1 بدأنا في المقالين السابقين مناقشةَ مسألةَ التدخّل الأجنبي في قضية جنوب السودان، والردَّ على الادعاء أنه كان السببَ الرئيسي لانفصال الجنوب، وأوضحنا أن مسئوليّة الانفصال تقع كاملةً على القوى السياسية الشمالية. كما ذكرنا في المقالين السابقين أيضاً، فإن المحطّاتِ الرئيسية التي وافقتْ فيها الأحزابُ الشمالية، حكومةً ومعارضة، على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، كانت محطاتٍ سودانيةٍ بحتة لا دور فيها للتدخّل الأجنبي أو للضغوط الغربية أو من دول الجوار. فقد وافقتْ حكومة الإنقاذ على حق تقرير المصير في فرانكفورت عام 1992، ثم عادت وأكّدته في اتفاقية الخرطوم للسلام عام 1997. ووافقتْ أحزاب المعارضة على حق تقرير المصير عبر سلسلسة من الاتفاقيات مع الحركة الشعبية، ثم أكّدتْ موافقتها في إعلان أسمرا – مؤتمر القضايا المصيرية لعام 1995. عليه فقد اندهش وسطاء الإيقاد عندما رفضت حكومة الإنقاذ مبادئ الإيقاد التي انبنت على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وعندما قرّر وفدها الانسحاب من المبادرة في شهر سبتمبر عام 1994. حدث ذلك الرفض والانسحاب على الرغم من موافقة الحكومة على حق تقرير المصير في فرانكفورت عام 1992، وعلى الرغم من دعوتها الإيقاد للتوسّط. 2 في حقيقة الأمر فقد تأرجّحتْ سياساتُ حكومة الإنقاذ في تعاملها مع مشكلة الجنوب بين إعطاء الأولوية للتصعيد العسكري، أو البحث عن السلام، اعتماداً على الحقائق على أرض المعركة في جنوب السودان. ففي الفترات التي كانت يدُ الحكومة هي العليا في الحرب اختفتْ مسألة البحث عن السلام من أسبقيات الحكومة، واختطف جناحُ الصقور داخل الحزب الحاكم زمامَ المبادرة، وصعّدوا الحرب في جنوب السودان. وكان هذا هو ما حدث في سبتمبر عام 1994 عندما قرّرت حكومة الإنقاذ الانسحاب من مفاوضات الإيقاد في الجولة الرابعة في سبتمبر عام 1994. فقد أعلن الدكتور غازي العتباني رئيس وفد حكومة الإنقاذ خلال تلك الجولة "إن حق تقرير المصير لجنوب السودان ليس لديه أي سندٍ قانونيٍ أو سياسي، ولن يقدّم حلّاً للمشكلة، وإن تقرير المصير أو أي تعبيرٍ آخر من الممكن أن يعني الانفصال هو ليس قضية، وإن الحكومة غير مستعدةٍ للتداول حوله." 3 غير أن الوضع العسكري في جنوب السودان بدأ في التغيير لصالح الحركة الشعبية في عام 1996. وفي شهر أبريل عام 1997 وقّعت الخرطوم على اتفاقية الخرطوم للسلام مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية الأم. وقد أكّدت تلك الاتفاقية حق شعب جنوب السودان في تقرير مصيره. لهذه الأسباب وأسباب أخرى قرّرت حكومة الإنقاذ العودة لوساطة الإيقاد والغاء قرار رفض المبادرة الذي أوصلته لسكرتارية الإيقاد في سبتمبر عام 1994 خلال جولة المفاوضات الرابعة. 4 التقى السيد رئيس الجمهورية برئيس الوزراء الإثيوبي السيد ميليس زيناوي في شهر يوليو خلال المؤتمر السنوي لمنظمة الوحدة الأفريقية لعام 1997، وأثار معه مسألة إحياء مبادرة الإيقاد وتفعيلها. وافق السيد زيناوي على لعبِ الإيقاد لدور الوسيط مرةً ثانية. بعد اتصالاتٍ مع الأطراف الثلاثة الأخرى للمبادرة (كينيا ويوغندا وإريتريا) وأصدقاء الإيقاد (الولاياتالمتحدةالامريكية وبريطانيا والنرويج) اتفقت الأطراف على إحياء وساطة الإيقاد، وبدء الحلقة الثانية منها. بدأت تلك الحلقة الثانية بالجولة الأولى من المفاوضات في شهر نوفمبر عام 1997. وقد قرّرت الإيقاد اعتباره تلك الجولة الخامسة مواصلةً للجولات الأربعة الأولى تحت مظلة الحلقة الأولى من المفاوضات. 5 دارت الجولة الخامسة من مفاوضات الإيقاد بين الحكومة والحركة الشعبية الأم في نيروبي في شهر نوفمبر عام 1997، وقد قاد الوفد الحكومي السيد علي عثمان محمد طه الذي كان وقتها وزيراً للخارجية، وشمل الوفد الدكتور رياك مشار رئيس مجلس تنسيق الولاياتالجنوبية (بعد توقيع اتفاقية الخرطوم بينه وبين حكومة الإنقاذ، وتعيينه مساعداً لرئيس الجمهورية)، والدكتور علي الحاج، والسادة محمد الأمين خليفة الأمين العام للمجلس الأعلى للسلام، وأحمد إبراهيم الطاهر، وقطبي المهدي، وأروك طون أروك، وعبد الله دينق، وأنجيلو بيدا. قاد السيد سلفا كير وفد الحركة الشعبية الذي شمل السادة اليجا مالوك، ودينق الور، وجستين ياك، ونيال دينق نيال، وباقان أموم، وسامسون كواجي. طالب الوفد الحكومي عند بدء المفاوضات بالتركيز على النظام الفيدرالي باعتباره مطلب الجنوبيين منذ عام 1947، ورفض اعتبار تقرير المصير حقّاً إنسانياً، ووصفه بانه قرار سياسي. حدث هذا رغم توقيع حكومة الإنقاذ قبل أشهر قصيرة على اتفاقية الخرطوم للسلام التي اشتملت على حق تقرير المصير لجنوب السودان. أصرّت الحركة على حق تقرير المصير ليس فقط لجنوب السودان بل ليشمل أيضاً ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. رفض الوفد الحكومي ذلك رفضاً قاطعاً، ووجد الوفد تلك فرصةً للتراجع عن حق تقرير المصير حتى لجنوب السودان طالما ربطته الحركة بمناطق شمالية. 6 فشل الطرفان في التوصّل لاتفاقٍ في مجموعة قضايا أخرى. فقد طالبت الحركة بنظامٍ كونفيدرالي خلال الفترة الانتقالية، بينما أصرّت الحكومة على حكمٍ ذاتيٍ محدود، وأوضحت أن مبادئ الإيقاد لا تتحدّث عن الكونفيدرالية. طالبت الحركة بقيام حكومة وحدة وطنية ونظامٍ ديمقراطيٍ تعدّدي خلال الفترة الانتقالية، واعترضت الحكومة بحجّة أن هذا المطلب خارج مرجعية التفاوض. كما كان هناك خلافٌ حادٌ في مسألة الدين والدولة. فبينما أصرّتْ الحركة على مبادئ الإيقاد التي نادت بعلمانية الدولة السودانية، تذرّعت الحكومة بأن النظام الكونفيدرالي الذي تطالب به الحركة يحتّم على الحركة عدم التدخّل في شئون الدولة الأخرى، بما في ذلك شمال السودان، علماً بأن الوفد الحكومي رفض النظام الكونفيدرالي. 7 فشلت سكرتارية الإيقاد للتفاوض في تقريب وجهات النظر حول هذه القضايا الخلافية الكبيرة. كان واضحاً أن أحد أهداف الحركة الشعبية هو إرضاء حلفائها في التجمّع الوطني الديمقراطي بإثارة مسألة العودة للنظام السياسي التعدّدي، وتكوين حكومة قومية عريضة، وهذا ما كانت تتخوّف منه حكومة الإنقاذ وترفضه. من الجانب الآخر رفضت الحكومة علمانية الدولة، وتذرّعت بأن مطلب الحركة للكونفيدرالية يجرّدها من حق التدخّل في القوانين التي تُطبّق في الشمال. لكن لا بد من التساؤل كيف يمكن للحكومة التي رفضت النظام الكونفيدرالي أن تتذرّع به؟ 8 وهكذا برزت نقاط خلاف جديدةٍ حادّة بما فيها مسألة تقرير المصير لشعب جنوب السودان التي كان الوسطاء يعتقدون أنها قد حُسِمتْ باتفاقية الخرطوم للسلام واتفاق فرانكفورت، وقبول حكومة الإنقاذ لمبادئ الإيقاد. إزاء هذا الفشل قرّرت سكرتارية المفاوضات إصدار بيانٍ أوضحت فيه نقاط الالتقاء، وكذلك نقاط الخلاف والتي ستحتاج إلى مزيدٍ من الجهد ومحاولات تقريب وجهات النظر قبل مواصلة التفاوض. أوضح البيان أيضاً اتفاق الطرفين على عقد الجولة القادمة، والتي هي السادسة، من المفاوضات في شهر مايو عام 1998. 9 لم يكن أيٌ من الطرفين يريد أن يتحمّل مسئولية فشل أو توقّف المفاوضات. عليه فقد بدأت جولة المفاوضات السادسة في نيروبي في الرابع من شهر مايو عام 1998، كما كان مقرّراً لها. وقد قاد وفد الحكومة الدكتور رياك مشار وشمل الوفد الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية، والدكتور علي الحاج، والسادة أحمد إبراهيم الطاهر، وقطبي المهدي، وأحمد علي الإمام. قاد وفد الحركة الشعبية السيد نيال دينق نيال، وشمل السادة جون لوك، وجستين ياك، واليجا مالوك، وباقان أموم، وياسر عرمان، وعبد العزيز الحلو. يُلاحظ أن الطرفين لم يعطيا هذه الجولة من المفاوضات الأهمية التي أعطياها للجولة السابقة. فقد تخلّف السيد علي عثمان محمد طه، والسيد سلفا كير عن قيادة وفديهما. كما تغيّب السيد محمد الأمين خليفة من وفد التفاوض الحكومي لأول مرة منذ عام 1989 (عدا مفاوضات فرانكفورت التي لم يشارك فيها). شمل وفد الحركة الشعبية عدداً من الشماليين، كما شمل وفد الحكومة عدداً من الجنوبيين وكان هذا دائماً مثار دهشة وسطاء الإيقاد وشركائهم. غير أن اختيار الدكتور رياك مشار لقيادة الوفد الحكومي لم يكن خطوةً موفقة على خلفية الخلافات الحادة بينه وبين قيادات الحركة الشعبية الأم، والتي كانت قد أخذت طابعاً شخصياً، وساهمت في تعقيد عملية التفاوض. 10 رأت سكرتارية التفاوض التركيز على نقطتي حق تقرير المصير وعلمانية الدولة، ولكن هذا لم يساعد في أيّ تقدّمٍ في عملية التفاوض لأن كلّاً من الوفدين أصرّ على مواقفه التي تبنّاها في الجولة السابقة. أثارت الحكومة مسألة النظام الفيدرالي باعتباره مطلب الجنوبيين الأصلي، ورفضت اعتبار حق تقرير المصير حقاً إنسانياً كما فعلت في الجولة السابقة. أصرّت الحركة عل حق تقرير المصير ليس فقط لجنوب السودان، بل ليشمل أيضاً ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وهذا ما رفضه الوفد الحكومي. طالب وفد الحركة بعلمانية الدولة السودانية وإلغاء قوانين سبتمبر كما قضت بذلك مبادئ الإيقاد، وقد رفض الوفد الحكومي هذا المطلب أيضاً. إزاء هذا التعنّت من الجانبين أعلن رئيس الجلسة الدكتور بونايا غودانا، وزير الخارجية الكيني، انتهاء الجولة السادسة من المفاوضات، على أن تُعقد الجولة السابعة في مدينة أديس أبابا بإثيوبيا. يبدو أن كينيا، مثلها مثل نيجيريا من قبلها، قد بدأ يصيبها الإعياء والانهاك من مشاكل السودان المزمنة، ومن محاولات حكومة الإنقاذ التنصّل من اتفاقياتها والتزاماتها السابقة. 11 انعقدت الجولة السابعة من المفاوضات في 4 أغسطس عام 1998 في أديس أبابا وترأسها السيد سيوم ميسفن وزير الخارجية الإثيوبي. قاد وفد الحكومة الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، بينما قاد وفد الحركة السيد سلفا كير. حضر الجلسة السيد سالم أحمد سالم أمين عام منظمة الوحدة الأفريقية، والسيد بونايا غودانا وزير خارجية كينيا، اللذين خاطبا الجلسة الافتتاحية وحثا الطرفين على إبداء قدرٍ اكبر من المرونة. قرّر الوسطاء التركيز على مسألة تقرير المصير والتفاوض حولها، ومحاولة التوصّل لاتفاقٍ في تفاصيلها قبل الانتقال لمسألة الدين والدولة. تمسّك كلٌ من الوفدين بطرحه السابق. أصرّت الحركة على أن يشمل تعريف الجنوب ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان (بما في ذلك منطقة أبيي)، وأن تمتد الفترة الانتقالية لمدة عامين فقط يُحكم فيها السودان بنظامٍ كونفيدرالي بجيشين ودولتين. لم توافق الحكومة على هذا الطرح وأصرّت على تعريف الجنوب حسب حدود عام 1956، ورفضت الدخول في تفاصيل الفترة الانتقالية قبل حسم مسألة تعريف الجنوب. وانتهت الجولة السابعة دون اتفاق، وحتى دون إصدار بيانٍ من سكرتارية التفاوض. وتمّ الاتفاق على عقد جولة قادمة تحدّد السكرتارية تاريخ انعقادها في وقتٍ لاحق بعد التشاور مع كلٍ من الطرفين. 12 عادت سكرتارية الإيقاد بالتفاوض إلى كينيا، وانعقدت جولة المفاوضات الثامنة في نيروبي في الفترة من 19 يوليو عام حتى 23 يوليو عام 1999. قاد الدكتور رياك مشار الوفد الحكومي الذي شمل الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، والدكتور نافع علي نافع، والدكتور عبد الرحمن إبراهيم، ونفس الأعضاء من أبناء الجنوب الذين شاركوا في الجولة السابعة. وقاد وفد الحركة الشعبية السيد سلفا كير وشمل السادة يوسف كوه مكي، واليجا مالوك، ونيال دينق، ودينق الور، وجستين ياك. حضر هذه الجولة وزراء الخارجية لدول مبادرة الإيقاد الأربعة (كينيا ويوغندا وإثيوبيا وإريتريا). بدأت هذه الجولة بدايةً متعثّرةً بسبب التصريحات الصحفية التي سبقت الجلسات والتي انهالت فيها الاتهامات من كل طرفٍ على الطرف الآخر. ابتدأت الجلسات وانتهت من حيث انتهت الجولة السابقة السابعة في مسألة تقرير المصير وتعريف الجنوب والفترة الانتقالية والدين والدولة والكونفيدرالية. قرّرت سكرتارية الإيقاد للتفاوض أنه لا معنى لمواصلة الجلسات، لأن التفاوض قد تحوّل إلى حوارٍ للطرشان. رفعت السكرتارية الجلسات وأعلنت تعليق التفاوض حتى يتم مزيد من الاتصالات مع الطرفين بغرض تقريب وجهات النظر قبل الدعوة لجولة مفاوضات قادمة. غير أنه لم تقمْ سكرتاريةُ الإيقاد بالدعوة لأيّة جولة مفاوضات بعد ذلك. 13 وهكذا انتهت حلقتا التفاوض تحت مظلة الإيقاد واللتان شملتا معاً ثماني جولات تفاوض. امتدّت هذه الجولات لأكثر من خمسة أعوام، من شهر مارس عام 1994 وحتى شهر يوليو عام 1999، بدون التوصّل لاتفاقٍ بين طرفي النزاع السوداني. ركّزت سكرتارية تفاوض الإيقاد في الجولات الثلاثة الأولى على التوصّل إلى إعلان المبادئ والذي تمّ في الجولة الثالثة في يوليو عام 1994، متضمّناً حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وعلمانية الدولة السودانية. لكن الوفد الحكومي عاد ليعلن رفض الحكومة الرسمي لمبدأ حق تقرير المصير في الجولة الرابعة في سبتمبر عام 1994 رغم توقيع الحكومة على إعلان فرانكفورت. ثم أصبحت مسألة علمانية الدولة السودانية عقبةً أخرى رئيسية في المفاوضات. فعلى الرغم من قبول حكومة الإنقاذ لمبادئ الإيقاد التي تضمّنت مسألة علمانية الدولة السودانية، إلا أن حكومة الإنقاذ تراجعت عن ذلك القبول. وبرزت مسألة ولايتي جنوب كردفا والنيل الأزرق كقضية خلافية أخرى. طالبت الحركة أن يشمل حق تقرير المصير هاتين المنطقتين. رفضت حكومة الإنقاذ ذلك ووجدته فرصةً للتراجع عن حق تقرير المصير لجنوب السودان طالما ربطت الحركة بين الاثنين. 14 رغم الرفض الحكومي فقد مثّل إعلان مبادئ الإيقاد نقطة تحولٍ تاريخية هامة لعملية التفاوض. فقد اختطفت الحركة الشعبية الأم مبادئ الإيقاد حتى قبل إعلانها رسمياً، واستخدمتها بدهاءٍ وحنكة في مفاوضاتها مع أحزاب المعارضة الشمالية، وبنت عليها انتزاعها حق تقرير المصير من كلٍ منهم، فرادى وجماعات. لجأت الحركة الشعبية الأم لمبادئ الإيقاد رغم اتفاق الحكومة السودانية وفصيل الناصر على حق تقرير المصير في إعلان فرانكفورت في يناير عام 1992. لكن الحركة الشعبية الأم تجاهلت ذلك الإعلان وارتكزت على إعلان الإيقاد للمبادئ حتى لا تعطي فصيل الناصر شرف انتزاع ذاك الحق. شملت كل واحدةٍ من اتفاقيات الحركة الشعبية الأم الأربعة مع أحزاب المعارضة الشمالية إشارة واضحة وصريحة إلى حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بموجب مبادئ الإيقاد، بدءاً باتفاقية الحزب الاتحادي الديمقراطي (اتفاقية القاهرة 13 يوليو 1994)، وحزب الأمة (اتفاقية شقدوم 12 ديسمبر 1994)، ثم حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي وقوات التحالف السودانية (اتفاق قوى المعارضة السودانية الرئيسية 27 ديسمبر 1994)، وأخيراً إعلان أسمرا الذي وقّع عليه كلُّ قادة التجمّع الوطني الديمقراطي في 23 يونيو عام 1995 (مؤتمر القضايا المصيرية – قرار حول قضيّة تقرير المصير). تمّت كل هذه الاتفاقيات دون مشاركة أو تدخّل طرفٍ ثالث. 15 من الجانب الأخر فقد سهّل إعلان مبادئ الإيقاد مهمة الفصائل المنشقة من الحركة الشعبية أثناء مفاوضات السلام من الداخل مع الحكومة، رغم توقيع الحكومة وفصيل الناصر على إعلان فرانكفورت الذي اعترف بحق شعب جنوب السودان في تقرير المصير في يناير عام 1992. لكن على عكس اتفاقيات الحركة الشعبية الأم مع أحزاب المعارضة الشمالية، فلم تشر اتفاقيات الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية مع الحكومة إطلاقاً إلى إعلان المبادئ الصادر من الإيقاد. 16 وهكذا عندما بدأ عقد التسعينيات، والقرن العشرون نفسه، في الأفول كانت خطى التفاوض من أجل الوصول إلى السلام في السودان تسير في اتجاهين قد يبدوان للناظر على أنهما متوازيان: الحركة الشعبية الأم وأحزاب ومنظمات المعارضة السودانية من جهة، والحكومة السودانية والفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية من الجهة الأخرى. فمن الجانب الأول كانت أحزاب المعارضة الشمالية قد وافقت كلها في اتفاقياتها مع الحركة الشعبية الأم على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بعد فترةٍ انتقالية تلي اسقاط النظام في الخرطوم. ولأنه لم يكن لأيٍ من هذه الأحزاب، فرادى أو جماعاتٍ، المقدرة العسكرية والسياسية على إسقاط النظام فقد كانت في انتظار أن تقوم بذلك نيابةً عنها الحركة الشعبية. بمعنى آخر كانت المعادلة هي موافقة أحزاب التجمّع على تقرير المصير مقابل إسقاط الحركة الشعبية لنظام الإنقاذ. 17 لم يكن جانب الحكومة والفصائل المنشقّة عن الحركة أكثر اختلافاً عن الجانب الأول. فقد وافقت الحكومة على حق تقرير المصير مع هذه الفصائل بغرض إضعاف وهزيمة الحركة الشعبية الأم وأيلولة أمور الحكم في جنوب السودان لهذه الفصائل. بمعنى آخر كانت المعادلة في هذا الجانب هي تقرير المصير لهذه الفصائل مقابل هزيمة الدكتور قرنق وحركته الشعبية وبرنامج السودان الجديد العلماني الموحّد. ورغم أن تقرير المصير أصبح القاسم المشترك بين الحكومة، وأحزاب التجمّع، والحركة الشعبية الأم، والفصائل المنشقّة عنها، لكن كان واضحاً أنه ليس في مقدور أي من الأطراف الأربعة تحقيق جانبه من المعادلة. فلا الحركة الشعبية الأم استطاعت إسقاط النظام، ولا الفصائل المنشقّة استطاعت هزيمة الحركة الشعبية الأم. 18 مثلما حدث في عام 1993، فقد كانت حكومة الإنقاذ هي التي طلبت تدخّل ووساطة ومساعدة الإيقاد مرّةً ثانية عام 1997. تمَّ هذا الطلب رغم فشل الحلقة الأولى من التفاوض والتي شملت أربع جولات. ورغم فشل حلقتا التفاوض بجولاتهما الثمانية، إلا أن النتيجة الأساسية كانت ترسيخ مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. فقد تأكّد للوسطاء وكل المراقبين للتفاوض أن حكومة الإنقاذ، وكل أحزاب المعارضة الشمالية السودانية، قد وافقت صراحةً وفي اتفاقيات عديدة، وفي دستور السودان، نفسه، على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وأصبح همُّ هؤلاء الوسطاء والمراقبين وقفَ الحرب والإقتتال والموت والدمار والجوع في جنوب السودان من خلال إلزام حكومة السودان الوفاء باتفاقياتها وتطبيق حق تقرير المصير الذي وافقتْ ووقّعتْ عليه على أرض الواقع والجنوب. هل يمكن حقّاً أن نعتبر محاولاتِ الوسطاء إلزامَ الحكومة تطبيقَ ما التزمتْ به هي نفسُها تدخّلاً في شئون السودان وعاملاً في انفصال جنوب السودان؟ 19 سوف نناقش في المقال القادم ما دار في جولات الحلقة الثالثة والأخيرة من حلقات التفاوض تحت مظلة الإيقاد، والتي جاءت أيضاً بطلبٍ من حكومة الإنقاذ، وقادت إلى بروتوكول مشاكوس، ثم اتفاقية نيفاشا، ثم انفصال جنوب السودان. وسوف نعيد التأكيد أن مسئوليّة انفصال جنوب السودان تقع كاملةً على القوى السياسية الشمالية، وأن دور التدخّل الأجنبي في قضية جنوب السودان كان ثانوياً، وللضغط على حكومة الإنقاذ كي تقبل حق تقرير المصير الذي وافقتْ ووقّْعت عليه هي بنفسها، وفي أكثر من وثيقة. [email protected] www.salmanmasalman.org