ومنها ما هو متعلق بالتأهيل الأكاديمي للأساتذة فضلاً عن الإمكانيات والمتطلبات التي تحتاجها العملية التعليمية وغير ذلك من أوجه القصور مما أدىَّ لحدوث تراجع "نوعي" مريع في مستوى الطلاب والخريجين سواءٌ في التعليم العام أوالجامعي. وكان من ضمن المفارقات العجيبة في هذا الإطار إزدياد أعداد حملة درجة "الدكتوراة" من الجامعات بصورة كبيرة و مثيرة للإستغراب ذلك لأنَّ متطلبات هذه الدرجة الأكاديمية الرفيعة ليست بالسهولة بحيث ينالها مئات وآلاف الطلاب بيُسر ودون عناء وبحث جاد ومثمر يُضيف للحقل العلمي ويُسهم في رفد العلوم المختلفة بالبحوث الأصيلة والنظريات والكشوف الجديدة. وأكثر ما يدعو للدهشة في هذا الخصوص هو التناسب "الطردي" بين الزيادة الهائلة في أعداد حملة شهادة الدكتوراة والإنحطاط المعرفي والتدهور الأكاديمي وبؤس الأداء في البحث العلمي مما يُنبىء حقاً بأنَّ الأمر لا يعدو كونه توَّجهٌ متعمَّد وسياسة قصدية تحتفي "بالكم" على حساب "الكيف" ولا تأبهُ بالبعد الأخلاقي المرتبط بالإلتزام "بالمعايير العلمية" الصارمة في منح هذا التقدير الأكاديمي الرفيع. ولم يقتصر ذلك العبث على منح درجة الدكتوراة الأكاديمية لكُلِّ من هبَّ ودب بل إمتدَّ كذلك ليشمل مجال "التقدير الفخري" الذي تمنحهُ المؤسسات التربوية العريقة صاحبة التراث العلمي والفكري والصدقية الأكاديمية لأشخاص مشهودٌ لهم بالعطاء العلمي و الانساني و الوطني النوعي. من المعلوم للجميع بالضرورة أنَّ "الدكتوراة الفخرية" تختلفُ إختلافاً جذرياً عن "الدكتوراة العلمية" التي ينالها الشخص وفقاً لمؤهلات أكاديمية محددة ومعروفة بينما الأولى تمنح لأولئك الذين لم يتمكنوا من متابعة تحصيلهم الأكاديمي الرسمي ولكنهم تركوا أثراً ونتاجاً أهم بكثير من "الأطروحات", وتكمن فلسفتها الأساسية في أنَّ قيمة الإنسان العلمية لا تقتصرُ على الدرجة الأكاديمية التي يتحصل عليها بل تنعكسُ في إنتاجه المعرفي والثقافي والسياسي والاقتصادي وبدوره في الحياة عموماً. وبالتالي فإنَّ الدكتوراة الفخرية تُعتبرُ "درجة تكريمية" وليست "أكاديمية" مما يعني أنها يُمكنُ أن تُضاف للسيرة الذاتية للشخص المُكرَّم ولكن لا يجوز أن تُصبح لقباً علمياً ملحقاً بإسمه "أن يُقال دكتور فلان" لأنَّ ذلك أمرٌ مقصورٌ على الشخص الذي نال الدرجة العلمية المعروفة بعد إستيفاء شروطها الأكاديمية المطلوبة. ساقني قدري المشؤوم مساء الخميس الماضي لحضور برنامج بقناة "النيل الأزرق" إستضافت فيه الأستاذة "ميرفت حسين" رئيس نادي الهلال "أشرف الكاردينال" لتقصي أسباب الخروج المبكر للفريق من البطولة الأفريقية, ولفت نظري أنها قدمته للمشاهدين "بالدكتور أشرف" وكرَّرت ذلك كثيراً خلال الحلقة دون أن تشعر بأية حرج. سألتُ عن الإنتاج المعرفي أو الثقافي أوالعلمي أوالإقتصادي للسيد أشرف الكاردينال فلم أعثر على شىء, وعلمتُ أن درجة الدكتوراة الفخرية قد مُنحت له من قبل "جامعة الأحفاد" العريقة, ولا ضير في ذلك فهذا أيضاً عُرفٌ معمولٌ به من قبل المؤسسات الأكاديمية التي تعطي اللقب لمن يدعهما مالياً ولكن ذلك أيضاً يرتبط بشروط تخص "السيرة الذاتية" للشخص المتبرع ومدى مواءمتها لرسالة تلك المؤسسة العلمية. لم تقتصر حسرتي على مقدمة البرنامج الأستاذة ميرفت, وهى إنسانة متعلمة وخريجة جامعية, بل إمتدت لتشمل إدارة القناة التي يُفترض أن تتحرَّى الدِّقة في تقديم ضيوف برامجها بالصورة السليمة وأن لا تسمح لطاقمها بالإنسياق خلف موجة التردي الشاملة التي أصابت الأجهزة الإعلامية. ثّمَّ تضاعف ألمي وأصبتُ بالغثيان عندما بدأتُ في الإستماع لإجابات السيد الكاردينال عن أسئلة الأستاذة ميرفت, وجدتُ نفسي بإزاء شخصٍ متضخم "الأنا" بصورة مَرَضيَّة, يُكثرُ من إستخدام عبارات من شاكلة " أنا ما دُهُل", "أنا رئيس الهلال", "الهلال ما عنده خزينة ولا عنده بير (بئر) بدفع أنا". وكذلك أبت نفس "الدكتور" المزعوم إلا وأن تُتحفنا بعبارات لا تجري عادة على ألسنة من يحملون ذلك اللقب العلمي عن جدارة وإستحقاق من قبيل "الدولار شات شوت عجيب جداً" و نيلسون ليهو سنتين "برة الشبكة". تُرى هلى يعلم هذا الرَّجل العجيب الذي جاء إلى سُدَّة رئاسة نادي الهلال في "زمن الغفلة" أنَّ كفاءات وطنية و إدارية عالية من أمثال بابكر القباني وحسن عوض الله والطيب عبد الله و محمد عامر بشير فوراوي وعمر محمد سعيد وعمر الزين صغيرون وحسن عبد القادر الحاج ودياب إدريس وعمر على حسن و عبد الله السماني وغيرهم قد مرَّت على إدارة النادي العريق ؟ وهل يعلم أنَّ المال وحدهُ لا يكفي لتحقيق الإنجازات في أية مجال بل أنَّ القدرات الإدارية تمثل البعد الأهم في هذا الخصوص ؟ ولا يكتفي الكاردينال بإستخدام هذه العبارات الغريبة بل يستخف بعقل المشاهد كي يُقنعهُ بسذاجة شديدة أنَّ أبراج الإضاءة في إستاد الهلال قد تعطلت بسبب "فك الصواميل" بواسطة جهة تستهدف المجلس, فتأمل ! دكتور"الصواميل" هذا يتجرأ و يُحدثنا – دون ان يرمش له جفن – عن "الإستراتيجية" التي وضعها حتى يفوز الهلال بكأس إفريقيا بعد عامين, وهو لا يعلم المعايير العلمية التي يُقاس بها أداء المدربين ويستأنس برأي الكابتن "عز الدين الدحيش" في إتخاذ قرار خطير كان لهُ أثراُ مباشراً في الخروج المبكر من البطولة, ولا يعلم أن "التخبط" في القرارات الإدارية هو أخطر العوامل التي تؤدي لفشل أية إستراتيجية. ليس هذا فحسب, بل أنَّ "الدكتور" الذي يدَّعي الإلمام بتفاصيل المشاكل المالية للفريق لأنه الشخص الوحيد الذي يدفع لا يعلم أن وزير دفاع الهلال وكابتن الفريق القومي "طارق أحمد آدم" لم يستلم فلساً واحداً من إستحقاقاته المالية على النادي وظل يُطالب بها في صمتٍ دون أن يلجأ مثل الآخرين للمحاكم ومع ذلك تم تجاهل طلباته المتكررة حتى يوم العالمين هذا. ولكن هل تُراني أقسو على الكاردينال بحديثي هذا ؟ فالرجل ليس إستثناءً من حالة الإنحطاط و التدهور العام الذي أصاب كل أوجه الحياة الثقافية والسياسية والإقتصادية بسبب طول الإستبداد والشمولية, وعلى وجه الخصوص بسبب التراجع الكبير الذي تعرضت له "الطبقة الوسطى" فاعل الحداثة التاريخي والمورد الرئيسي للكفاءات الإدارية التي كانت تقود الأندية الرياضية في السابق. قد إزداد التضخم وارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية واتسعت الفوارق في الدخول بشكل كبير وتشكلت فئات جديدة قامت على "النشاط الطفيلى" مثل المضاربة على أسعار الأراضي والتجارة فى العملة الأجنبية والتهريب وأعمال الوساطة والسمسرة و استطاعت تكوين ثروات كبيرة فى وقت قصير للغاية. لقد أثر ظهور هذه الفئات في تغيير التركيبة الإجتماعية للطبقة الوسطي مما أدي لإكتسابها خصائص سلبية جديدة فهذه الفئات تُمجِّدُ الحصول علي الثروة بدون عمل وتستسهلُ إنفاق ما حصلت عليه في أسرع وقت لأنّها لم تبذل جهداُ كبيراً أو تنفق وقتاً طويلاً في الحصول عليه وهذه خصائص مُنخفضة جداً عن الخصائص التي ميّزت نفس الطبقة في الماضي. ومع تغيُّر التركيبة الإجتماعية حدث تحوُّل كبير في "القيم" التي كانت تُمّيز الأفراد المنتمين لهذه الطبقة في الأزمان السابقة حيث إخترق الفساد الفئات الوسطى وأصبحت بعض قطاعاتها شريكاً فى "الفساد العام" باعتباره آلية لنهب ثروات البلد أكثر منه إنحرافاً فردياً، وحدث هذا الإختراق نتيجة لتدهور الأحوال المعيشية ونتيجة لسلوك الفئات الطفيلية. لم يعُد التعليم هو القيمة الأساسية التي تُعوِّلُ عليها هذه الطبقة وينبني عليها الحراك الاجتماعي الذي يزيد من فعاليتها وقدرتها، فالقدوة والنموذج والمثال الذي يُحتذى تحوَّل من المُعلِّم والموظف والطبيب والمهندس إلى السمسار والجوكي والغسّال ( من غسيل الأموال) والمُحتالين الذين يدعَّون "تنزيل الجن" , وباتت الغاية الرئيسية هى إغتناء المال بغض النظر عن وسيلة كسبه. ظاهرة "الدكتور" الكاردينال إذن تمثل إنعكاساً لأزمة مُجتمعية أعمق وأشمل حيث يتواجد "دكاترة كاردينالات" بكثرة في أحزابنا السياسية وجهاز الدولة وفضاء العمل المدني والأجهزة الإعلامية وغيرها وليس الأمر مقتصراً على الهيئات و الأندية الرياضية فحسب فهذه الأخيرة جزء من المُجتمع الواسع وتركيبته الطبقية وبالتالي فإنَّ حل مشاكلها لا بد أن ياتي في إطار علاج المشاكل الأكبر. ولا حول ولا قوة إلا بالله