ليسوا عُلماء السلطان .. هؤلاء هم السلطان نفسه !! سيف الدولة حمدناالله ليس من اللائق – ولا الجائز شرعاً – توجيه الإساءة أو الإنتقاص من قيمة ومكانة علماء المسلمين، فقد رفع القرآن الكريم والسنة الشريفة مقام العلماء في أكثر من موضِع من القرآن والسنة، حتى أن العلّامة ابن القيم قال عنهم : "العلماء هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب". بيد أن واجب إحترام العلماء ليس مُطلقاً، فالعالِم تهوى مكانته إذا شُوهِد مثلاً (لا سمح الله) وهو يرقص على أنغام الموسيقى في مكان عام، أو ضُبِط وهو يرتكب معصية من المعاصي، كما أن واجب تقدير العلماء يقتضي منهم عدم الإفتاء فيما يخرج عن إختصاصهم، وهو بيان رأي الدين فيما يُعرَض عليهم من مسائل، فلا قيمة لرأي عالِم الدين إذا أفتى – مثلاً – في بيان الحِميَة المُثلى لإنقاص الوزن، أو ملاءمة زراعة القطن في مناخ جبال النوبة. هذه قاعدة بدهية، ولا يستند أساسها على العقل والمنطق وحدهما، فقد قال بها سيّد الخلق نبينا محمّد (صلى الله عليه وسلّم) وليس هناك مخلوق أعلم منه، فقد ورد في الحديث الصحيح أن الرسول (صلى الله عليه وسلّم) مرّ على قوم يلقّحون التمر، فقال لهم: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً) فتركوا ذلك، فخرج التمر شيصاً "يعني نقص المحصول"، فذكروا له ذلك، فقال لهم: "إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيئ من دينكم فخُذُوا به، وإذا أمرتكم بشيئ من رأيي فأنا بشر) رواه مسلم. وتصدِّي العلماء بالفتوى بالمخالفة لهذه القاعدة يؤدّي إلى هزْ مكانتهم والقدح في مصداقيتهم بلا داعٍ، ومن ذلك (المَهزَأة) التي لحِقت بهيئة علماء السودان من وراء (الفتوى الشرعية) التي صدرت عنهم بعدم جواز سفر الرئيس لحضور القمة العربية بالدوحة (مارس 2009 ) بدعوى أن ذلك يُعرَّضه لخطر القبض عليه بالأمر الصادر من المحكمة الجنائية، وهو أمر خارج عن إختصاصهم ويقع تقديره في إختصاص خبراء الأمن والقانون ورجال السلك الدبلوماسي وخبراء العلاقات الدولية. وبخلاف الإختصاص النوعي، ليس هناك إختصاص (مكاني) لعلماء المسلمين حينما يتعلّق موضوع الفتوى بمسألة ذات طبيعة عامة فيما يصدر عن المسلمين من أفعال، فالمسلِم هو المسلِم سواء كان يعيش في سنغافورة أو الصومال. وبالتالي، فالحكم الذي يصدر عن هيئة علماء المسلمين في السودان، ينطبق على المُسلِم في أي مكان بالعالم، وهو ما يحدث اليوم، حيث يأخذ المسلمون بالفتاوى التي تصدُر عن علماء المسلمين بالمملكة العربية السعودية والأزهر في مصر ..إلخ دون أن يكونوا من رعايا أيّ من الدولتين. والحال كذلك، فالمفروض أن أي فتوى تصدر عن هيئة علماء السودان في مسألة عامة، تكون فتوى شرعية للمسلِمين بوجه عام لا لِحَمَلة الرقم الوطني السوداني، وبتطبيق هذه القاعدة: ما الخطيئة التي فعلها السودانيون دون سائر شعوب الأرض الأخرى حتى (تجزم) هيئة علماء المسلمين بأن (الخطايا) التي يرتكبونها هي سبب إبتلاء الله لهم بالغلاء وضيق العيش!! (المجهر السياسي 27/8/2016). ما المعاصي التي يرتكبها (السودانيون) ولا تفعلها الشعوب (المُسلِمة) الأخرى من حولنا مثل إثيوبيا وتونس والمغرب والأردن .. إلخ وهي شعوب تعيش في تبات ونبات ولا يطحنها مثل الغلاء الذي يشتكي منه شعبنا وتشهد عملتها إستقراراً دون أن تكون لديها موارد أكثر من موارد السودان !! ثم، ما الذي جعل علماء للمسلمين عامة يخصُّون رعايا دولة السودان بهذه الفتوى دون سائر شعوب أفريقيا، وهو الدولة الوحيدة في القارة التي تُقيم شرع الله وتُجلد فيه المرأة إذا إرتدت بنطلون أو إذا تركت رأسها بلا غطاء، ولا يُسمح فيه بخلوة الرجل مع المرأة الأجنبية ولو كان ذلك في حديقة عامة !! ثم، لماذا لجأ علماء المسلمين لتفسير الغلاء بالأسباب (الغيبية) وإلتفتوا عن ذكر الأسباب (الظاهرة) التي جعلت المصائب تتوالى على رأس الشعب السوداني الغلبان !! مثل تفشي الفساد وسط الحُكّام، وهو فساد تحكي عنه "النغنغة" التي يعيش فيها أهل السلطة فيما يعيش الأهالي المُفترى عليهم في "كُربة"، أنظر إلى البيوت التي يعيشون فيها والسيارات التي يمتطيها أنجالِهم، والمزارع التي يمضون فيها عطلات نهاية الإسبوع، أنظر إلى كمية ما يحتفظون به من عملات حُرّة بالمنزل في الرف تحت القمصان، وما يدفعونه من نفقات في السفر وتعليم الأنجال بالمدارس الأجنبية. كان الواجب أن تُوجّه مثل هذه الفتوى للقَتَلَة لا المقتولين، وأن تطلب منهم هيئة العلماء أن يتّقوا الله في رعاياهم حتى يرفع الله هذا البلاء، وأن تطلب منهم أن يُعيدوا المسروق إلى أصحابه، وأن يُفصِحوا لهم عن حقيقة أنهم أذنبوا في حق الشعب بقِلة عقلهم وقِصَر نظرهم. كان الواجب أن يتوجهوا للحكّام بالسؤال: أين ذهبت حصيلة البترول وتبلغ مئات المليارات، التي ذهبت مع الريح ولم يظهر لها أثر في حياة الناس وإستدانوا أموال من الخارج لإقامة جنس الطرق والكباري التي يصدَحون بها ليل نهار. الذي أوصل بالوطن إلى هذه الحالة من الغلاء كان بفعل فاعل من بني البشر، وقف وراءه اللصوص الذين خربوها وجلسوا على تلّها، هدموا – بسبب الجهل وقِصر النظر – كل شيئ كان موجوداً في البلاد من مشاريع زراعية وصناعة وخدمات (سفن وسكك حديدية ..إلخ) وشرّدوا أبناء الوطن. أمّا أصحاب هذه الفتوى، لا يصَح أن يُقال عنهم أنهم علماء السلطان، فهم السلطان نفسه !!