يُعدُّ علم النَّفس السّياسيّ من التَّخصُّصات العلميَّة حديثة العهد نسبيًّا في الميدان الأكاديميّ. لم تطرح الجامعات الغربيّة مساقات في هذا الحقل المعرفي قبل السّبعينيات، علمًا أنَّ من كتبوا حوله من أمثال العالِم الأميركي هارولد لاسويل (1902-1976) درسوا تأثير علم النَّفس في السّياسة منذ عشرينيات القرن المنصرم. يستعرض الأكاديميّ البريطاني دايفد باتريك هوتون في "علم النَّفس السّياسيّ" (ترجمة: ياسمين حداد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، الدَّوحة، الطَّبعة الأولى، 2015) أبرز النَّظريات التَّحليليَّة المفسّرة للنَّشاط السّياسيّ من منظور نفسيّ، آخذًا بالاعتبار المدرستين الموقفيَّة والنُّزوعيَّة. صدر الكتاب في الإنكليزية عام 2008 (w, Used & Rental Textbooks Social Sciences Political Psychology: Situations, Individuals, and Cases)، وفي رصيد المؤلّف أربعة كتب كان آخرها ( The Decision Point: Six Cases in U.S. Foreign Policy Decision Making) (2012). تُعرف الموقفيّة كمدخل لفهم السُّلوك الإنسانيّ، تعتبر فيه البيئة، أو الموقف المحيط بالفرد، العامل الأكثر أهميَّة في تشكيل أو توجيه سلوكه. أمَّا النُّزوعيَّة فترى أنَّ الفرد وما يحمله من قيم واعتقادات وخصائص شخصيَّة العامل الأكثر أهميَّة في توجيهه. واستنادًا إلى هاتين المقاربتين في فهم المواقف وسلوك الأفراد والجماعات والقيادات والنُّخب السّياسيَّة، توزَّعت فصول الكتاب الَّتي بدأت بتحليل النَّظريَّة السُّلوكيَّة أو نظريَّة المثير – الاستجابة، وعلم النَّفس الطَّاعة والسّيرة النَّفسيَّة وانتهت إلى علم نفس العلاقات الدُّوليَّة. لم تغب التَّحليلات الفرويديَّة السبّاقة عن نظريات وآراء الكتّاب والأكاديميين المتخصّصين في حقل علم النَّفس السّياسيّ. ويمكن اعتبار الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون من الروَّاد الأوائل. فقد ترك مؤلّفه ( Psychologie des Foules) الصَّادر عام 1895 تأثيرًا واضحًا على مجمل الدّراسات المعنيَّة في هذا الحقل. اتَّخذ علم نفس الطَّاعة حيّزًا كبيرًا من اهتمام ستانلي ملغرام وتركَّزت بحوثه على مجال الطَّاعة السّياسيَّة. وقد طرح أسئلة جوهريَّة عمّا يجعل الأفراد على استعداد لطاعة سلطة عليا كالدَّولة، حتَّى عندما تصطدم متطلّبات تلك السُّلطة بشدَّة بالقيم والأخلاق الَّتي نُجلُّها ونقدرها من أي شيء آخر؟ قام ملغرام بدور فاعل في قلب التَّفسيرات النُّزوعيَّة للطَّاعة، خصوصًا تلك الَّتي تلت المحرقة النَّازيَّة ووجَّهت اللَّوم إلى الشَّعب الألماني، مفترضةً أنَّ لديه خصوصيَّة غير مألوفة قادت إلى ذلك الحدث الكارثي. تأتي أهميَّة عالم النَّفس الاجتماعي الأميركي، الموقفي المتشدّد، من التَّجارب الَّتي أجراها في حقل علم نفس الطَّاعة على مجموعة من المتطوّعين خرج فيها بخلاصة مقلقة "أنَّنا جميعًا قد نخالف أعزَّ مبادئنا وقيمنا عندما نواجه موقفًا تحثّنا فيه على الطَّاعة سلطة نرى أنَّها سلطة شرعيَّة". إلى ذلك يبيِّن ملغرام في كتابه "الطَّاعة: وجهة نظر تجريبيّة" –كما يوضّح هوتون- التَّناظر بين أعماله الخاصَّة في مجال الطَّاعة وتحليل الفيلسوفة والمنظّرة الألمانيَّة- الأميركيَّة حنَّة أرندت لأدولف آيخمان في مؤلّفها ذائع الصّيت "آيخمان في القدس". لقد أحدثت فضحية الانتهاكات الجسديَّة والنَّفسيَّة في سجن أبو غريب صدمة للرأي العالميّ. طرحت -آنذاك – أسئلة كثيرة من قبل المتخصّصين، وتصدَّى عالم النَّفس الاجتماعيّ فيليب زمباردو في كتابه "تأثير الشَّيطان" (the Lucifer effect) لتفسير ما جرى، قائلاً إنَّ ما حدث لم يكن ناتجًا عن خصائص أو نزعات شخصيَّة كامنة لدى الأفراد الَّذين ارتكبوا تلك الأفعال، وإنَّما كان ناتجًا عن تأثير القوى الموقفيَّة العصبيَّة الَّتي واجهتهم. ومن الملاحظات ذات الدَّلالة الَّتي يشير إليها زمباردو قوله: "كثير ممَّن ارتكبوا إساءات أبو غريب التحقوا بالجيش (الأميركيّ) طواعية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول بدافع الحماس الوطنيّ، والتَّصميم على الحيلولة دون تعرّض الولايات المتَّحدة مرَّة أخرى لهجمات إرهابيَّة قاتلة من هذا القبيل". وانطلاقًا من وجهة النَّظر الكلاسيكيَّة المتمثّلة في نظرية "الصُّندوق الفاسد" خلص زمباردو –كما يلفت هوتون- في تفسيره لاعتداءات أبو غريب –وكان قد أجرى أيضًا تجارب اختباريَّة على عدد من المتطوّعين – إلى أنَّ الرئيس جورج دبليو بوش، ونائب الرَّئيس ديك شيني، ووزير الدّفاع دونالد رامسفيلد أنشؤوا نظام سلطة يشجّع التَّعذيب ضمنًا أو صراحة، ثمَّ إنَّ إدارة بوش قرَّرت عام 2002 أنَّ اتّفاقيات جنيف لا تنطبق على الوضع في سجن أبو غريب. " ما السَّبب في أنَّ أناسًا أذكياء يتَّخذون قرارات ضعيفة في كثير من الأحيان عندما يتَّخذونها في جماعات؟" حظيت هذه الإشكاليّة باهتمام لافت من قبل محلِّلي "صناعة القرارات الجماعيَّة". تعتبر نظريَّة عالم النَّفس الاجتماعي إيرفنغ جانيس في التَّفكير الجمعي (عمليَّة تؤدّي بالجماعة إلى الوصول إلى إجماع متسرّع أو سابق لأوانه، وتغلق الباب على نفسها عن أي أفكار تأتي من الخارج) من النَّظريات المعروفة على نطاق واسع. وقد اتَّخذ نماذج تطبيقيَّة في تفسيره بينها: حملة خليج الخنازير الفاشلة عام 1961 والتَّصعيد في حرب فيتنام عام 1965. وأكَّد جنيس أنَّ كليهما يمثّل أنموذجًا كلاسيكيًّا ل"متلازمة التَّفكير الجمعيّ"، غير أنَّ هوتون انتقد نتائجه ناظرًا إليها في ضوء التَّحديات الإمبيريقيَّة والنَّظرية الجديدة. يناقش هوتون المنظورات المتنوّعة الَّتي تأخذ من المقاربة النُّزوعيَّة من خلال خمسة محاور: السّيرة النَّفسيَّة، الشَّخصيَّة والاعتقادات، المعرفة، العاطفة والانفعال، وعلم الأعصاب. في محور السّيرة النَّفسيَّة يستعرض الكاتب أهمَّ الكتب الَّتي ركَّزت على قراءة الشَّخصيات السّياسيَّة العالميَّة بناءً على التَّحليل النَّفسيّ دون أن يغفل عن الدَّور التَّأسيسيّ لنظريات لسيغموند فرويد وهارولد لاسويل (Harold Lasswell) صاحب "المرض النَّفسيّ والسّياسة" (Psychopathology and Politics) (1930). في حقول علم نفس القوميَّة والنَّزاعات الإثنيَّة والعصبيات الطَّائفيَّة والدّينيَّة يدرس الكاتب خمس نظريات استخدمت في السَّنوات الأخيرة: نظريَّة الصّراع الواقعي بين الجماعات، ونظريَّة الهويَّة الاجتماعيَّة، ونظريَّة السَّيطرة الاجتماعيَّة، والمنظور السيكودينامي ]أو المنظور التَّحليلي الدّينامي النَّفسي [ والمقاربة البيوسياسيَّة. المنظوران الأوَّلان موقفيان في حين أنَّ المقاربات الأخيرة نزوعيَّة في طبيعتها. جرى تطبيق بعضًا من هذه النَّظريات في تحليل الإبادة الجماعيَّة، وتحتلُّ الأميركيَّة كرستن كونرو (kristen monroe) موقعًا رياديًّا في دراسة الرَّوابط بين علم النَّفس السّياسيّ وصراع الإثنيات، واقترحت تفسيرات عدَّة من ضمنها التَّفسير المتعدّد الطَّبقات والمستويات، حيث أكَّدت وجود عوامل مختلفة لوقوع الإبادة الجماعيَّة، كثير من هذه العوامل موقفي في طابعه، إضافة إلى عوامل أكثر نزوعيَّة. يشكّل دخول كتاب دايفد باتريك هوتون إلى المكتبة العربيَّة خطوة نوعيَّة تفيد العديد من الباحثين في العالم العربيّ لجهة الاطلاع على المناهج والمقاربات والتَّطورات الأكاديميَّة في هذا التَّخصُّص العلميّ، ما قد يدشّن الأرضيَّة لوضع أمراضنا السّياسيَّة تحت مشرحة علم النَفس السّياسيّ. ( منقول )