د. ياسر محجوب الحسين أرقام مفجعة وصادمة أوردها مسؤولون حكوميون سودانيون وليسوا معارضين..الأرقام وكأنها تُحدّث عن عمليات "تفريغ" قسري للبلاد من أهم مواردها على الإطلاق وهي الموارد البشرية، خاصة أصحاب الكفاءات والتخصصات النادرة بينما الحكومة غير مبالية أو مدركة لحجم الكارثة وما أكثر الكوارث التي تترا وتتساقط مطرا ورعدا وتهب رياحا وعواصف هوجاء. يقول الأمين العام لجهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج إن المواطنين الذين حصلوا على تأشيرات خروج خلال ثلاثة أيام بلغ عددهم 12 ألف مواطن، فضلًا عن استخراج عدد 4 آلاف وخمسمائة جواز سفر جديد.. هذه الزيادة غير المسبوقة في معدلات طلب تأشيرات الخروج يعزيها البعض إلى موجة إحباط أمسكت بتلابيب المواطن الذي يبدو أنه فقد الثقة في إمكانية تغيير واقع اقتصادي وسياسي بائس.. فإن كان معدل الحاصلين على تأشيرة الخروج 4 آلاف يوميا فهذا يعني أن هنالك مليونا ونصف المليون مهاجر في العام وإن افترضنا أن 500 ألف منهم يعودون بعد رحلات عمل أو علاج قصيرة؛ فإنه على الأقل هنالك مليون مهاجر في العام أي أن السودان سيخلو من السودانيين خلال 30 عاما هذا إن تفاءلنا وافترضنا ثبات معدلات الهجرة دون زيادة.. وما يخيف أكثر أن المهاجرين هم من الفئات العمرية من 25 – 40 سنة. في المقابل تشير الإحصاءات الرسمية عن وجود مليوني مهاجر غير شرعي بالبلاد من دول أخرى خاصة دول الجوار وذلك حسب معلومات وتقارير صادرة عن وزارة الداخلية السودانية بيد أن منظمات ومصادر أخرى تقدر عدد المهاجرين العشوائيين غير القانونيين من دول الجوار إلى السودان في العشرين عاما الأخيرة بأكثر من خمسة ملايين وافد منهم على الأقل أكثر من مليون حصلوا على الجنسية السودانية. وموجات الهجرة هذه حمّلت السودان أعباء كبيرة انعكست على مستوى معيشة المواطن ومستوى الخدمات المقدمة له. ونتج عن ذلك ارتفاع معدلات الجريمة واتساع نطاق جريمة الاتجار بالبشر. ويشير آخر تقديرات للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة إلى أن عدد اللاجئين وطالبي اللجوء في السودان قد يصل إلى نصف مليون شخص. ولا يمكن توصيف هذا الوضع الكارثي بأقل من أنه تهديد ماحق للأمن القومي السوداني، وتقف مهن الطب والتعليم والهندسة في أعلى سلم الهجرة، فلا يقل معدل هجرة الأطباء السنوي عن (5) آلاف طبيب. ويشير جهاز المغتربين إلى أن هجرة الأطباء تعتبر فقد لرأس المال البشري للدولة.. وفي نهايات العام الماضي أعلن الجهاز عن هجرة نحو 50 ألفًا من الكفاءات السودانية، من أساتذة الجامعات والأطباء والصيادلة والمهندسين والعمال المهرة، بدافع تحسين أوضاعهم المعيشية، بينهم 300 أستاذ من جامعة الخرطوم وحدها.. وكانت الحكومة قد أعلنت في ديسمبر 2013 أنها فقدت 34% من كوادر العلماء والباحثين في المركز القومي للبحوث خلال الأشهر الستة الأخيرة من نفس العام. في الوقت الذي لا تفعل الحكومة شيئا للحد من ظاهرة الهجرة المنفلتة وتكتفي بالجلوس في مقاعد المتفرجين، يعلن اليوم مسؤولون أمنيون أن الخرطوم تحارب الهجرة غير الشرعية بالنيابة عن أوروبا بتكلفة باهظة في الرجال والعتاد أثناء عمليات المطاردة والاشتباك مع عصابات الاتجار بالبشر.. ويقول هؤلاء المسؤولون إنه تم ضبط 808 أشخاص في طريقهم إلى ليبيا بطريقة غير شرعية، وألقت القبض على 9 من تجار البشر. بل إن وزير الدولة بالخارجية السودانية قال إن المبلغ الذي خصصه الاتحاد الأوروبي لدعم السودان بنحو 100 مليون يورو لا يكفي، فبينما تلهث الخرطوم وراء تقديم نفسها كشرطي يحمي ظهر أوروبا من موجات المهاجرين من إفريقيا، لا تعير في الوقت نفسه أي اهتمام لمشكلة داخلية تهدد الأمن القومي.. لذا تجد الاتهامات الموجهة للحكومة بأنها تتعمد فتح أبواب الهجرة أمام الكوادر المدربة والشرائح النخبوية سعيا لتخفيف الضغط السياسي والاقتصادي عنها آذانا صاغية. وأوروبا في سعيها المحموم لوقف اللاجئين مدت جسور التعاون مع السودان الدولة الموسومة برعاية الإرهاب من جانبها، وتفرض عليها أوروبا بجانب الولاياتالمتحدة عقوبات قاسية منذ عقود، وتحدثت الصحافة الألمانية عن اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والخرطوم من أجل ضبط الحدود ومنع مرور اللاجئين إلى ليبيا. إن الضغوط الاقتصادية والمعيشية والأمنية والسياسات الطاردة لم تدع خيارا أمام السودانيين سوى هذه الهجرة المحمومة لبلد غني بكل صنوف الموارد الطبيعية، ليملأ الفراغ الطفيليون الذين وجدوا في الفساد بيئة ملائمة.. لقد فشل السياسيون السودانيون في إدارة وطنهم وأورثوا شعبهم الفقر والمسغبة وأصبح شعبا هائما على وجهه يطرق أبواب الدول الأخرى.