إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تفكك العالم العربي؟ تحقيق استقصائي ل(نيويورك تايمز) نتاج 18 شهرًا من العمل الصحافي
نشر في حريات يوم 23 - 08 - 2016


كيف تفكك العالم العربي؟
واشنطن : سكوت أندرسون
هذه القصة على خلاف كل ما نشرناه سابقا.. والحديث لجيك سيلفرستاين، رئيس تحرير مجلة «نيويورك تايمز».. هي أطول بكثير من أي قصص افتتاحية نشرتها مجلة «نيويورك تايمز» من قبل، وهي تحتل مساحة عدد بكامله من حيث الطباعة. وهي نتاج 18 شهرا من العمل الصحافي، وتتلو قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عاما، مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي وأزمة اللاجئين العالمية.
جغرافية هذه الكارثة متسعة وفسيحة وأسبابها كثيرة ومتعددة، ولكن عواقبها – الحرب وعدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم – مألوفة ومعروفة لنا جميعا. وقصة سكوت أندرسون تمنح القارئ إحساسا عميقا بالكارثة وكيف تكشفت أماراتها من خلال عيون 6 شخصيات من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق. ويصاحب القصة 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور باولو بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال ال14 عاما الماضية، إلى جانب خبرات الواقع الافتراضي التاريخية والتي تشتمل على مشاهد للقوات القتالية العراقية خلال معركة استعادة مدينة الفلوجة. من غير المسبوق بالنسبة لنا تركيز الكثير من الجهود والانتباه على قصة واحدة، وأن نطلب من قرائنا أن يحذوا حذونا في ذلك. وما كنا لنفعل ذلك إلا إذا كنا مقتنعين تماما أن ما يلي هو واحدة من أكثر التفسيرات الإنسانية وضوحا ورسوخا التي يمكن الاطلاع عليها وقراءتها بشأن الانحرافات التي شهدتها هذه المنطقة.
قبل الانطلاق نحو شمال العراق، غير الدكتور عازار ميرخان ملابسه الإفرنجية وارتدى الملابس التقليدية الفضفاضة التي تميز قوات البيشمركة الكردية: وهي سترة ضيقة وقصيرة من الصوف فوق قميصه، وسروال واسع وفضفاض إلى جانب حزام الوسط الكبير. كما أنه فكر أيضا في جلب بعض الأشياء الأخرى معه. وهي تتضمن خنجرا قتاليا مثبتا بإحكام إلى حزام الوسط، إلى جانب منظار قناصة، وبندقية نصف آلية ملقمة. واستقرت بندقيته الهجومية طراز (إم 4) على مسافة قريبة في المقعد الخلفي، تحسبا لأي تغيرات مفاجئة في الأمور، مع المزيد من أمشاط الرصاص عند دواسة الوقود. وقال الدكتور في لامبالاة: «إنها منطقة سيئة».
كانت وجهتنا في ذلك اليوم من أيام شهر مايو (أيار) 2015 مكانا من أقسى الأماكن على قلب الدكتور عازار، وهو المكان الذي تطارده ذكراه أينما حل أو ذهب. ففي العام الماضي، قطع مقاتلو «داعش» مساحات واسعة في اتجاه شمال العراق، مكتسحين في طريقهم فرقة من الجيش العراقي كانت تفوقهم عددا بكثير، ثم حولوا انتباههم نحو الأكراد. كان الدكتور عازار يشعر أين سوف يوجه سفاحو «داعش» ضربتهم تحديدا، ويعرف أن عشرات الآلاف من المدنيين العزل يقفون بلا حول ولا قوة في طريقهم، ولكنه لم يكن قادرا على إبلاغ أي شخص بمخاوفه. وفي حالة من اليأس الشديد، كان قد عبأ سيارته بما أمكنه من الأسلحة والذخائر وهرع إلى المكان، حتى وصل إلى بقعة على الطريق علم عندها أنه تأخر ساعات كثيرة؛ قال الدكتور عازار: «كان كل شيء واضحا للغاية. ولكن لم يكن هناك من يريد أن يصغي أو يسمع». وفي ذلك اليوم، كان عائدا إلى المكان الذي خُذل فيه المقاتلون الأكراد الأشداء في شمال العراق وفروا هاربين، وهو نفس المكان الذي فشل الدكتور عازار في الوصول إليه مبكرا في محاولة لتفادي وقوع المأساة الرهيبة.. وهناك، ولشهور تلو الشهور، كان يواصل الرجل قتاله لمجرمي «داعش».
والدكتور عازار هو طبيب ممارس للمسالك البولية، ولكن من دون شخصية المحارب والقوة النيرانية المرافقة، فإن الطبيب البالغ من العمر 41 عاما لا يزال يحمل هالة الصياد المقاتل الرصين. فهو يتحرك بمشية قافزة تثير الفضول وتصدر القليل من الصوت المسموع، وعند الحديث تراه دائما ما يعبث بذقنه ويطالعك بنظره من خلف نظارته ذات العدسات السميكة، كما لو كان يحدق إليك عبر منظار بندقيته العامرة. ومع أنفه البارز وتسريحة شعره الأسود الأنيق، فإنه أقرب ما يكون شبها بالمطرب الأميركي جوني كاش.
واستكملت الأسلحة الفلسفة الشخصية للطبيب، كما ورد في مشهد من مشاهد أحد أفلامه المفضلة: «الطيب والشرس والقبيح»، عندما فوجئ إيلي والاش بأحدهم يدخل عليه مسلحا وهو في حمامه ويريد قتله. وبدلا من أن يقتل والاش على الفور، شرع الرجل في الحديث ومناقشة والاش عن سابق أفعاله، مما سمح للأخير بقتله أولا.
وقال الدكتور عازار مقتبسا من الفيلم مقولة والاش: «إن كنت قاتلا أحدا.. فاقتله، ولا تتحدث كثيرا»، وأضاف أن الأكراد كذلك الآن. ليس هذا بوقت الكلام، ولكنه وقت إطلاق النار.
والدكتور عازار هو أحد 6 شخصيات نؤرخ لرحلة حياتهم عبر هذه الصفحات. والشخصيات الست قادمون من ست مناطق مختلفة، ومن مدن مختلفة، ومن قبائل مختلفة، ومن عائلات مختلفة، ولكنهم يتقاسمون، إلى جانب الملايين من الناس الآخرين في ومن منطقة الشرق الأوسط، تجارب الانهيار العميق. فلقد تغيرت حياتهم إلى الأبد بسبب الاضطرابات التي بدأت تدور رحاها في عام 2003 مع الغزو الأميركي للعراق، ثم تسارعت وتيرة الأحداث ضمن سلسلة من الثورات والانتفاضات التي أصبحت تعرف باسمها الشهير في الغرب: «الربيع العربي». وهم يستمرون اليوم في مشاهدة عمليات السلب والنهب والتخريب من تنفيذ «داعش»، مع غير ذلك من الهجمات الإرهابية والدول الفاشلة.
وبالنسبة لكل شخصية من هؤلاء الشخصيات الست، تبلورت كل تلك الاضطرابات عبر حادثة وحيدة وفريدة. بالنسبة إلى عازار ميرخان، كانت على الطريق نحو سنجار، عندما شاهد أن أسوأ مخاوفه قد أصبح حقيقة. وبالنسبة إلى ليلى سويف في مصر، كانت عندما انفصل شاب صغير عن كتلة المتظاهرين لاحتضانها، وظنت في تلك اللحظة أن الثورة سوف تنجح. وبالنسبة إلى مجدي المنغوش في ليبيا، كانت عندما كان يسير عبر منطقة فاصلة من الأراضي القاحلة، والتي كانت مفعمة بنشوة غريبة ومفاجئة، فلقد شعر بحريته للمرة الأولى في حياته. وبالنسبة إلى خلود الزيدي في العراق، كانت عندما، مع بضع كلمات سيئة من صديق سابق، تفهمت أخيرا أن كل ما عملت لأجله قد ذهب سدى. وبالنسبة إلى مجد إبراهيم في سوريا، كانت عندما، أثناء مشاهدة المحقق وهو يفتش في هاتفه الجوال بحثا عن هوية قائده، أدرك وقتها أن إعدامه بات قاب قوسين أو أدنى. وبالنسبة إلى وكاظ حسن في العراق، الشاب الصغير غير المهتم تماما بالسياسة أو الدين، كانت في يوم ظهور مقاتلي «داعش» في قريته وعرضوا عليه الاختيار.
وبقدر اليأس الذي أحاط بتلك اللحظات المؤلمة، وبالنسبة لتلك الشخصيات الست، فإنهم يمثلون نقطة عبور نحو مكان لن تكون هناك عودة منه. ومثل تلك التغيرات، بطبيعة الحال – والتي تتضاعف بملايين الأرواح – تسبب تحولات عميقة في أوطانهم، وفي الشرق الأوسط الكبير، وبالتالي في العالم بأسره كأمر حتمي لا مفر منه ولا محيص.
لا يتحرك التاريخ أبدا بطريقة يمكن التنبؤ بها. فهو على الدوام نتاج أحداث تقع بصورة شديدة العشوائية، ويمكن الوقوف على أهمية تلك الحوادث – أو، في كثير من الأحيان، التنازع بشأنها – بعد مرور وقت طويل. ولكن حتى إذا وضعنا في الحسبان الطبيعة المتقلبة للتاريخ، فإن الأحداث ذات الصلة الوثيقة بالربيع العربي لا يمكن أن تكون بعيدة الاحتمال: حادثة انتحار بائع الفاكهة التونسي الفقير حال اعتراضه على مضايقات الحكومة. ففي الوقت الذي استسلم محمد البوعزيزي متأثرا بجراحه يوم الرابع من يناير (كانون الثاني) عام 2011. كان المتظاهرون الذين اندفعوا إلى شوارع تونس يطالبون بالإصلاحات الاقتصادية وباستقالة زين العابدين بن علي الرئيس القوي للبلاد لمدة 23 سنة. وفي الأيام اللاحقة على ذلك، زادت تلك المظاهرات من حيث الحجم والكثافة – ثم اندفعت إلى ما وراء الحدود الوطنية التونسية. وبحلول نهاية يناير، كانت الاحتجاجات المناهضة للحكومة قد اشتعلت في كل من الجزائر ومصر وعمان، والأردن. ولم تكن تلك سوى البداية. وبحلول نوفمبر (تشرين الثاني)، بعد مرور 10 شهور فقط من وفاة البوعزيزي، كان قد أطيح بأربع ديكتاتوريات شرق أوسطية طويلة الأمد في الحكم والسلطة، واهتزت عروش ست حكومات أخرى أو لعلها قد وعدت بالإصلاحات العاجلة، والمظاهرات المناهضة للحكومات – بعض منها سلمي والآخر عنيف – كانت قد انتشرت على شكل قوس في ربوع العالم العربي من موريتانيا وحتى البحرين.
ولكوني كاتبا من ذوي الخبرة الطويلة في شؤون الشرق الأوسط، رحبت في بادئ الأمر بتشنجات الربيع العربي الأولية – وفي واقع الأمر، اعتقدت أنها من الأشياء التي تأخرت كثيرا وطال انتظارها. ففي أوائل السبعينات من القرن الماضي، سافرت عبر مختلف مدن المنطقة كشاب صغير برفقة والدي، وهي الرحلة التي أثارت حواسي ومشاعري نحو الإسلام وعشقي الذي لا ينتهي للصحراء. وكانت منطقة الشرق الأوسط أيضا محل أول غزوة من غزواتي الصحافية عندما، في صيف عام 1983، قفزت على متن الطائرة إلى مدينة بيروت المحاصرة على أمل الحصول على عمل كصحافي حر. وعلى مدى السنوات التالية، التحقت بفصيلة من القوات الخاصة الإسرائيلية التي كانت مكلفة بتنفيذ غارات داخل الضفة الغربية، وتناولت الغداء مع قوات الجنجويد في دارفور، وتقابلت مع عائلات المهاجمين الانتحاريين. وفي نهاية المطاف، توقفت لمدة خمس سنوات عن العمل في الصحافة المطبوعة لاستكمال كتابي حول الأصول التاريخية ل«الشرق الأوسط» الحديث.
في رحلاتي المتعلقة بالعمل على مدار عقود، لم أجد أي منطقة أخرى قادرة على منافسة العالم العربي في ركودها الكامل. ففي حين حقق معمر القذافي رقما قياسيا لأطول فترة حكم في الشرق الأوسط، بديكتاتوريته الممتدة ل42 عاما، لم يكن هذا مختلفا كثيرا في مكان آخر؛ فبحلول 2011، كان أي مصري عمره أقل من 41 عاما – ويمثل هذا ما يقرب من 75 في المائة من السكان – لم يعرف في حياته سوى رئيسين، فيما كان السوري في نفس هذه الفئة العمرية قد عاش عمره كله في ظل سيطرة أسرة الأسد، الأب والابن. وإلى جانب الركود السياسي، كانت معظم مراكز ثقل النفوذ الاقتصادي في كثير من البلدان العربية تقع في أيدي أقلية صغيرة، أو عائلات أرستقراطية؛ وبالنسبة لأي شخص دون ذلك، كان الطريق الوحيد للأمن المالي هو عن طريق انتزاع وظيفة في بيروقراطيات القطاع العام المنتفخة ماليا، أو الهيئات الحكومية التي كانت هي نفسها في كثير من الأحيان معالم للمحسوبية والفساد. وفي حين أن القدر الأعظم من الأموال الذي يتدفق على بلدان غنية بالنفط، وذات كثافة سكانية صغيرة، مثل ليبيا أو الكويت، ربما يسمح بدرجة من الرفاهية وفقا لنظرية اقتصاد التساقط، فلم يكن هذا هو الحال في البلدان ذات الكثافة السكانية الأكبر والتي تعاني فقرا في الموارد، مثل مصر أو سوريا، حيث كان الفقر والبطالة على أشدهما وهما مشكلتان – بالنظر إلى الانفجار السكاني المستمر في المنطقة – تزدادان سوءا باستمرار.
سعدت، في الأيام الأولى للربيع العربي، بما كان يتركز عليه غضب الناس. ولطالما كان لدي إحساس بأن من أبرز السمات وأكثرها إضعافا للوطن العربي، كانت ثقافة المظلومية التي لم يكن يتم تعريفها بالشكل الكافي من حيث ما يتطلع إليه الناس، مقارنة بما كانوا يعارضونه. كانوا مناهضين للصهيونية، وللغرب وللإمبريالية. وعلى مدار أجيال، برع حكام المنطقة الديكتاتوريون في تحويل إحباط الجماهير باتجاه هؤلاء «الأعداء» الخارجيين، وبعيدا عن سوء حكمهم. لكن مع الربيع العربي، هذا السيناريو القديم لم يعد صالحا للعمل. على خلاف هذا، وللمرة الأولى بمثل هذا النطاق الواسع، كانت شعوب الشرق الأوسط توجه غضبها مباشرة إلى الأنظمة الحاكمة نفسها.
بعد ذلك اتخذت الأمور منحى خاطئا على نحو مروع. بحلول صيف 2012. انزلق اثنان من البلدان «المحررة» – ليبيا واليمن – إلى حالة من الفوضى والتشرذم إلى فصائل متناحرة، بينما كان النضال ضد حكومة بشار الأسد في سوريا، دخل طور الحرب الأهلية الشنيعة. وفي مصر، وفي الصيف التالي، أطاح الجيش بأول حكومة منتخبة ديمقراطيا، في انقلاب هلل له كثير من نفس أولئك النشطاء الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع للمطالبة بالديمقراطية قبل ذلك بعامين. كانت النقطة المضيئة بحق بين بلدان الربيع العربي، المكان الذي منه بدأ، تونس، لكن حتى في هذا البلد كانت الهجمات الإرهابية والسياسيون المتناحرون يشكلان تهديدا مستمرا للحكومة الهشة. وفي خضم الفوضى، وجد فلول تنظيم أسامة بن لادن القديم (القاعدة)، متنفسا جديدا، ونفخوا من جديد في نار الحرب في العراق ثم انبثق منهم بعد ذلك فرع أكثر تشددا وسفكا للدم: الدولة الإسلامية أو «داعش».
لماذا اتخذت الأمور هذا المنحنى؟ لماذا تضل حركة بدأت مع مثل تلك الوعود الكبيرة، الطريق بشكل مروع كما حدث؟
إن الطبيعة العشوائية للربيع العربي تجعل من الصعوبة بمكان تقديم إجابة واحدة. شهد بعض البلدان تحولا جذريا، حتى رغم أن عددا من جيرانهم المباشرين يكاد لم يمسسهم شيء. وكان بعض البلدان ممن واجه أزمة غنيا نسبيا (ليبيا)، فيما كان بعضها الآخر يعاني فقرا مدقعا (اليمن). وانفجرت الأوضاع في بعض بلدان المنطقة التي كانت تحت ديكتاتورية أقل بطشا نسبيا (تونس) كما انفجرت في بعضها الآخر الذي كان يرزح تحت وطأة أشدها وحشية (سوريا). ويظهر نفس مدى التفاوت السياسي والاقتصادي في البلدان التي ظلت مستقرة.
ومع هذا، فهناك نمط واحد لا يظهر، وهو مدهش. ففي حين أن غالبية البلدان ال22 التي تشكل العالم العربي تعرضت بدرجة ما إلى آثار الربيع العربي، فإن البلدان الستة الأكثر تعرضا لآثاره – مصر، العراق، ليبيا، سوريا، تونس، اليمن – كلها جمهوريات، وليست ملكيات. ومن هؤلاء الستة، هناك 3 بلدان تفسخت تماما لدرجة تبعث الشك في أن تقوم لها قائمة مرة أخرى كدول عاملة – العراق، سوريا، ليبيا – وجميعها أعضاء بتلك القائمة الصغيرة من الدول العربية التي أنشأتها القوى الاستعمارية الغربية في بدايات القرن العشرين. في كل من هذه البلدان الثلاثة، لم يتم الالتفات كثيرا إلى التماسك الوطني، فيما غابت الانقسامات الطائفية عن الاهتمام بصورة أكبر. لا شك بأن نفس هذه الانقسامات الداخلية موجودة في كثير من جمهوريات المنطقة الأخرى، كما هي موجودة في ممالكها، لكن كان يبدو أن سبيل إنكار هذين العاملين اللذين يعملان بصورة مشتركة – غياب الحس الجوهري بالهوية الوطنية مع شكل من الحكم أزاح المبدأ التقليدي المنظم للمجتمع – جعلا العراق وسوريا وليبيا تحديدا في وضع هش عندما وصلت عواصف التغيير.
وحقيقة الأمر أن الأشخاص الست المذكورين بالتفصيل أعلاه، ينتمون جميعا عدا واحد، إلى هذه «الدول المزيفة» وحكاياتهم الفردية تضرب بجذورها في قصة أكبر عن كيف وصلت هذه البلدان إلى ما وصلت إليه. بدأت العملية قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما اقتسم اثنان من الحلفاء المنتصرين، بريطانيا وفرنسا، أراضي الإمبراطورية العثمانية المهزومة فيما بينهما، كغنائم حرب. في ميسوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين)، ضم البريطانيون 3 ولايات عثمانية كبرى تتمتع بحكم ذاتي، وسمتها العراق. كان الشيعة العرب يهيمنون على المحافظات الجنوبية، فيما سيطر السنة على الوسط، والأكراد على المناطق الشمالية. وإلى الغرب من العراق، اتخذت القوى الغربية توجها معاكسا، فقسموا أراضي «سوريا الكبرى» إلى أجزاء أصغر، وأسهل في إدارتها. سقطت دويلة سوريا الأصغر تحت الحكم الفرنسي – وهي بالأساس سوريا التي نعرفها اليوم – وكذلك شريط لبنان الساحلي، فيما سيطرت بريطانيا على فلسطين وشرق الأردن، وهي جزء من جنوبي سوريا التي صارت في النهاية إلى إسرائيل والأردن. أما إيطاليا، التي دخلت اللعبة بشكل متأخر قليلا، في 1934. فضمت المناطق الثلاث القديمة من شمال أفريقيا التي استولت عليها من العثمانيين في 1912، لتشكل مستعمرة ليبيا.
ولمواصلة الهيمنة على هذه الأراضي المقسمة، تبنت القوى الأوروبية نفس أسلوب فرق تسد، الذي ساعدها بشكل جيد على استعمار أفريقيا جنوب الصحراء. وشمل هذا تمكين أقلية محلية، عرقية أو دينية، ليقوموا بدور مديريهم المحليين، لثقتهم بأن هذه الأقلية لن تتمرد ضد كبرائهم الخارجيين خشية أن تبتلعها الأغلبية من المهمشين.
كان ذلك هو المستوى الأكثر وضوحا من استراتيجية فرق تسد الأوروبية، ومع هذا، فدون التقسيمات الطائفية والإقليمية في هذه «البلدان» يكمن مباشرة نسيج معقد بصورة غير عادية، من القبائل وامتداداتها القبلية، والعشائر، والنظم الاجتماعية القديمة التي ظلت المصدر الرئيسي لهوية السكان وولائهم. وما فعله جيش الولايات المتحدة والمستوطنون البيض مع القبائل الهندية في غزو الغرب الأميركي، هو تماما ما فعله البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون، والذين أظهروا براعة في بث الفرقة والانقسامات فيما بين تلك الجماعات، فكانوا يمنون على فصيل بالسلاح أو الغذاء أو الوظائف الشرفية، في مقابل قتال بعضهم البعض.
والفارق الكبير بالطبع، هو أنه في الغرب الأميركي، بقي المستوطنون فيما دمر النظام القبلي عن بكرة أبيه. في العالم العربي، غادر الأوروبيون في النهاية، لكن بقيت الانقسامات الطائفية والقبلية التي أوقدوا نارها.
وعلى ضوء هذا، فإن انتحار محمد البوعزيزي في 2011 لا يبدو كمحفز للربيع العربي، بقدر ما هو تعبير عن ذروة التوترات والتناقضات التي كانت تفور تحت سطح المجتمع العربي لوقت طويل. وواقع الأمر أن السكان في أنحاء العالم العربي، من غير المرجح إلى حد بعيد أن يشيروا إلى حدث آخر، وقع قبل موت البوعزيزي ب8 سنوات، باعتباره اللحظة التي بدأت عندها عملية التفسخ: الغزو الأميركي للعراق. بل إن كثيرين يشيرون إلى صورة واحدة جسدت تلك الاضطرابات. كان ذلك مساء 9 أبريل (نيسان) 2003. في ميدان الفردوس بوسط بغداد، عندما تم إسقاط تمثال مرتفع لصدام حسين، بمساعدة رافعة وعربة أميركية مدرعة من طراز إم88.
وبينما يتذكر العالم العربي هذه الصورة باستياء اليوم – كانت رمزية هذه التدخل الغربي الأخير في منطقتهم شيئا لا يمكن الإفلات منه – فإنها أطلقت في وقتها شرارة شيء مختلف تماما. للمرة الأولى في حياتهم، كان ما رآه السوريون والليبيون والعرب الآخرون، مثلهم مثل العراقيين تماما، هو أن وجها كان يبدو من غير الممكن زحزحته، مثل صدام حسين، من الممكن إزاحته، وأن الشلل السياسي والاجتماعي الذي جثم طويلا على عالمهم العربي يمكن كسره فعلا.
لكن لم يكن واضحا بنفس الدرجة أن أولئك الرجال الأقوياء بذلوا بالفعل جهدا كبيرا لتقييد بلادهم، وأنه في غيابهم ستبدأ القوى القديمة للقبلية والطائفية بفرض قيودها الخاصة. بل إن ما هو أقل وضوحا هو كيف لهذه القوى أن تجذب الولايات المتحدة وتصدها في آن معا، مدمرة نفوذها وهيبتها في المنطقة إلى حد أنها قد لا تتعافى من ذلك أبدا.
شاهد رجل واحد على الأقل هذا بوضوح شديد. فعلى مدار عام 2002، مهدت الإدارة الأميركية الأرض للغزو العراقي بأن وجهت أصابع الاتهام لصدام حسين بزعم تبنيه لبرنامج لتطوير أسلحة الدمار الشامل، والربط بينه وبين هجمات 11 سبتمبر (أيلول). وفي أكتوبر (تشرين الأول)، 2002، وقبل أحداث ميدان الفردوس، أجريت مقابلة طويلة مع معمر القذافي وكان من ضمن الأسئلة سؤال عن المستفيد في حال جرى غزو العراق بالفعل، وكان الديكتاتور الليبي يأخذ برهة للتأمل قبل الرد على أسئلتي، بيد أن إجابته على هذا السؤال كانت فورية، إذ قال: «بن لادن». وأضاف: «ليس هناك شك في ذلك، وربما ينتهي الأمر بالعراق بأن تصبح قاعدة لتنظيم القاعدة، لأنه في حال سقوط نظام صدام سوف تعم الفوضى، ولو حدث هذا فسوف ينظر الناس لمواجهة الولايات المتحدة كجهاد».
وفي بداية أبريل (نيسان) 2015، شرعت أنا والمصور باولو بيلغرين في القيام بعدد من الرحلات لمنطقة الشرق الأوسط. وكفريق عمل من المراسلين والمصورين، قمنا بتغطية سلسلة من الصراعات في المنطقة على مدار العشرين عاما الماضية، ونأمل أن تحظى رحلاتنا القادمة بفهم أكبر لما يطلق عليه الربيع العربي والفوضى العارمة التي عمت المنطقة بعد ذلك. ومع استمرار تدهور الأوضاع ما بين عامي 2015 و2016. توسعت رحلاتنا لتشمل الجزر اليونانية التي استقبلت النازحين من جحيم الحرب في العراق وسوريا، ووصلنا للخطوط الأمامية للقتال الدائر في شمال العراق حيث المعارك المستعرة في مواجهة «داعش».
قدمنا نتائج الرحلات التي استمرت قرابة 16 شهرا مقسمة إلى ستة فصول من السرد الشخصي الذي تضمن ربطا بأحداث تاريخية كبرى لإنتاج نص متكامل يعكس حال العالم العربي وقت الثورة.
القصة مقسمة إلى خمسة أجزاء تتطور أحداثها وفق تسلسل تاريخي على لسان أبطالها. فمع تقديم الكثير من هذه الشخصيات، يركز الجزء الأول على ثلاثة عوامل تاريخية ضرورية لفهم الأزمة الحالية وهي: حالة عدم الاستقرار المتأصلة في دول العالم العربي ذات الحدود المصطنعة، والوضع الجدلي الذي وجدت فيه الحكومات العربية الموالية للولايات المتحدة نفسها فيه بعدما أجبرت على تبني سياسات معارضة لإرادة شعوبها، وتورط الولايات المتحدة في تقسيم العراق منذ 25 عاما، وهو الحدث الذي نادرا ما يشار إليه سواء حينها أو الآن، مما يثير التساؤلات عن شرعية الدول العربية المعاصرة. الجزء الثاني مخصص بالكامل للغزو الأميركي للعراق وكيف أنه مهد الطريق لثورات الربيع العربي. وفي الجزء الثالث، يتسارع السرد مع متابعتنا للنتائج المتفجرة لتلك الثورات في مصر وليبيا وسوريا. وفي الجزء الرابع، يؤرخ السرد لظهور تنظيم داعش، والجزء الخامس يتعقب نتائج النزوح الجماعي من المنطقة إلى أن نصل إلى وقتنا الحالي وإلى قلب أكثر مناطق العالم اضطرابا.
حاولت سرد قصة إنسانية مليئة بالأبطال وبريق من الأمل، لكن ما جاء بعد ذلك كان تحذيرا قاتما. فاليوم تسرب عنف الشرق الأوسط من خزانته بعدما نزح مليون سوري وعراقي إلى أوروبا هربا من الحرب الدائرة على أراضيهم، ناهيك عن هجمات دكا، وبنغلادش، وباريس وغيرها. ومع استحضار اسم «داعش» إثر مذبحة سان برناردينو وأوهايو بالولايات المتحدة، أصبحت قضيتا الهجرة والإرهاب مرتبطتين في عقول الكثير من الأميركان، لتشكلا سويا وميضا سياسيا في الطريق المؤدي للانتخابات الرئاسية القادمة. بمعنى آخر، من المناسب هنا أن نقول إن لأزمة العالم العربي جذورها التي تمتد للحرب العالمية الأولى؛ إذ إن الوضع الحالي ما هو إلا أزمة إقليمية نشبت فجأة واتسعت بشكل بعيد عن أي منطق ووصل تأثيرها لجميع بقاع العالم.
…………………………
(2)
تواصل «الشرق الأوسط» لليوم الثاني على التوالي نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، في تحقيق استقصائي مطول لمجلة «نيويورك تايمز» كتبه سكوت أندرسون وبعدسة باولو بيليغرين، ويركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عاما، مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي وبزوغ أزمة اللاجئين العالمية، وقدمت المجلة القصة في خمسة أجزاء وهي «الجذور» و«حرب العراق» و«الربيع العربي» و«صعود داعش» و«الهجرة الجماعية».. وتحكي التطورات التي شهدتها المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، مرورا بالحروب الطائفية ثم اندلاع ثورات الربيع العربي وصعود التنظيمات الإرهابية في المنطقة. وما بين السطور تمنح قصة أندرسون المؤلفة من أكثر من 40 ألف كلمة على مدار 18 شهرا من العمل الصحافي الميداني الاستقصائي القارئ إحساسا عميقا بالكارثة وكيف تكشفت أماراتها من خلال عيون ست شخصيات من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق. ويصاحب قصة أندرسون 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور باولو بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال ال14 عاما الماضية.
في الجزء الأول يتحدث المؤلف أندرسون في الجزء الأول تحت عنوان الأصول 1972 – 2003 عن الناشطة المصرية الحقوقية ليلى سويف وهي من أسرة أكاديمية؛ فهي الابنة الوسطى للدكتور مصطفى سويف أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة والدكتورة فاطمة موسى أستاذة اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة، فيقول حضرت ليلى سويف أول مهرجان سياسي عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها.
ونشأت ليلى في بيت نعمت فيه بالعيش الكريم والحرية الفكرية، حيث كان أبواها أستاذين جامعيين، وشقيقتها الكبرى هي أهداف سويف، أحد أشهر الروائيين المعاصرين في مصر. انجذبت ليلى للفكر اليساري في سن مبكرة، فبينما كانت تدرس الرياضيات بجامعة القاهرة في منتصف السبعينات، قابلت زوج المستقبل، أحمد سيف، الذي كان زعيما لخلية شيوعية سرية تعمل تحت الأرض للدعوة للقيام بثورة.
كان ينظر لمصر في هذا الوقت باعتبارها العاصمة السياسية ل«الشرق الأوسط» وكمسقط رأس الحركات والأفكار التحررية. وفي الزمن المعاصر، فمصر مدينة بمكانتها لشخص واحد اسمه جمال عبد الناصر.
ففي الأربعينات من القرن الماضي، لم تكن مصر وباقي دول الشرق الأوسط تمثل هما للعالم في ظل استعباد القوى الأوروبية التي فرضت سطوتها على المنطقة على مدى العقود السابقة. بدأ ذلك في التغير مع نهاية الحرب العالمية الثانية إثر اكتشاف حقول النفط الجديدة في المنطقة، وسقوط الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية. تسارعت وتيرة التغيير بدرجة كبيرة بعد إسقاط جمال عبد الناصر وحركة الضباط الأحرار، التي تألفت من مجموعة الضباط الصغار بالجيش، للملك الذي كان حليفا للغرب، وكان ذلك عام 1952.
وبرفع شعار «الاشتراكية العربية» وراية الوحدة العربية، أصبح جمال عبد الناصر فجأة رمزا قوميا على امتداد العالم العربي، وكان بمثابة المتحدث بلسان الناس الذين طالما خضعوا لسيطرة الأجانب والصفوة ممن حظوا بتعليم غربي. ما زاد من شعبية الرجل كان وقوفه في وجه الاستعمار، والإمبريالية وتصديه لمحاولات الغرب دسه أنفه في شؤون المنطقة بزرعه لدولة إسرائيل.
ألهم نجاح عبد الناصر الكثيرين غيره ممن كانوا يتطلعون لأن يصبحوا قادة لبلادهم في دول الشرق الأوسط ذات الحدود المصطنعة والتي رسمتها القوى الغربية.
وفي عام 1968، استولى بعض الضباط ممن ينتمون لحزب البعث، وهو شكل قريب من ذلك النمط القومي العربي، على السلطة في العراق وسوريا. وفي العام التالي لحق بهم الملازم أول معمر القذافي ب«نظريته العالمية الثالثة» المحيرة، التي رفضت الديمقراطية بشكلها المعاصر واستبدلتها بما يسمى «اللجان الشعبية». وفي تلك الدول الثلاث، كما هو الحال في مصر، أسقطت أنظمة وبرلمانات تلك الدول أو جرى تهميش أدوارها.
غير أن عبد الناصر كان يمتلك ميزة لم تتوفر لغيره من الحكام في المنطقة. فمع إحساس الهوية الذي يمتد لآلاف السنين، لم تخشَ مصر مطلقا خطر التمزق لأنها لم تشهد على مر تاريخها تلك الانقسامات القبلية أو العشائرية أو الطائفية بالشكل الذي يحدث في سوريا أو العراق. في الوقت ذاته، فتح التقليد الليبرالي المصري العريق المجال لمناخ مشاكس أمام النخبة السياسية؛ بدءا من العلمانيين إلى المتطرفين.
كان من ضمن جوانب عبقرية جمال عبد الناصر قدرته على سد تدلك الفجوات ونجح في ذلك بمحاولة إعلاء الكرامة الوطنية المصرية وتحريك إحساس الكراهية العامة تجاه الغرب بعد 70 عاما مرت ثقيلة في ظل الحكم البريطاني.
ولذلك، فحتى عندما قلق المتشددون من تحرك عبد الناصر لتعزيز الاتجاه العلماني استمر الناس ينظرون إليه كبطل قومي بعد تأميمه للمشروعات الغربية وبعد هزيمته لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل في أزمة السويس عام 1956. وعلى نفس المنوال، فقد ابتهج الليبراليون، مثل عائلة سويف التي كانت تبغض أسلوب حكمه القوي – فقد كان يمثل الديكتاتورية العسكرية – ورغم ذلك نظرت له بإعلاء لقيادته لحركة عدم الانحياز وشجاعته وشموخه في مواجهة تهديدات وإغراءات الولايات المتحدة التي سعت لضم مصر لتدور في فلكها أثناء الحرب الباردة. كان هذا هو النهج الذي اتبعه عبد الناصر ومن بعده السادات للإمساك بزمام الحكم؛ باللعب يمينا ويسارا وضم الاتجاهين سويا إن اقتضت الحاجة التركيز على عدو خارجي. أدت تلك المناورات إلى الكثير من المنعطفات السياسية، منها أول مسيرة احتجاجية لليلى سويف.
بعد العمل في القضايا اليسارية سويا خلال فترة دراستهما بجامعة القاهرة، تزوجت ليلى من أحمد عام 1978، وفي نفس العام انقلب المناخ السياسي في مصر رأسا على عقب. ففي سبتمبر (أيلول) من نفس العام، وقع الرئيس السادات اتفاقية كامب ديفيد التي أدت إلى معاهدة السلام مع إسرائيل بوساطة أميركية. وأدى هذا التغيير المذهل إلى الدفع بمصر تجاه المعسكر الأميركي، مما أدى إلى عزلها عن بقية الدول العربية. لكن ما كان يعتبره الغرب شجاعة تحسب للسادات كان يراه غالبية المصريين خيانة وعارا قوميا، وكانت تلك هي نظرة ليلى. فعقب توقيع معاهدة السلام عام 1979، بدأ بعض أعضاء خلية أحمد السرية التي تعمل تحت الأرض في شراء الأسلحة من السوق السوداء وتعهدوا بالقيام بعمليات مسلحة ضد الحكومة. لم تظهر تلك الخطط على السطح، وبدلا من ذلك تمكن بعض ضباط الجيش من ذوي التوجه الإسلامي من الوصول للسادات وقنصه أثناء استعراض عسكري في القاهرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1981.
وبعد ذلك بشهر واحد، رزقت ليلى وأحمد بطفلهما الأول الذي سمياه علاء، لتأخذ حياتهما السياسية شكلا عائليا. وفي عام 1983، كانت ليلى، 28 عاما حينذاك، تئن من تربية طفلها في ظل عملها الجديد كأستاذة الرياضيات بجامعة القاهرة. بيد أن حياتها الطبيعية تحطمت عندما أمر الرئيس حسني مبارك، الذي تولى الحكم خلفا للسادات، بحملة اعتقالات أمنية واسعة، وكان من بين المعتقلين زوجها أحمد وزملاؤه في الخلايا السرية. تعرض أحمد للتعذيب البدني الشديد ليجبر على التوقيع على اعترافات تفصيلية. أطلق سراح أحمد مؤقتا انتظارا لحكم المحكمة الذي صدر نهاية عام 1984. ووجه إلى أحمد الاتهام بحيازة أسلحة بشكل غير قانوني وحكم عيه بالسجن لخمس سنوات.
في هذا الوقت كانت ليلى في فرنسا بعد قبولها لمنحة لاستكمال دراستها في الرياضيات، لكن بعد توقيع العقوبة على أحمد، هرعت ليلى عائدة إلى القاهرة بصحبة ابنها علاء. وبفضل ثغرة غريبة في القانون المصري، كان من الضروري اعتماد رئيس الجمهورية لجميع الأحكام المتعلقة بالأمن ومنها قضية أحمد، وهو الإجراء الذي يستغرق عدة شهور، وكان للمتهم الحق في البقاء خارج السجن على سبيل الكفالة، وشكل هذا الوضع إغراء للزوجين.
«كان علينا أن نقرر»، وفق ليلى التي بلغ عمرها الآن 60 عاما: «ونختار ما بين الاستسلام لقضاء أحمد لخمس سنوات في السجن، أو البحث عن طريقة لإخراجه من البلاد أو الاختباء»، قالتها بينما تهز كتفيها، مضيفة «ثم قررنا الاختباء».
عاش الزوجان لعدة شهور كهاربين من العدالة مع ابنهما الذي لم يتعدَ عمره حينذاك ثلاثة أعوام. وفي النهاية، أدرك الزوجان عدم جدوى ما يقومان به: «فلم تكن لديه الرغبة في مغادرة البلاد»، بحسب ليلى، مضيفة «لم يستطع الاستمرار في الاختباء للأبد، وقرر أنه من الأسهل له قضاء عقوبة الخمس سنوات، ولذلك سلم نفسه للشرطة». لكن ذلك لم يعنِ أن هذا القرار كان الأسهل بالنسبة لليلى، فقد أصبحت حاملا خلال الفترة التي قضتها هاربة برفقة أحمد. تركها أحمد وحدها لترعى طفلتهما الجديدة التي سمياها منى، وذهب هو ليقضي عقوبة السجن.
أدرك أحمد الحقيقة خلال الفترة التي قضاها في السجن. فمع استمرار حالة الوفاق مع الولايات المتحدة وإسرائيل التي بدأها السادات، بدا مبارك وكأنه أيضا قد ورث وبشكل تلقائي الميل للاستسلام في عيون الكثيرين من المصريين. فبعد الفشل في الوصول لحال اتفاق وطني، ولو زائف، بالعودة لاستخدام ورقة العدو الخارجي القديمة، باتت مصر الآن في سرير واحد مع من يفترض أنهم أعداؤها. صنع مبارك نظاما محكما يستطيع من خلاله اللعب بخيوط اليسار العلماني والمعارضة الإسلامية في مواجهة بعضهما البعض. فبعدما ألقي أحمد في السجن مع الجماعتين، رأى بعينيه نجاح تلك الاستراتيجية حتى وإن وصل الأمر لأهم مبادئ حقوق الإنسان. فوفق ما سيقوله لاحقا لجو ستورك الذي يعمل بمنظمة هيومان رايتس ووتش، سيقول الشيوعيون سرا «لا نبالي إن تعرض الإسلاميون للتعذيب»، وسيقول الإسلاميون «لماذا لا يعذبون الشيوعيين؟».
كرس أحمد نفسه للنضال من أجل إصلاح القضاء فبدأ بدراسة الحقوق داخل زنزانته، وبعد شهر من إطلاق سراحه عام 1989، أصبح عضوا في نقابة المحاميين المصريين.
وضع المعتقل السياسي السابق وزوجته على مفترق الطرق، فبعدما تسلمت ليلى عملها كأستاذ كرسي بجامعة القاهرة وأصبح أحمد الآن محاميا، بات للزوجين الحق في حياة أكثر راحة بين صفوة القاهريين. لكن بدلا من ذلك، وبكلفة باهظة يتحملانها من حياتهما الشخصية، انغمس الزوجان بقوة في دوامة الاضطرابات المتسعة في مصر، في محاولة لعبور الخطوط الفاصلة التي طالما شكلت خطرا على بقاء الحكومة نفسها.
كانت مدينة مصراتة الساحلية، 120 ميلا من العاصمة طرابلس، تنعم بالرخاء يوما ما نظرا لكونها المحطة الرئيسية على طريق التجارة القديم عبر الصحراء حيث اعتادت أن تقف قوافل الجمال التي تحمل الذهب والعبيد من جنوب الصحراء الكبرى لتصديرها عبر البحر المتوسط. ومنذ ذلك الوقت، باتت تلك المدينة قبلة ليبيا التجارية، وكان أهلها يشتغلون بالصناعة وكانت عقولهم رأسمالية. كانت عشيرة المنقوش هي الأكبر في تلك المنطقة ولذلك حملت إحدى أقدم المناطق هناك اسم تلك العائلة. في 4 يوليو (تموز) 1986 وفي تلك المنطقة، رُزق عمر وفتحية المنقوش، موظفان ببلدية مصراتة، بأصغر أطفالهما الستة، وكان ولدا سمياه ماجد.
عندما ولد ماجد، كان معمر القذافي الحاكم في ليبيا، وكان قد مر 17 عاما على بداية حكمه. كان الغرب ينظر للقذافي كشقي عندما قام هو وزملاؤه من العسكريين بالانقلاب على ملك ليبيا عام 1969. في هذا الوقت لم يكن عمر القذافي يتعدى السابعة والعشرين، وكان شابا وسيما وملازما سابقا في الجيش وزادت شعبيته بين الليبيين في الفترة التي أعقبت الانقلاب العسكري. يكمن أحد أسباب شعبية القذافي محاكاته لشخصية الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وشأن عبد الناصر، أشعل القذافي مشاعر الفخر العربية عندما أمم المشروعات والمصالح الغربية، بما في ذلك جزء من صناعة النفط الحيوية في ليبيا، وتبنى موقفا واضحا في مواجهة دولة إسرائيل. وبتوزيعه للثروات، ساعد أيضا عائلات، مثل عائلة المنقوش، على العيش في راحة كطبقة متوسطة.
ومع مرور الوقت، تحول حكم القذافي تدريجيا بعيدا عن الديكتاتورية «الناعمة» في مصر ليتجه أكثر صوب نظامين آخرين تأثرا بالنموذج الناصري، وهما النظامان البعثيان لصدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سوريا. كان التشابه مذهلا، ففي الدول الثلاث أسس القادة الثلاثة لمذهب عبادة الشخص، فامتلأت الساحات العامة والجداريات بصورهم، وأعلنوا أنفسهم كجبهة «التصدي للاستعمار» وكمدافعين عن الأمة العربية. وكانعكاس لعقيدة حزب البعث و«الاشتراكية العربية» ونظرية القذافي العالمية الثالثة، شرع قادة الدول الثلاث في تنفيذ مشروعات عامة طموحة بدرجة كبيرة تمثلت في بناء المستشفيات والمدارس والكليات ببلدانهم ومولوا المشروعات باستخدام عائدات النفط (في حالتي ليبيا والعراق)، ومن خلال دعم الاتحاد السوفياتي (في حالة سوريا). وفي نفس الوقت، أصيبت الكيانات الحكومية بتلك الدول بالترهل، وسرعان ما أصبح وزراؤها الأعمدة الأساسية للاقتصاد، مما أدى لأن يصبح أكثر من نصف قوة العمل الليبية – منهم والدا مجدي المنقوش – مسجلين في كشوف رواتب موظفي الدولة، وكانت الأرقام في العراق في عهد صدام متشابهة. «الجميع كان مرتبطا بالدولة بشكل ما سواء في السكن أو الوظيفة. كان من المستحيل الخروج منها»، بحسب ماجد.
في خطابهم الثوري، استمر الحكام الاستبداديون في ليبيا والعراق وسوريا على إيمانهم بأن شعوبهم ليست سوى منتجات من اختراعهم. كان هذا يعني أن ولاءهم الأساسي لا يجب أن يكون للدولة، لكن للقبيلة أو، لو توسعنا قليلا، لعرقهم، أو لطائفتهم الدينية. ولكي يضمن استمرار ولائهم، كان على هؤلاء الحكام استخدام سياسة الجزرة والعصا. فقد دخل قادة تلك الدول الثلاث في تحالفات واسعة ومعقدة مع الكثير من القبائل والطوائف. فلم يكن عليك سوى البقاء إلى جانب الديكتاتور لكي تضمن قبيلتك وزارة أو تحصل على امتياز لتجارة مربحة، وإن لم تكن في صفه، فسوف تعيش خارج البيت في العراء بلا ملاذ. كذلك أقام هؤلاء الحكام المستبدون روابط زائفة مع الطوائف الدينية، ففي العراق، سعا المسؤولون الكبار، مثلما كان يفعل صدام حسين الذي ينتمي للطائفة السنية، إلى نشر الشيعة والأكراد في إدارته كي يعطيها بريقا. في حين أنه في ظل الغالبية السنية في إدارة سوريا في عهد حافظ الأسد، فقد كانت الأقلية العلوية هي من تحكم البلاد، وكان ما يعزز وجودها تحالفها مع المسيحيين في البلاد، مما جعل تلك الأقلية أيضا تشعر أنها تتمتع ببعض الحظوة في ذلك الوقت.
كان لبناء تلك التحالفات بعد جغرافي فريد في ليبيا، فبالإضافة إلى التنافس السياسي بين المناطق المختلفة، برقة وإقليم طرابلس، فقد تميز التواجد السكاني في ليبيا بالارتباط بساحل البحر المتوسط، وكل ما تطور هناك على امتداد الألفية الماضية كان بالضرورة سلسلة من الدويلات شبه المستقلة التي قاومت الحكم المركزي. ولذلك، في الوقت الذي لم يقلق فيه القذافي من الطائفية الدينية، على اعتبار أن جميع الليبيين من السنة، فلم يكن في حاجة للتفكير في استقطاب عدد من سكان مصراتة وبنغازي لضمهم لدائرته المقربة لاسترضاء جميع الأطراف.
وفي حال فشلت سبل الإقناع والسلام باليد، كان هناك دوما العصا، فقد أنشأت ليبيا والعراق وسوريا أكثر الأنظمة الأمنية وحشية في العالم. فقد عملت تلك الأجهزة الاستخباراتية في الدول الثلاث من دون رقيب أو مساءلة في تعقب خصوم الدولة، سواء كانوا حقيقيين أو وهميين، لتلقي بمن تشاء في غياهب السجون بعد محاكمات هزلية مخجلة، وقد يكون الإعدام نهاية البعض. لم يكن القمع مقتصرا على الأفراد، إذ كان غالبا يمتد ليشمل القبيلة أو الجماعة العرقية برمتها. بالتأكيد كان صدام حسين أحد أسوأ تلك الحالات ممثلا في حملة «الأنفال» التي شنها صدام حسين على الأقلية الكردية العنيدة عام 1988، والتي انتهت بقتل ما بين 5000 إلى 10000 كردي. وخلال عامين، جرى تهجير وتشريد مئات الآلاف من قراهم المدمرة وأعيد توطينهم بالقوة في أماكن أخرى.
للدولة أيضا ذاكرة طويلة، حيث نشأ مجدي المنقوش في مصراتة، ويتذكر عام 1975 عندما شارك اثنان من أقارب والدته وكانا ضابطين بالجيش من ذوي الرتب المتوسطة في محاولة انقلاب فاشلة ضد القذافي، ورغم إعدام الضابطين، استمر العار يلاحق اسم العائلة (حيث إن والدة مجدي تنتمي لعائلة المنقوش أيضا).
«لم يقتصر الأمر على الاضطهاد فحسب»، وفق مجدي الذي بلغ الآن الثلاثين من عمره: «فكثيرا ما تسمع ضباطا يعلقون، أنت من عائلة المنقوش»، مضيفا: «كان ذلك يعني أن الدولة كانت تنظر لك دائما باعتبارك غير جدير بالثقة».
وفي هذه الدول الثلاث، هناك فصيل واحد ينظر له باعتباره غير جدير بالثقة، وكان دوما يتلقى العصا، ذلك الفصيل هو المتطرفون. ففي سوريا والعراق، فمجرد تعريف نفسك بوصفك سنيا أو شيعيا كفيل بإثارة شكوك الدولة، وفي تلك الدول الثلاث أيضا دائما ما تتبع أجهزة المخابرات أساليب خاصة لإخضاع الدعاة المتشددين ومثيري الفتن من المتشددين. لم تكن الدقة من سمات تلك الحملات فعندما سيطرت جماعة سنية متطرف تابعة ل«الإخوان المسلمين» على جزء من مدينة حماه عام 1982، قام حافظ الأسد بحصار المدينة بقوات المشاة والدبابات والمدفعية، وخلال ثلاثة أسابيع حدثت «مذبحة حماه» التي راح ضحيتها عدد تراوح بين 10 آلاف – 40 ألفا من سكان المدينة.
غالبا ما تسيطر ما يعرف بديناميكية الضلال على الحكام المستبدين، وهو ما يشترك فيه القادة الثلاثة: القذافي وصدام حسين والأسد. ينبع جزء من تلك الديناميكية مما يعرف بمتلازمة الإمبراطور المطلق، التي تتسبب في عزله عن الواقع، خاصة في حال وجود محيطين من الأذلاء الخانعين. جانب آخر من تلك الديناميكية يمكن في طبيعة الدولة البوليسية، فكلما زاد قمع قوات الأمن زاد تخفي الأعداء الحقيقيين تحت الأرض، مما يجعل من الصعب على الديكتاتور معرفة عدوه الحقيقي. ومن شأن ذلك أن يعمق من إحساس البارانويا، أو جنون العظمة، التي لا يهدئها سوى المزيد من الاضطهاد. وفي حقبة التسعينات، خلقت تلك الدائرة حالة غريبة في العراق وسوريا وليبيا: وهي أنه كلما أوغل القادة في تعزيز عبادة الفرد، زادت عزلة هؤلاء القادة. في حالة مجدي المنقوش، فعلى الرغم من العيش في دولة لا يتعدى سكانها عدد سكان نيويورك بأحيائها الخمسة، فلم يحدث مرة أن لمح مجدي الرئيس القذافي ولو صدفة خلال الخمسة والعشرين عاما التي حكم فيها البلاد. فرقم 25 يقترب من الرقم الذي ربما تجرأ فيه مجدي على نطق اسمه القذافي صريحا في العلن خلال تلك السنوات. «تستطيع أن تنطق اسمه فقط وسط عائلتك، أو مع أقرب الأصدقاء»، وفق مجدي: «لكن في حال كان هناك غير هؤلاء حولك وأردت أن تنتقد القذافي، فدائما ما كنا نشير إليه بكلمة الصديق».
كان هناك جانب آخر لافت بخصوص الملصقات وصور الفسيفساء للحكام الاستبداديين التي بدت منتشرة بكل مكان في ليبيا والعراق وسوريا، ذلك أن في عدد كبير للغاية منها تمثل الإطار المحيط بصورة الحاكم القوي في حدود البلاد. وربما كان هذا مقصودًا لنقل رسالة محددة مفادها «أنا قائد الأمة»، لكن من المحتمل كذلك أن يكون المقصود من وراء مثل هذه الصور رسالة أخرى أكثر طموحًا وتنطوي على تحذير أخطر، مفادها «أنا الأمة، وبرحيلي ترحل الأمة ذاتها» أو على الأقل ذلك ما كانت تأمل فيه عشيرة المنقوش.
مطلع عام 1975. وبينما مضت ليلى سويف، داخل جامعة القاهرة، في مطالبتها بالتغيير، كان الجنرال هيسو ميرخان يعمل معاونًا لمصطفى بارزاني، المنتمي لأكراد العراق، في خضم حرب عصابات وحشية ضد الحكومة البعثية في بغداد. وعلى مدار أكثر من عام، قاتلت القوات الكردية المعروفة باسم البيشمركة، التي كان الجانب الآخر يفوقها عددًا بكثير، الجيش العراقي، حتى وصل الموقف لحالة تأزم وجمود. ومن بين العناصر الجوهرية التي أعانت الأكراد التدفق المستمر للأسلحة من جانب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، بجانب مشاركة مستشارين عسكريين إيرانيين، في إطار جهود إيران شن حرب بالوكالة بدعم من واشنطن ضد العراق. إلا أنه عندما أبرم شاه إيران وصدام حسين اتفاقية سلام على نحو مباغت في مطلع مارس (آذار)، أصدر وزير الخارجية هنري كيسنجر أوامره بالوقف الفوري للمساعدات الموجهة إلى الأكراد. وفي مواجهة هجوم عراقي كاسح، جرى نقل بارزاني جوًا لينهي حياته داخل أحد المنازل الآمنة التابعة ل«سي. آي. إيه». بفيرجينيا الشمالية، في الوقت الذي بقي آلاف المقاتلين من قوات البيشمركة محاصرين ليواجهوا مصيرهم، بمن فيهم هيسو ميرخان. ومع إحكام جنود صدام حسين الحصار، قاد الجنرال أفراد أسرته في رحلة هروب محمومة عبر الجبال طلبًا لملاذ في إيران. وبمكان ما على الطريق، وضعت زوجته ولدا آخر.
وعن ذلك، قال آذار ميرخان، البالغ حاليًا 41 عامًا: «وقعت الاتفاقية في ال6 من مارس، وولدت أنا في ال7 من الشهر ذاته. وقد وضعتني أمي على الطريق، على الحدود بين إيران والعراق»، وأضاف مبتسمًا: «لهذا أطلقت علي أسرتي لقب (الطفل المحظوظ)».
في الواقع، من الصعب العثور على مجموعة من البشر يعانون من سوء الحظ بقدر ما يعانيه الأكراد. المعروف أن الأكراد ينتشرون عبر مناطق جبلية تنتمي إلى أربع دول العراق وإيران وسوريا وتركيا ولطالما نظروا إلى أنفسهم باعتبارهم متميزين ثقافيًا عن جيرانهم وناضلوا باستمرار لنيل الاستقلال عن الدول التي يقطنونها. من جانبها، مالت حكومات هذه الدول إلى النظر إلى رعاياها الأكراد بمزيج من الخوف والريبة، وسعت لسحق مساعيهم نحو الاستقلال. كما استعانت هذه الحكومات من حين لآخر بالأكراد سواء من يتبعونها أو يعيشون في بلد مجاور كمقاتلين بالوكالة بهدف مهاجمة وزعزعة استقرار أعدائها الإقليميين. ويكشف التاريخ أنه عندما كانت تحين نهاية مثل هذه المشاحنات، كان نفع الأكراد أيضًا ينتهي، وسرعان ما كان يجري تجاهلهم وإهمالهم مثلما حدث في واقعة «الخيانة الكبرى» عام 1975.
وفي الوقت الذي يبدو من المستحيل إحصاء عدد الثورات والحروب بالوكالة التي اندلعت عبر إقليم كردستان على مدار القرن الماضي، فإن السيرة الذاتية لقائد هيسو ميرخان، مصطفى بارزاني، تحمل أمرًا يستحق التوقف عنده. بحلول وقت وفاته عام 1979، كان بارزاني البالغ 75 عامًا لم يشن حربًا ضد تركيا وإيران (مرتين) والحكومة المركزية بالعراق (أربع مرات) فحسب، وإنما كذلك وجد بصورة ما في نفسه القدرة على مواجهة العثمانيين والبريطانيين وعدد من منافسيه من الأكراد. ويمكنك ضرب قائمة صراعات بارزاني في أربعة، خاصة بالنظر إلى أن أكراد سوريا وإيران وتركيا لدى كل منهم جماعات مسلحة وحركات استقلال متنافسة، ليتضح حجم ضخامة الصورة الكبرى.
ورغم خوف هذه الحكومات من أن تواجه يومًا ما «كردستان الكبرى» المستقلة، تبقى الحقيقة أن الاختلافات القائمة بين الأكراد داخل هذه الدول الأربعة تكاد تكافئ التشابهات بينهم. ومع هذا، فإن من الأمور المشتركة بينهم التقليد القتالي القائم منذ أمد بعيد. وداخل شمال العراق على وجه التحديد، لا توجد عائلة تحظى بتقدير أكبر عن البيشمركة وهو لفظ يعني «أولئك الذين يواجهون الموت» سوى آل ميرخان.
سيرًا على خطى أبيهم، خاض د. آذار ميرخان وأربعة من أشقائه التسعة التدريب في صفوف البيشمركة. والآن، أصبح أحد هؤلاء الأشقاء، أراز، من كبار قيادات البيشمركة على الخطوط الأمامية. ومع ذلك، تكبدت الأسرة ثمنًا باهظًا مقابل عضويتها في هذه المجموعة القتالية، حيث قتل هيسو، زعيمها، خلال قتال عام 1983 بينما لقي أحد أشقاء آذار الأكبر، ويدعى علي، المصير ذاته عام 1994.
إلا أن اضطهاد الأكراد تاريخيًا لم يأت من قبل حكومات المنطقة فحسب، ذلك أنه في واقع الأمر ربما تكون الولايات المتحدة على رأس من تسببوا في أسى ومعاناة الأكراد بشمال العراق. بعد دور واشنطن فيما عرف بالخيانة العظمى عام 1975، تورط الأميركيون مجددًا في معاناة الأكراد وإن كان التواطؤ هذه المرة جاء في معظمه عن طريق الصمت في غضون 10 سنوات فحسب.
بحلول ذلك الوقت، كان شاه إيران الحليف الرئيسي لواشنطن بالمنطقة، قد أطيح به وحل محله نظام شيعي معاد للولايات المتحدة يتزعمه آية الله الخميني. وبحثًا عن شريك جديد في المنطقة، عثرت واشنطن على ضالتها في شخص صدام حسين. ومع شن حاكم العراق المستبد حربًا ضد إيران تحت قيادة الخميني، ومع تمرير واشنطن سرًا أسلحة إليه، أصبح صدام حسين بحلول عام 1988 جزءًا لا يتجزأ من سياسة إدارة ريغان الواقعية بالمنطقة لدرجة دفعتها لغض الطرف ببساطة عن حملة «الأنفال» الدموية التي شنها ديكتاتور العراق ضد مواطنيه الأكراد. وازداد الوضع ترديًا في مارس من ذلك العام عندما أطلقت القوات العراقية الغازات السامة ضد قرية حلابجة، ما أسفر عن مقتل قرابة 5000 شخص. ورغم توافر أدلة قوية على تورط صدام حسين بالمذبحة يذكر أن حلابجة ظهرت بوضوح أثناء محاكمته عام 2006 لارتكابه جرائم ضد الإنسانية لمح مسؤولو إدارة ريغان إلى أن المتورط الحقيقي في المذبحة إيران.
وجاءت نهاية الترتيبات الأميركية مع صدام حسين عندما أصدر الديكتاتور العراقي قرارًا عام 1991 بغزو الكويت المجاورة، ما أثار قلق ليس القوى الغربية فحسب، وإنما كذلك معظم جيرانه من الدول العربية. وأوشك هذا الحدث على أن يسفر عن مذبحة جديدة بحق أكراد العراق، لكنه تمخض نهاية الأمر عن تحررهم، وشكل اللحظة المحورية التي اشتبكت فيها الولايات المتحدة في الانقسامات الطائفية والعرقية داخل العراق.
في مواجهة موقف صدام العدائي، قاد الرئيس جورج إتش دبليو بوش تحالفا عسكريا دوليا – عملية عاصفة الصحراء – والذي سرعان ما قضى على الجيش العراقي في الكويت، ثم توغلت قوات التحالف داخل العراق نفسه. ولما بدت حكومة صدام حسين على حافة الانهيار، شجع بوش الشعب العراقي على أن يهبوا إلى التمرد عليها. تلقفت كلتا الجماعتين العراقيتين المهمشتين – الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال – ذلك التشجيع وتمردتا بالفعل، لا لشيء إلا أن تجدا الولايات المتحدة وقد لزمت مكانها فجأة. خلصت إدارة بوش الأب لاحقا إلى أن انهيار حكم صدام قد يخدم إيران التي لا تزال تناصب أميركا العداء، ولذا فقد أصدرت الأمر للقوات الأميركية بالانسحاب فيما أعاد الجيش العراقي تنظيم صفوفه، وبدأ هجوما مضادا لا هوادة فيه. ولوقف مجزرة جماعية للمتمردين الذين شجعتهم، فقد انضمت الولايات المتحدة إلى حلفائها في تأسيس منطقة عازلة محمية في كردستان، وكذلك فرض منطقة حظر طيران في شمالي وجنوبي العراق على السواء. كان صدام لا يزال باقيا في بغداد رغم هذه الإجراءات، بالطبع، ومستعدا للانتقام لنفسه عند أول فرصة لذلك. وفيما خلصت إدارة بوش إلى أنها لا تملك عمل الكثير لمساعدة الشيعة المعزولين جغرافيا في الجنوب – سرعان ما تعرضوا أيضا لمذبحة على طريقة مجزرة الأنفال – فمن أجل حماية الأكراد، أرغمت صدام حسين على انسحاب عسكري من كل إقليم كردستان.
ولنقل الأمور خطوة إضافية، في يوليو 1992، تأسست حكومة إقليم كردستان، وهو اتحاد من 3 محافظات كردية في العراق يحصل على حكم ذاتي.
والمرجح غالبا أن إدارة بوش كانت تنظر إلى هذا الانفصال الكردي باعتباره إجراء مؤقتا، يتم إلغاؤه بمجرد رحيل الديكتاتور وزوال الخطر. غير أن أكراد العراق الذين طالت معاناتهم كان لهم رأي آخر تماما. للمرة الأولى منذ 1919، ينعمون بالحرية من نير بغداد، وتكون لهم دولتهم الخاصة في كل شيء عدا اسمها. وفي حين كانت قلة قليلة للغاية في الغرب تقدر خطورة الخطوة في ذلك الوقت، فإن قيام حكومة كردستان الإقليمية، كانت بمثابة أول تفكيك للحدود الاستعمارية التي فرضت على المنطقة قبل 75 عاما، وهو التقسيم القائم لواحدة من دول الشرق الأوسط المصطنعة. في السنوات التالية مباشرة، ترك عشرات الآلاف من أكراد الشتات أماكنهم في المنفى ليعودوا إلى موطنهم القديم. وفي 1994، شمل هذا عازار ميرخان، طالب الجامعة البالغ آنذاك 19 عاما، والذي كان قضى معظم حياته تقريبا لاجئا في إيران.
قبل تدميرها، كانت حمص مكانا ساحرا بما فيه الكفاية، مدينة يسكنها نحو 800000 نسمة في عمق الوادي الذي يتوسط سوريا، لكنها قريبة من خاصرة سلسلة الجبال الساحلية بما يكفي للهروب من أسوأ الأحوال الجوية بالنسبة إلى الصيف شديد الحرارة في المنطقة. لم تكن أبدا مكانا يبقى فيه السائحون لوقت طويل جدا. ورغم أن تاريخ حمص يعود إلى ما قبل العصرين الإغريقي والروماني، فلم يتبق من آثارها إلا القليل، وكل من مر بالمدينة يميل إلى زيارة خاطفة إلى قلعة حصن الفرسان، القلعة الصليبية الشهيرة التي تبعد 30 ميلا إلى الغرب. كانت هناك سوق مغطاة في البلدة القديمة ومسجد عتيق جميل، وإن كان لا يجتذب الأنظار، لكن عدا ذلك فإن حمص كانت تبدو أشبه كثيرا بأي مدينة أخرى في سوريا الحديثة. هيمنت مجموعة من المباني الحكومية ذات الألوان الباهتة والرتيبة على وسط المدينة، تحيط بها أحياء ذات مبان سكنية ترتفع لخمسة أو ستة طوابق؛ ويمكن للرائي أن يلاحظ في الأحياء الواقعة على أطراف المدينة، مباني ذات واجهات حجرية غير مطلية وقطعا من حديد التسليح الناتئة، والتي تعطي لكثير من أحياء الشرق الأوسط مظهر المواقع تحت الإنشاء، أو التي هجرها سكانها مؤخرا.
ومع هذا، فحتى انهيارها، كانت حمص هي المقصد لكونها أكثر المدن من حيث التنوع الديني الذي يمكن أن تجده في أكثر بلدان العالم العربي اختلاطا للأديان. على المستوى الوطني، تتكون سوريا من نحو 70 في المائة من العرب السنة، و12 في المائة من العلويين – وهم فرع من الإسلام الشيعي – ونفس النسبة تقريبا من الأكراد السنة؛ فيما تتألف البقية من المسيحيين وعدد من الطوائف الدينية الأصغر. وكانت حمص، الواقعة عند مفترق الطرق الجغرافي في سوريا، هذا الالتقاء العالمي، بصفحة سماء تزدان، لا بمنارات المساجد فحسب، بل بأبراج الكنائس الكاثوليكية وقباب الكنائس الأرثوذكسية أيضا.
ولقد أعطى هذا لحمص مذاقا عالميا لا يجده المرء بسهولة في مكان آخر – لدرجة أنه في العام 1997، لم يجد زوجان أي غضاضة في إدخال طفلهما الأول، مجد صاحب الخمس سنوات، في مدرسة كاثوليكية خاصة. ونتيجة لهذا، فقد نشأ مجد وسط أصدقاء مسيحيين في غالبيتهم، ومعرفة بالمسيح والإنجيل، أكثر من معرفته بالنبي محمد والقرآن. ولم يبد أن هذا سبب أي إزعاج لوالدي مجد على الإطلاق. وعلى رغم نشأتهما كمسلمين، فقد جاء والدا مجد من نفس هذا التنوع الشكلي، فلم تكن والدته تعبأ بارتداء الحجاب على الملأ من عدمه، فيما لم يكن والده يرتاد المسجد إلا لحضور الجنازات.
وكانت هذه الليبرالية العلمانية على وفاق كبير مع سوريا الجديدة التي سعى حافظ الأسد لتشكيلها خلال حكمه الديكتاتوري الذي استمر بقبضة حديدية هو الآخر على مدى 30 عاما؛ وهي علمانية شجعها من دون شك انتماؤه لأقلية دينية، كعلوي. وبعد وفاته في عام 2000، انتقل تنفيذ هذه السياسة إلى ابنه، بشار. وصل بشار، الابن الانطوائي والذي تلقى تعليمه كطبيب عيون في لندن – إلى السلطة بطريقة تلقائية – حيث كان الأسد الأب يجهز ابنه الأكبر، باسل، لخلافته قبل أن يقضي بحادث سيارة مميت في 1994. لكن بشار، وبينما كان يقدم وجها بعثيا أكثر نعومة وحداثة، أظهر براعة في الإبحار وسط تيارات السياسة الصعبة في الشرق الأوسط. وفي حين كان لا يزال يتعهد علنا باستعادة الجولان التي احتلتها إسرائيل في حرب الأيام الستة، فقد حافظ على الهدوء غير المستقر مع تل أبيب، بل سعى لمفاوضات سرية من أجل تسوية. ومن خلال تخفيف قبضة سوريا على لبنان تدريجيا – حيث كانت قواتها تحتل أجزاء من البلد منذ 1967، وكانت دمشق دائما رئيسا لميليشيا «حزب الله» – كان الأسد الابن يبدو شخصية أكثر مقبولية لدى الغرب.
وبالنسبة إلى مجد إبراهيم الذي كان شب عن الطوق آنذاك، فقد كان يرى بصورة متزايدة أن مستقبل بلاده يكمن في الغرب. وشأن أولاد الطبقة المتوسطة الآخرين في حمص، كان يرتدي الأزياء الغربية، ويستمع الموسيقى الغربية، ويشاهد الأفلام الغربية، لكن مجدي حصل كذلك على نافذة فريدة على العالم الخارجي. عمل والده، مهندس الكهرباء، في واحد من أفضل الفنادق في حمص، فندق سفير، ومجدي – المنبهر بالفندق وصخب زواره الدائم – كان يبتكر الأعذار باستمرار ليزور والده خلال اليوم. كان فندق سفير بالنسبة إلى مجدي مكانا يشعر فيه بالاطمئنان كذلك، وتذكير بأنه مهما انحرفت السياسة السورية قليلا، فسيكون قادرا على الدوام بأن يسكن العالم الحديث والعلماني الذي ولد فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.