قواعد التديّن العاقل (3) القاعدة الثالثة : لا ثوابت في الدين.. سعيد ناشيد التّحليل: يكثر الكلام عن تجديد الدين، ويتردّد على الألسن حديث نبويّ مشهور يُستظهر عن ظهر قلب، لكنه يُتلى في المبنى ويُنسى في المعنى. تحديداً، يراد للتجديد أن يدلَ على أي شيء آخر عدا الجدّة أو الأمر الجديد. وهذا شطط في استعمال اللغة. لكن، دعنا نؤكد ما يلي : لا توجد بنية ذهنية جامدة هامدة بحيث لا تقبل أيّ تغيير أو تطوير، حتى ولو تعلق الأمر ببنيّة غارقة في أوحال القدامة. ولا وجود في المقابل لبنية ذهنية مرنة متحررة بحيث لا تحتمل الوقوع في براثن الجمود والتحجّر، حتى ولو تعلق الأمر ببنية متشحة بأرقى مظاهر الحداثة. في كل الأحوال تقاس الأمور بحجم الجهود المبذولة في نقد الأفهام ومراجعة الأحكام لكي لا تتجمّد البنيات الذهنية وتفقد خصوبتها فتتصحّر أو تتصخّر في الأخير. هناك قاعدة تقول : في مدرسة الحياة لا وجود لأفهام مطلقة، وفي محكمة العقل لا وجود لأحكام نهائية. لذلك، لا يمكن تجديد الدين بدون تقويض الثوابت التي تُجمده، وتقليب الرواسب التي تُحجره، تلك الثوابت والرواسب التي أقبرت الفرد داخل مفاهيم الطاعة والجماعة والبيعة فأشاعت ثقافة القطيع، وأقبرت المرأة داخل مفاهيم القوامة والعورة والنجاسة فأشاعت ثقافة الانتصاب، وأقبرت العقل داخل مفاهيم التسليم والإعجاز والقدر فأشاعت ثقافة الخنوع، وأقبرت الأقليات داخل مفاهيم دار الإسلام وأهل الذمة والولاء والبراء فأشاعت ثقافة التعصب، وأقبرت الأخلاق داخل مفاهيم الحلال والحرام والترهيب والترغيب فأشاعت ثقافة النفاق. ههنا، ليست المفاهيم مجرّد وسائط محايدة للتواصل، بل هي وسائل إنتاج الفكر. لذلك، سيكون الحديث عن تجديد الدين بالاعتماد على نفس وسائل الإنتاج مجرّد مضيعة –قد تكون مقصودة- للجهد والوقت. وإذا كان تقويض الثوابت يمثل فرصة لتحرير الفكر، فإننا ندرك في المقابل بأنَ الفكر الديني هو فكر قبل كل شيء، أو هكذا يُفترض. والحال، ليس لدينا اليوم سوى دين بلا فكر، بمعنى "الجهل المقدس". فهل يحق لنا أن نستغرب من أعمال التكفير وأهوال التفجير وأحوال التهجير !؟ هناك بداهات منسية : ليست "ثوابت الدين" التي ورثناها عن السلف سوى وجهة نظر السلف وقد منحناها صفة الثوابت، فيما تسميه الأدبيات التكفيرية اليوم ب"معلوم الدين بالضرورة"، وهي عبارة لم ترد في الأدبيات الفقهية الأقدم. أما معلوم الدين بالضرورة –إن كان لابد من ترديد العبارة- فهو أن الصحابة والتَّابعين لم يتقيَّدوا حرفيًا بأي شيء اسمه سنَّة الرَّسول أو سيرته أو وصاياه. وإلاّ.. لما جمعوا القرآن أصلاً، ومعلوم عندهم أن الرّسول لم يوص بذلك ولا شجع عليه، ولما رتَّبوا المصحف بترتيبه الحالي من الحمد إلى المعوذتين، ولما دوَّنوه في مصحف واحد.. ولما وضعوا للسُّور أسماء ثابتة، ولما فرَّقوا بين السُّور بالبسملة، ولما أضافوا التَّنقيط والتَّنوين.. وكذلك، لما أقرُّوا التأريخ بالتقويم الهجري القمري، ولما نقلوا العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم بغداد، إلخ.. وأخيراً، لما جمعوا أحاديث الرَّسول ودوَّنوها في أصحاح، وقد قال الرَّسول بنفسه، "لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" ( صحيح مسلم ). وبالجملة، لو تقيَّد الصحابة والتابعون بسنَّة الرّسول وسيرته ووصاياه وسلكوها حذو النعل بالنعل لما وُجِد شيء اسمه النص الديني ( المصحف والصحاح )، ولما وجد شيء اسمه الخلافة ( خليفة رسول الله، أمير المؤمنين، خليفة المسلمين، خليفة الله، إلخ ). أما عن مفهوم السنة فقد نحتاج إلى توضيح إضافي : لا تحيل السّنّة إلى الرَّسول على وجه الحصر؛ فهي في الخطاب القرآني تدل على كافة الديانات السماوية "سنَّةُ الله في الذين خلوا من قبل" ( الأحزاب 62 )، "سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا" ( الإسراء 77 )، "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" ( آل عمران 137 )، "يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ" ( النساء 26 ). وفي الأقوال المنسوبة للرسول –بصرف النظر عن صحتها– لا تدلّ السنَّة على أفعال الرسول حصرًا. مثل ذلك قوله : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الرَّاشدين المهديين من بعدي" ( الترمذي ). بل السنَّة أوسع من ذلك وأشمل، إذ تدل على أي فعل يبدعه أي شخص فيغدو قدوة للآخرين، سواء بالمعنى السلبي أو بالمعنى الإيجابي. فقد روي عن الرَّسول أن قال : "من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" ( مسلم ). ما يعني أنَّ بوسع أيِّ شخص أن يسنَّ سنَّة حسنة تبعًا للظروف والسياق والأحوال. وفي رواية أخرى "من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا" ( مسلم ). ما يعني أن السنَّة سلوك يبدعه شخص ما في زمن معين فيغدو قدوة للآخرين على مدى زمني قد يطول أو يقصر، سواء سلبًا أم إيجابًا. والنتيجة أن السُّنَّة ليست وصايا ثابتة ومطلقة صاغها الرسول أو دوّنها غيره، لكنها تدل بالأحرى على أي سلوك جديد يبدعه شخص معين، ثم يستحسنه الناس أو يقتنعون به، ثم يقلدونه أو يقتدون به حيناً من الدّهر أو لبعض الوقت أو حتى إشعار آخر. ملاحظة أخرى وأخيرة، يحيل مفهوم الثبات إلى الميتافيزيقا الأرسطية، حيث الجواهر ثابتة، وحيث الله محرك ثابت لا يتحرّك، في المقابل، يقدم الخطاب القرآني رؤية مختلفة للذات الإلهية ( كل يوم هو في شأن ) الرّحمان 29. ما يعني أن "الثوابت" لا تمتّ إلى جوهر العقيدة الإسلامية بصلة. وهذا، لعله مقام آخر. الاستنتاج : "ثوابت الدين" ليست من الدين في شيء. غير أنها تحرم الدين من النمو وتمنعه من التطور، وبذلك تجمده، وتشله، وتكبله.. أي بمعنى.. تقتله. ( نقلا عن الاوان ) .