يبدو أن هناك أكثر من سودان.. هناك السودان الذي نعيش فيه ونعرفه ونحسه، لكن هناك أكثر من سودان في أجهزة الإعلام الحكومية ومنتجاتها، وهو سودان افتراضي، ترسمه الخيالات الجانحة وتصوغه الأمنيات الكاذبة والرغبات غير المتحققة. تسمع نشرات الأخبار، وتقرأ بعض الصحف وتقارير وأخبار ذلك المركز الصحفي، فتحس إنك وهم تعيشون في وطنين مختلفين لا يلتقيان حتى في الأحلام. تتابع المسيرة التي أقيمت بمناسبة الحوار الوطني، وبغضّ النظر عن الطريقة التي تم بها الحشد، إلا أنها قطعا كانت أكبر مما توقعه الناس ومن قدرة الإنقاذ في تنظيم المسيرات والحشود في الفترة الأخيرة، ثم تقرأ الصحف وتسمع الأخبار فتجدها تتحدث عن مئأت الالوف التي خرجت في ذلك اليوم الأغر. لدينا طريقة بلدية جدا في تقدير الحشود، لا تخضع لأي معايير أو مقايسات معروفة، رغم أن الوكالات والصحف العالمية طورت من خبرتها في هذا الأمر وصارت أكثر قدرة على تقدير حجم أي حشد، بقياس مساحة المكان ومستوى الحشد في المتر المربع. تابعنا إضراب الأطباء حتى انتهى باتفاق يمكن وصفه بأنه تاريخي، وسكتت أصوات الأيام الأولى التي كانت تصفه بأنه محدود ومن تنظيم الحزب الشيوعي. وشاهدنا كيف امتلأت الشاحنات، خلال أربع وعشرين ساعة، بالأجهزة والمعدات الطبية والأدوية، ووقفت تصطف أمام بوابات مستشفيات الخرطوم. عمّ الإضراب كل المستشفيات في العاصمة والأقاليم، وانضم أطباء مستشفيات تتبع للقوات النظامية المختلفة. وجد الإضراب تعاطفا كبيرا من جموع الناس المتضررين لأنهم اقتنعوا أنه من أجلهم ولمصلحتهم، وحقق في النهاية هدفه. وما أن لاحت بوادر تفهم الدولة للأسباب وأعلنت التزامها بمعالجة الأوضاع حتى قررت اللجنة المركزية للأطباء رفع الإضراب. هكذا كان الحال حين غادرت الخرطوم بعد يومين من رفع الإضراب، ثم ما أن تابعت مواقع الصحف ونشرات الأخبار حتى وجدتهم يتحدثون عن إضراب حدث في كوكب آخر، وهو، حسب تعبيراتهم، إضراب محدود نفذه بعض الأطباء الشيوعيين (تاني!!)، ولكن، وهنا تأتي مصادر الدهشة، نجح رئيس اتحاد الأطباء فلان الفلاني في إقناع السلطات بالاستجابة لمطالب تحسين المستشفيات وقرر رفع الإضراب! أها "في ذمتكم" موش دة إضراب غير الذي شهدناه، وفي بلد غير التي نعرفها ونعيشها، اتحاد الأطباء ورئيسه رفعوا الإضراب، طيب موش قال أول التقرير أن الإضراب نفذه أطباء شيوعيون، فهل رئيس اتحاد الاطباء أيضا شيوعي، أم أن هؤلاء الحفنة من الأطباء الشيوعيين قد تابوا على يديه…وحسن إسلامهم. في كل الدنيا إعلام يقلب الحقائق ويزوّرها ويحاول إعادة رسم الواقع على هوى مموليه وأولياء أمره، لكن من البديهي أن من يقومون بهذا العمل يجب أن يكونوا أذكى من الجمهور الذين يريدون إقناعه، وأكثر قدرة على التزويق والإبداع حتى يقدموا رسالة جاذبة. من الإهانة لذكاء الشعب السوداني وخبرته التاريخية أن يحاول أفراد أقل ذكاء منه أن يقنعوه بأن الحقيقة غير الحقيقة، وأن الواقع غير الواقع. التيار