منذ أن وقعت عيني على الفتى "شول مانوت"قبل عدة شهور وهو يقف بجسده النحيل على المسرحيغني في برنامج نجوم الغد،منذ أن شاهدته شعرت بأن قلبي قد وقع في جوف بطني، وبرغم أنه كان يغني في ألحان شجيّة وبصوت رخيم من بينها أغنية للفنان خلف الله حمد،شعرت كأنه كان يُريد أن يُنهي إلينا رسالة مفادها أنه إبن هذا البلد لا مجرد صاحب صوت جميل، وبرغم التجاوب الذي وجده من الجمهور، شعرت بأن الذين كانوا يُصفّقون له داخل المسرح كانوا يفعلون ذلك وكأنهم يسألونه الصفح عنهم لكونه قد أصبح أجنبيبأكثر مما أطربهم صوته. بكل أسف، لم يُكتب للفتى الأسمر أن يمضي في طريق الشهرة والنجاح حتى نهايته، فإختفى عن الأنظار بعد إنقضاء تلك الليلة، وقد يكون قد عاد إلى ممارسة عمله في بيع المناديل على الأرصِفة أو العمل كصبي درداقة، فيما شقّ كثير من رِفاقة من أهل الطرب الذين يتفوق عليهم في الموهبة وحسن الأداء طريقهم إلى عالم الشهرة والأضواء وأصبحوا "نجوم الحاضِر"ولهم حُرّاس شخصيين. حتى كان يوم أمس، حيث وقع بصري من جديد على "مانوت" عبر لقطات مصورة وصلتني عبر تطبيق "الواتساب"، ظهر فيها المسكين وقد كاد يقضى المرض والهزال على جسده النحيل، وبدا في الصور هو يستلقي على جنبه في لِحافٍ مُتّسِخ فُرِش على الأرض تحت حائط لمبنى مستشفى، وقد وُضِعت أمامه قيروانه بها بقية طعام يشبه الطحين الممزوج بالماء،وإلى جانبه قنينة بلاستيك بها سائل يُشبه الماء. كان وحيداً وليس هناك ما يشير إلى وجود أحد يقوم برعايته، وكان ينظر نحو الكاميرا بعيون زائغة وقلب مُلتاع، وكأنه يستنجِد بأهل المعروف. المأساة التي يعيشها "مانوت" لم تحدث له لكونه واحد من أبناء الجنوب الذين يعيشون في الشمال، فهناك ألوف من أبناء الشمال الذين يفقدون أرواحهم بسبب أمراض يمكن علاجها بمقابلة طبيب عمومي ودواء بثمن ساندوتش، وقد كتبت مرة عن حالة أخرى وصلتني عبر نفس الطريقة لصبي صغيركان يحمل شقيقه الأصغر بعد أن ربطه بخرقة قماش بالية على ظهره وهو يطوف به في شارع مستشفى الخرطوم يسأل من بين المحسنين من يتكفّل بعلاجه. جِنس هذه المآسي التي يعيشها الفقراء، تكشف عن حجم المفارقة والتمييز في رعاية الدولة لأبنائها، فالفقراء هم الذين يتحملون نفقات علاج الأثرياء من المسئولين (وعوائلهم) الذين يتعالجون في الخارج على حساب الخزينة العامة التي يُجمع شِق كبير من أموالها عن طريق الضرائب التي يتحملها كادِحون وفقراء. نعم، هناك خلل لا تخطئه العين من النظام في معاملة أبناء "العشيرة" عند المرض وغيرهم من أبناء "البدون" المساكين، فالأموال التي أنفقتها الدولة قبل أيام في تأبين أحد أبنائها المتوفين بقاعة الصداقة تكفي لعلاج ألوف من الموجوعين الفقراء الذين هدّهم المرض ولا يقدرون على مواجهة نفقاته، أنظر إلى حجم الأموال التي تبرّع بها الرئيس البشير (20 مليار) في سبيل إحياء ذكرى الوزير صلاح ونسي (رحِمه الله) بإنشاء مركز يحمل إسمه لأبحاث ومكافحة السرطان (وهو المرض الذي توفى به الفقيد العام الماضي بعد رحلة علاج في ألمانيا) كما وجّه الرئيس وزارة المالية بتخصيص ميزانية ثابتة للمركز ضمن الميزانية العامة السنوية. هذا عبث، فليس مطلوباً من دولة مثل السودان وهو في عرض ما يلزمه من أموال لإستيراد الطحين أن تقوم بمثل هذه الأبحاث التي تُخصّص لها الدول الغنية أموالاً تجاوز الميزانية العامة للسودان لبضعة سنوات دون أن تتوصّل لنتائج ملموسة. لا ينبغي النظر إلى أبناء الجنوب – ومنهم الفتى "مانوت" – على أنهم غُرباء أو أجانب، فالذين يعيشون بيننا من أبناء الجنوب هم أبناء هذا الوطن، فقد وُلِدوا فيه وعاشوا في أرضه، ولهم فيه من الحقوق أكثر من غيرهم الذين إنحدروا من أصول أجنبية وأصبحوا ولاة لأمرنا، فقد عاش أبناء الجنوب معنا وبيننا عبر القرون، وتزاملوا معنا في المدارس والعمل، وتوحدت مشاعرنا وقلوبنا معهم وتآلفت، فهم يلبسون (على الله) ويشجعون الهلال والمريخ ويحلِفون بالطلاق مثلنا ويطربون لعثمان حسين ووردي ويشاطروننا الرأي في عمر الجزلي. كم يُثلِج الصدر أن يرى المرء الأستاذ الكبير والمُربّي بابكر الصديق مُقدّم برنامج نجوم الغد وهو يقف في إحدى الصور إلى جانب "مانوت"، كما أن هناك فُضلاء من أبناء الوطن قد تحرّكوا لنجدة هذا الفتى المسكين، وهي نفس المجموعة التي سبق لها الوقوف إلى جانب المُفكّر حيدر إبراهيم، وقد خفق قلبي بقوة حين إطلعت على رسالة تقدم بها نجل الأستاذ حيدر "مُظفّر" ذكر فيها أن هناك مبلغ متبقي من علاج والده ويريد أن يُسهِم به في علاج "مانوت"، وهذه بمثابة دعوة للجميع للسماهمة في تدبير نفقات علاج "مانوت" عبر الموقع الذي أُنشيئ لهذا الغرض في عدد من مواقع التواصل الإجتماعي، فقد أصبح قدر هذا الشعب أن يتكفّل بشئون نفسه بنفسه بعد أن رفعت الدولة يدها عنه. لا يليق أن نترك نجم الغد الذي أدخل الفرحة في قلوبنا أن يواجه محنته وحده. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله،،