د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرقص في السودان: الهوية المنسية .. منظور ثقافي جمالي (2-4)
نشر في حريات يوم 28 - 10 - 2016


القيم الجمالية في الرقص
معروف في علم الفولكلور أن الأدب الشفاهي oral tradition هو المستودع الذي يشمل فلسفات ورؤى الجماعات غير الكاتبة. كذلك ليس هناك من هذه الجماعات من لم تتحدث وتنظّر حول الفن الذي تمارسه. والأدب الشفاهي للجماعات السودانية زاخر بالأمثال والحكم والصيغ والأشعار التي تلخص رؤاهم الجمالية ومعاييرهم الفنية ومفاهيمهم النقدية. من جانب آخر، ظهرت دراسات قيمة أسهمت في إرساء مداخل نظرية وجمالية تكشف عن طبيعة الرقص الأفريقي بشكل عام وتميزه،الأمر الذي يمكن أن يعيننا في إلقاء الضوء على الرقص عندنا.يقول عالم الموسيقى جيرهارد كوبك في تحليله لمفهوم الموسيقى في الثقافات الأفريقية بشكل عام أن المفهوم الأفريقي للموسيقى يتضمن ثلاثة عناصر لا تنفصل عن بعضها وهي السماعي aural والحركي kinetic والبصري visual. ويقول واصفاً الرقص الأفريقي، "هناك إختلاف أساسي بين ثقافات الرقص عند الأفارقة وتلك التي في النصف الشمالي من عالمنا، إذ تميل الأخيرة إلى إستخدام الجسم الإنساني ككتلة واحدة بينما يبدو في الأداء الأفريقي منقسماً إلى عدة نطاقات أو مراكز بدنية مستقلة." فالجسم الانساني في الرقص الافريقي بحسب تعبيره، "متعدد المراكز polycentric" و"مرتكزات الإنطلاق multifocal" و"الطبقات multi-layered"، وتشمل إيقاعية الحركة كل أجزاء الجسم مع تفاوت في التأكيد والتركيز.(Kubick 1994) ويضيف منظّر آخر وهو سير ركس نتلفورد واصفاً الرقص الأفريقي بأنه "عضلي الطابع muscle-toned" و"رياضي athletic" و"دائري swirling" و"إنثنائي writhing" و"منطلق flat-footed" و"حيوي highly energetic". (Nettleford 1996)
مفهوم الموسيقى الأفريقية كما حدده كوبك ينطبق تماماً مع مفهوم الموسيقى عند مجموعة الشايقية في إرتباطه المباشر بمفهوم الرقص. كما أن التشريح العام للرقص عند هذه المجموعة يتطابق أيضاً مع وصفه لبنية الرقص الأفريقي. في ضوء هذه المقارنة، إذن، نحاول توصيف أداء الرقص عند المجموعة وماهية القيم الفنية والجمالية التي ينبني عليها.
في كل أشكال الرقص التي أشرنا إليها سابقاً تنسجم حركة الراقصة أو الراقص في قوتها وتنويعها مع الإيقاع مستجيبة بإستمرار إلى إرتجالات الملك وتعديله في درجة ونوع العزف. في نفس الوقت تحتفظ الراقصة بإنسجامها مع الكورس، أي الصفاقين، تتبع تحركهم وإنتقالهم داخل وحول الدارة، وعادةً ما تفرض الراقصة الماهرة أسلوبها الخاص على الملك والكورس، وعندها يستجيب هؤلاء لقيادتها ويحولوها إلى حوار مبدع فيه كثير من التنوع والإرتجال، ومن المعتاد كذلك أن يفسح المجال للراقصة المتميزة لإظهار مهاراتها في أداء منفرد وحدها داخل الدارة. وكثيراً ما نجد في أمثال وأشعار هذه المجموعة وصفاً وتحليلاً بليغين للرقص يلخص طبيعة الأسلوب والحس الفني المرتبط به ويشير إلى المعايير الجمالية السائدة والتي ينبني عليها هذا الأسلوب. وفي الأبيات التالية التي يتغنى بها الفنان المرحوم عثمان اليمني ضمن أغنيته الشهيرة "ست الودع"يصف فيها الشاعر أداء إحدى الراقصات المبدعات:
جانا نازل وعام متفدع
ويرقص الرقص اليبدّع
وفيهو يتفنن ينوّع
ومرة يبطئ ومرة يسرع
………………………
جرّ توبو وللصف تِبع
وفوق سدرو وقّالنا المدافع
عاد لينا حق كان نتخلع
وننطقش لامن نوقّع
من ناحية أخرى، يشكل أداء المغني وموسيقى الطمبور إلى جانب التصفيق وتوقيع الأرجل الإطارالموسيقي الكلي للحركة الراقصة. وللصفاقين دور أساسي في الرقص. وما نراه في الواقع هو إنسجام وإنسياب في غاية الدقة بين حركة الأقدام ومشيها وضربات الأرجل والتصفيق، وهي مهارة وحرفية صعبة تكتسب بالتدريب ويؤديها الصفاقون وقوفاً أومتحركين بأشكال مختلفة في الدارة مع الراقصات. فضربات الأرجل هي بداية الترجمة الجسدية لإيقاع آلة الدليب – (وهذا ماتفعله الراقصة أيضاً لحظة دخولها للدارة) –كما أن الصفقة هي المعادل الموسيقي لهذا الإيقاع وكلاهما، أداء الأرجل والصفقة، يشكلان آلية الإستجابة البدنية الراقصة للصفاقين ويخلقان من ثم الإطار العام لرقص الدليب،بتجسيدهمللعناصر الثلاث، السماعي والحركي والبصري، والذي تجول فيه الراقصة أو الراقص.أما الحضور من حول الدارة فهم بالطبع جزء فاعل في الحفلة، غالباً ما يشاركون بشكل مباشر ككورس خارجي في الغناء والتصفيق، بينما يشكل زغاريد النساء خلفية موسيقية متصله ترتفع وتنخفض بناءً على ما يجري داخل الدارة. في كل أنواع الرقص عند الشايقية يتم تحريك وتوظيف كل أجزاء الجسم والتي تعمل في إتساق متبادل بحيث ينتقل مركز الحركة إبتداءً من القدم إلى الخصر لينتهي في دفعات قوية وحادة عند الصدر. هناك بالطبع إختلاف واضح في شكل هذه الحركة وخط سيرها بين أداء المرأة والرجل على الرغم من المشابهة في التكوين العام للحركة. وللرقص أصول ومبادئ يجري تلقينها للفتيات منذ الصغر أثناء التدريب والتعلم، وهناك الكثير من الأقوال والأمثال التي تلخص هذه المبادئ، مثل القول في وصف الرقص بأنه "قوة عين وإنفداسي"؛ والمعنى المقصود هنا أن لا بد من توفر الثقة "قوة العين" لدى الراقصة حتى تشرع في فعل الرقص معتمدةً على إتقان أسلوبها وكاريزمتها في عرض فنها على الحضور. أما "الإنفداسي" فهي وصفة لمبتدأ وضعية الجسم لحظة إنطلاق الحركة في إشارة إلى ثني الجسم ومرونته لإبراز الصدر والكفل. ومن أكثر الأمور إحباطاً أن تكون الفتاة بطبعها فاقدة للزمن الموسيقي وبالتالي إستحالة ترجمتها إلى حركة راقصة، كما هو الحال عند كثير من الناس، فهي في هذه الحالة طرقي بلهجة الشايقية أي شتراء، وهو وصف جمالي معروف لكنه بمثابة الكارثة عندأمثال هذه الفتاة، خاصةً إذا تعمقنا أكثر في مكانة ودور الرقص. فالرقص،كما ذكرنا، له تقاليد ووظائف، فهو منصة جمالية يقال ويمارس فيها الكثير بحسب مستودع كل شعب من فكره وفنونه. ويمكن أن تشكل دارة الرقص السودانية مبحثاً غنياً في طرافته وعمقه. فمثلاً من أروع ما يمارس في هذه الدارة منح الشبال من جانب الراقصة. فالشبال لغة ورسالة ذات معاني متعددة إبتدعتها المرأة السودانية. بمكن أن يكون الشبال رسالة تقدير وإجلال أو رسالة حب وقبول أو رفض وعزوف إن إمتنعت الراقصة في منحه في سياق معين، إلخ. وكم من أسر تكونت وإمتدت وتفرعت لم يكن مؤسسها غير ذاك الشاب الذيهدّ كتفه وبصم على قلبه وعقله شبال تلك الفتاة التي صالت وجالت في الدارة فتحول من معجب إلى عاشق وإلى زوج. وهذا شاعرنا محمد ودالرضي إنفعل بجمال ورقص إحدى الحسان فارتجل هذه الأبيات وهو يخطو في الدارة لطلب شبالها:
الكتوف واقعة
والعيون يا ناس مويتن ناقعة
الوجن قادحات في الظلام فاقعة
راجي شبالة وراضي بي صاقعة
وأساليب الرقص الشعبي عادةً ما تتطور وتكتسب عمقاً جديداً في أدائها وتقنياتها بالإضافة والتعديل لكن في إطار البنية الشكلية الأساسية القائمة، ذلك أن التحولات الأسلوبية المفاجئة والمفارقة نادراً ما تحدث في الفنون التقليدية. كذلك لابد من النظر إلى أهمية الإبداع الفردي في التحولات الأسلوبية الهامة. ويمكن القول أن كل ما نعرفه عن ميكانزمات الإبداع الفني لدى الفنان، في كل الأنواع الفنية، من إنتباه وإنشغال وتجريب وإستبطان للخبرات الأسلوبية والتكنيكية المتراكمة عنده وعند غيره، وما يقع له من إيحاء وشوارد ومن حلول لحظية أو من خلال أوقات تطول أو تقصر فيها عمليات الحضانة والتخمير والنضوج، وما إكتسبه من خيال مدرب يجول به مستكشفاً إضافة هنا أو نقلة أسلوبيه كاملة هناك، إلخ كل ذلك يحدث للفنان الشعبي. وهناك أيضاً فنانين شعبيين أصحاب مدارس فنية أو تطور أسلوبي معين إرتبط بأسمائهم، مثال ذلك النعام آدم الذي أحدث نقلة هائلة في موسيقى الطمبور عند هذه المجموعة. فالنعام موسيقار وملحن عبقري ذو نباهة، أسهم في تطوير وإغناء هذه الموسيقى معتمداً على مهارة غير مسبوقة في العزف وعلى دراية بثقافة المنطقة وموسيقاها مكنته من إختيار نصوص ألحانه من أفضل شعراء المنطقه فجاءت ألحانه تطويراً وتنويعاً للقالب الميلودي الأساسي لموسيقى الطمبور لتلك المنطقة دون الخروج على الإيقاعات التقليدية وإن وظفها بحنكه ضمن مبناه اللحني العام.
وهناك تطور تقني عام، وهو ظهورالمايكروفون، كان له أثره البعيد في الموسيقى والرقص، وقد إستجاب فنانو المنطقة، خاصةً النعام آدم وعثمان اليمني، لهذا التطور ووظفوه بشكل مبدع في إنتاجهم. فظهور المايكروفون أتاح الفرصة كاملة لموسيقى الطمبور والغناء للمشاركة بفعالية إلى جانب آلة الإيقاع الرئيسية، الدليب، والذي كان من قبل طاغياً بطبيعة الحال على صوت الطمبور والمغني. فإلى جانب إزدياد مشاركة الكورس في الغناء مع المغني بحسب التوزيع اللحني أصبح للكورس دوراً مزدوجاً، فهم كورس غنائي خلف المغني وفي لحظات معينة، يقررها المغني أثناء الأداء، ينتقلون إلى داخل الدارة كصفاقين يتحاورون مع الراقصة، خاصة المتميزة والتي عادةً ما يستجيب لأدائها المغني بتغييره نبرة اللحن لتصبح أكثر إيقاعيةً في طابعها ويستجيب له كذلك عازف الطبل بالتركيز على هذا المجرى الإيقاعي للطمبور. هذا وقد تغير كذلك شكل الدليب، فلم تعد تلك الآلة التقليدية في هيأتها وطريقة صنعها، إذ أمكن الإستعانة بالآلات الحديثة بعد تعديلها لتتوافق مع الأداء المطلوب وإنتاج الأيقاعات التقليدية الأساسية.
كذلك، من السهل ملاحظة مستوى الشبه والتطابق أحياناً بين رقص الشايقية وأشكال الرقص عند جيرانهم المتحدثين بالنوبية، الدناقلة والمحس. فكل العناصر المكونه للرقص موجودة هنا، لكن هناك إختلاف في البناء الحركي للرقص وفي تنوع أجناس الرقص. ويبدو الإختلاف واضحاً في إستخدام الشايقية لطبول أكبر حجماً كما يتميزوا بتعدد أشكال الرقص وتنوع الأساليب وبدرجة أعلى من كثافة الحركة وعنفها.
الأصول الثقافية والجمالية للرقص
البحث في أصول وتطور الرقص عند هذهالمجموعة يتطلب مدخلاً ثقافياً ومنظوراً جمالياً تحليلياً ربما يساعدا في قراءة تجنبنا على الأقل مزالق الإسقاط. فالرقص، تاريخياً، مارسه إنسان ما قبل التاريخ في كل الثقافات، وصار فناً مكرساً له أصوله وطقوسه وتقاليده في الحضارات القديمة بما فيها الحضارة السودانية، كما تشهد بذلك الرسومات المنتشرة في الآثار السودانية والمصرية.ومن أولى الدراسات التي بحثت في الرقص المصري القديم إعتماداً على الآثار التاريخية كانت دراسة إيرينا لكسوفا، وفيها إعتمدت على الصور والرسومات التي تبين بوضوح ممارسة الرقص، ويمكن ملاحظة الطابع البدني الرياضي في بعض الرقصات، هذا ومن الوارد تماماً أن تكون لأساليب الرقص السوداني في ذلك الوقت أثرها في ذلك الرقص. هذا وتبين الدراسة أنواع الرقص ومناسباته مثل الرقص الديني الشعائري والجنائزي ورقص الفرح والرقص الخاص بالطبقة الحاكمة والآخر الشعبي. (Irena Lexova 2003). وفي تاريخنا القريب نجد أوصاف الرقص والراقصات وآلات الموسيقى، مثل الطمبور، كما أوردها صاحب الطبقات مثلاً في سيرة إسماعيل صاحب الربابة(طبقات ودضيف الله). وعند النظر في مصدر البنية الحركية الأساسية التي قام عليها وتطور الرقص عند الشايقية يمكن الإستهداء بالمباحث الجمالية والفولكلورية التي تناولت فن الرقص. والقاعدة الأساسية في دراسات الفولكلور أن الأساليب الفنية تنشأ وتتطور كتعبير عن معاني هي من صميم حياة الجماعة وطبيعة معيشتهم وما أفرزته من مفاهيم ورؤى ومعتقدات وقيم. فالعديد من الدراسات بينت أن الرقص في كثير من الثقافات إرتبط بالجانب الإقتصادي أو الإعتقادي في حياة الشعوب والجماعات. يقول عالم الإستطيقا سبارشوت في هذا الصدد أن "الرقص في حد ذاته مؤشر إلى الحياة أو أفكار مشتقة منها وذلك تركيزاً على أكثر أنماطها قوة وفعالية والتي دائماً ما تنجح في إحياء ودفع النشاط اليومي لأغلب الناس في الثقافة المعينة… ويتكون الرقص عادةً من تلك الإيماءات والأوضاع وخواص الحركات الأكثر تمييزاً لها والأكثر أهمية للنشاط اليومي." إنتهى نص سبارشوت. لذلك ليس بمستغرب أن نجد التركيب العام لحركة الرقص عند كثير من الشعوب مشتقاً من حركة الحيوان الذي يشكل عنصراً مركزياً في وسيلة معيشتهم، أو محاكاةً لنمط أدائي متكرر في نوع الإنتاج الاقتصادي، أو تمثيلاً لسلوك متخيل لقوى غيبية، إلخ. وغالباً ما تبدأ بنية الرقص كحركة بسيطة في تكوينها وأدائها ثم تتطور إلى أسلوب فني أكثر تعقيداً ربما يحمل أو لا يحمل في سياق تطوره معالم واضحة من أصوله الأولى المشتق منها. لذلك يمكن الإفتراض، مع كثير من الثقة، أن بنية الرقص الأساسية عند الشايقية مستوحاة، في شكلها ومضمونها، من حركة الفرس. ذلك أن الإطار العام للحركة في رقصهم، خاصة في الأداء الكلاسيكي التقليدي، تبدو بالفعل مشتقة من مشية الفرس وتكوين حركته الناتجة عن بنية جسده، خاصةً نتوء الصدر وإستقامة العنق وتوجه الرأس إلى أعلى مع تبختر وتوقيع القدمين وخطفاتها والإنتقالات الرشيقة في المكان بتوجيهات الفارس الذي يمتطيه. وهذا ما يستثير لدى الناظر جملة من القيم الإنسانية مثل الجمال الجسماني وقوة البدن، وخصال مثل الوقار والإعتزاز بالنفس. كذلك يستثير جمال جسم المرأة الذي إشتمل على قوام فارع وممشوق وعلو في الصدر وإستقامة العنق، يستثير إجتماع وتناغم الأنوثة والقوة، وكثيراً ما توصف مثل هذه المرأة بالمهرة كناية عن قرائن الشبه بينها وبين الفرسة في مظهرها وحركتها، ويدعم هذا الوصف والتحليل أدب وغناء هذه المجموعة، مثال ذلك ما جاء في إحدى أغنيات عثمان اليمني:
سمح مضمور حشاها نحيف
عالي سديرة والعين سيف
سمحة رقيص من غير تكليف
مرة تقيل ومرة خفيف
زي المهرة وكت تقيف
تسطّل للعقول بالكيف
يصف شاعر الأغنية الراقصة بأنها ضامرة "حشاها نحيف"، غير متكلفة في أدائها كدليل على تمكنها وبراعتها، واصفاَ تنوع الحركة في أسلوبها بين التهدئة والإسراع، وعندما تقف تكون في وقفتها أشبه بالمهرة، والوقوف هنا تكنيك في الرقص إذ تظل الراقصة في مكانها للحظات مع إستمرار الجسم في حركته الراقصة، وهنا يكاد الناس يفقدون عقولهم إستمتاعاً برقصها.
وهذه أغنية أخرى يتغنى بها نفس الفنان:
بلادي الصفقة والطمبور
وداراتن تنحْ في الليل
وبنوتن تحاكي الخيل
يشابن زي جنيّ الريل
وشبالن مكنتل في طريفو ودع
ويلاحظ في هذه الأبيات إقتران لفظة "بلادي"، وهي إشارة إلى الموطن المحلي، مع كلمتي "الصفقة والطمبور" وفي ذلك إستشعار الشاعر وترميزه لهوية الثقافة المحلية، وهذا ما يؤكد مكانة الموسيقى والرقص لدى هذه الجماعة – كما لدى بقية المجموعات السودانية الأخرى- باعتبارها النوع الفني الأكثر إلتصاقاً وتعبيراً عن روح وعقل هذه المجتمعات. كذلك إستخدام الصفقة والطمبور كمضاف ومضاف إليه يعني الإرتباط العضوي الوثيق بين الرقص والموسيقى في الفكر الإستطيقي لمجموعة الشايقية. هذا إلى جانب الشبال كعنصر هام في الأداء.
ومن الممكن ربط تفسيرنا هذا لأصل الرقص ومصادره بالرجوع الى تاريخ هذه المجموعة وطابع حياتها الحربي المرتبط بهذا الحيوان حتى لحظة الغزو التركي للسودان في 1820. وعادةً ما نجد مثل هذا الإرتباط بين بعض هذه القيم والحيوان الذي يوحي بها لدى العديد من الجماعات السودانية وإنعكاس ذلك في موسيقاهم ورقصهم كما سنتناوله بشئ من التفصيل في بقية هذا المقال. فالحصان عند هذه المجموعة عنصر محوري في جانب أساسي من حياتهم الماضية، خاصةً وهي إحدى الشياخات الهامة في المنطقة والتابعة لسلطنة الفونج، لكن إضطراها موقعها الجغرافي عند هذا المنحنى من النيل وبعده عن طرق التواصل التجارية إلى التمرد والإستقلال عن مملكة الفونج بقيادة زعيمهم عثمان ودحمد في القرن السابع عشر، وكذلك محاولة التمدد خارج حدودها وسيطرتها على مناطق وجماعات أخرى إلى الشمال والجنوب، كما تقول بعض الدراسات التاريخية. فهذا الطابع الحربي وإرتباطه بالحصان كآلة حربية معروفة يؤدي إلى مستوى من الترابط والإيحاء بين الحصان وتكوينه وطبائعه وبين القيم التي تنامت من واقع حياة الجماعة مما أدى إلى الإستلهام الفني والجمالي معبراً عنه في فن الرقص وأسلوبه عندهم، علماً بأن رقص هذه المجموعة يشترك في إطاره الموسيقي والحركي العام، كما ذكرنا، مع جيرانها إلى الشمال، إلا أن ما يطرأ من تطورات وتغيرات محلية في حياة المجموعات عادةً ما ينعكس أيضاً في فنونها، وهذا ما يميز طابع القوة والعنف في الإيقاع والرقص عند هذه المجموعة عن جيرانها. نواصل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.