محمد صديق، عشت رجلا وأقبلت على الشهادة بطلا    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    الإمام الطيب: الأزهر متضامن مع طهران.. وأدعو الله أن يحيط الرئيس الإيراني ومرافقيه بحفظه    عقار يطّلع على خطة وزارة التربية والتعليم "امتحان الشهادة السودانية"    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    إنجاز قياسي.. مانشستر سيتي بطل الدوري الإنجليزي للمرة الرابعة توالياً    عائشة الماجدي: نشطاء القحاتة أشباه الرجال بمرروا في أجندتهم في شهادة الغالي محمد صديق    بسبب إحاطة عاجلة عن رئيس إيران.. بايدن يقطع إجازته    ضباط ينعون الشهيد محمد صديق إثر تصفيته في الأسر من قِبل مليشيا الدعم السريع    سُكتُم بُكتُم    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرقص في السودان : الهوية المنسية ( 4- 4 )
نشر في حريات يوم 18 - 11 - 2016


د. محمد عبدالرحمن أبوسبيب
الأصول الإثنية والثقافية للشايقية
في بداية هذه الحلقات تعرضنا للمنهج الذي إتبعناه في هذا البحث، وأشرنا إلى أسباب إختيارنا لنموذج الشايقية، ومن ضمنها أن هذا الإختيار يوفر لنا قدراً من التبصر في القضية الأساسية حول الهوية الإثنية والثقافية، لأنه بما أن الشايقية من ضمن المجموعة الجعلية التي تزعم تقاليدها الإنتماء إلى الأصول العربية، يصبح من الأنسب النظر فيما إذا كان مفهومهم الجمالي وممارستهم للرقص والموسيقى وما إرتبط بهما من تقاليد ووظائف متسقاً مع هذا الإدعاء. وسيكون من الملائم لهدفنا من مناقشة هذا الموضوع أن نبدأ بنظرة مختصرة في آراء ومراجع معينة حول الأصول الإثنية والثقافية لهذه المجموعة.
يظل مؤلف عون الشريف قاسم "العامية في السودان" مرجعاً يستعين به كل من يستخدم عامل اللغة في تدعيم القول بالهوية العربية أو الآفروعربية، سواءً بالمعنى العرقي أوالثقافي، لمتحدثي العربية من سكان السودان. فالناقد عبد الهادي الصديق يقتبس من عون الشريف دعماً لرأيه حول ثنائية الآفروعربية كأهم خصائص الشعر العربي السوداني. والموسيقار جمعة جابر بدوره يقتبس من هذا الناقد على سبيل إقناع القارئ بأن ما يصدق على الأدب كهجين أفريقي عربي يصدق كذلك على الموسيقى السودانية وأنواع الفنون السودانية الأخرى مما يعني رسوخ نظرية الهجنة هذه، ويقتبس النص التالي من عون الشريف سنداً لخطابه:
"بإمتزاج العرب بالسكان الأصليين للبلاد من النوبة والبجا والقبائل النيلية والفوراوية وما إليها، ترسبت في لغتهم مجموعات كبيرة من ألفاظ هؤلاء الأقوام بحكم المجاورة والحاجة لهذه الألفاظ التي تعبر في كثير من الأحيان عن مفاهيم ومعاني لم يألفها العرب من مثل ألفاظ الزراعة والري والحضارة التي تأثرت بها القبائل الجعلية المستقرة على النيل. فنجد في صلب لهجاتها مجموعات كبيرة من الألفاظ النوبية والمصرية القديمة الدالة على ذلك مثل مصطلحات الساقية". إنتهى النص.
ومن المصادر التي يتكئ عليها دعاة الأصل العربي الأكاديمي المصري عبد المجيد عابدين، والذي طرح فرضيته الخاصة حول الأصل العربي للشايقية. يرفض عابدين رأي ترمنقهام الذي يرد هذه المجموعة إلى أصل بجاوي وكذلك تفسير ماكمايكل الذي ينص على أن أصول الشايقية ترجع جزئياً إلى المرتزقة البوسنيين والألبان والأتراك الذين خدموا في الحاميات العسكرية وإستقروا في النوبة منذ غزو السلطان سليم للمنطقة في عام 1517. بدلاً عن ذلك يؤيد عابدين فرضية الرحالة الألماني فرن F. Werne الذي زار السودان في العام 1840 – 1841 والقائل بأن الشايقية كانوا في الأصل طبقة من المحاربين المصريين القدماء، لكنه يرى، بخلاف فرن، أن هذه الطبقة المحاربة كانت أصلاً من عرب الآراميين الذين كانوا يعملون في مصر جنوداً مرتزقة في عهد بسماتيك الثاني وكانوا قد أوكلت إليهم مهام عسكرية في المناطق الجنوبية، وأن مجاورتهم لعناصر أفريقية وحامية في موطنهم الجديد ودخول هجرات عربية بعد الإسلام وإختلاطهم بها قد أحدث آثاراً في عاداتهم ولغاتهم على مر الزمن. ويخلص عابدين إلى أن رأي الرحالة فرن في نهاية الأمر "لا يتناقض مع عروبة الشايقية." لكن فرن هذا كتب عن الشايقية أنهم "كانوا بالإجماع وبشئ من الإزدراء يؤكدون بأنهم ليسوا بعرب ولا يجمعهم أي أصل بذلك الجنس. كما أن ملوكهم، الذين يعرفون تماماً أشجار نسبهم، لا يمكنهم أو لا يودون أن يخبرونا عن أصولهم عند محاولتنا إستخلاص ذلك منهم. إنهم يؤكدون بقوة بأنهم موجودون هنا منذ أزمان بعيدة وأنهم أبناء هذه الأرض وكانوا دائماً هم المحاربين في جنسهم." إنتهى نص فرن. وهكذا تبارت هذه الفروض والنظريات في صناعة هوية للشايقية فنسبتهم إلى البجا والأتراك والألبان والبشناق وقدماء المصريين والعرب، وهي فروض ونظريات تبدو بالفعل ساذجة ومضحكة في ضوء البحوث العلمية في تاريخ الحضارة السودانية.
من ناحية أخرى، هناك عدد كبير من المتعلمين في شمال السودان يرون في عروبة المجموعة الجعلية، بما فيها الشايقية، أمراً مسلماً به إلى الحد الذي يغيب عنهم سؤال بديهي حول أولئك الأقوام الذين تركوا آثارهم وفنونهم شاخصة أمامنا والتي أصبحت المرجع الأساسي في الدراسات الراهنة حول الحضارة السودانية. لقد تكفلت عوامل عدة بتعميق حالة التجهيل والتعتيم حول سؤال الهوية وتشكلت الأسطورة السائدة بأن أهل النيل من المتحدثين بالعربية هم نتاج تزاوج بين العرب القادمين والنوبة أهل البلاد، خاصة وقد تكفلت هذه الأسطورة بتزويج المرأة النوبية إلى العربي الأعزب القادم إلى هذه البلاد المجهولة. يمكن ،بالطبع، مقاربة هذه الأسطورة من منظور آيديولوجي ودور الأسطورة في ترقية النظام الأبوي العربي من أجل حجب الأصل النوبي. لكن، هناك السؤال الذي كان يتوجب على عون الشريف وعابدين ومؤيديهم أن يطرحوه وهو ما إذا كان أولئك العرب البدو والذين هم، في نظرهم، شايقية اليوم قد شعروا أيضاً بالحوجة لتبني ما نراه اليوم من موسيقى الشايقية ورقصهم إلى جانب هذا القدر من الطقوس والعادات والوظائف الإجتماعية والفكر الإستطيقي المرتبط بهما والذي يعبر عن بنية إجتماعية ووجود ثقافي محلي أصيل. أما وأن أولئك البدو لم يفعلوا ذلك في واقع الأمر لهو دليل على ضعف وتهافت تلك الإستنتاجات والإفتراضات غير المؤسسة والتي يمكن أن تؤدي إليها أمثال هذه التفسيرات للثقافة السودانية، وهي تفسيرات مرهونة منهجياً بإنحيازها وإشتراطها اللغوي المسبق. خاصةً وموضوع اللغة في السياق السوداني يبدو أكثر صعوبة عندما يتم تناوله من خلال إستنتاجات تأملية، مثل إستنتاج عابدين، لا علاقة لها بمنهج مدروس، أو ينظر إليها كعامل حاسم في التطور الثقافي كما يفعل عون الشريف. لكن، وكما تناولنا الموضوع في مكان آخر، عالجت الدراسات الآثارية والتاريخية واللغوية موضوع الأصول الإثنية والثقافية مستخدمة مناهج بحثية متطورة إنعكست في تناولهم لثقافة وأصول هذه المجموعة. وفي ما يلي نتعرض لنموذجين من هذه الدراسات، أولهما تاريخي والآخر لغوي.
في دراسة مدققة بعنوانThe Old Shaiqi Language in Historical Perspective (لغة الشايقية القديمة من منظور تاريخي) يشير المؤرخ سبولدنق إلى رأي الآثاري وليم آدمز القائل بأن الشايقية وكل السكان القاطنين بين الدبة والخرطوم يتحدثون أيضاً اللغات النوبية إلى ما قبل مائتين أو ثلاثمائة سنة، لكنهم الآن، بحسب قوله، فقدوا لغة أجدادهم هذه تماماً. يتفق سبولدنق مع منهج آدمز ومنظوره لتاريخ الشعوب السودانية كإمتداد تاريخي متصل، لكنه يرى أن هذا الفقد للغة الأجداد لم يكن كاملاً لدى الشايقية. للبرهنة على ذلك إعتمد على أدلة لغوية إستخرجها من حوالي مائة وثيقة خاصة بأسرة النضيفاب من جزيرة أبورنات في منطقة الشايقية والتي مازالت محفوظة في دار الوثائق المركزية في الخرطوم. تعود هذه الوثائق إلى الفترة من 1836 إلى 1902. وكان أرباب هذه الأسرة ممن لهم دراية بالكتابة والمسائل القانونية في ذلك الوقت، وقد إستعان بهم أهل المنطقة في صياغة وثائقهم. من هذه الوثائق إستخرج سبولندق ثمانين كلمة ذات أصول نوبية رغم كتابتها بالعربية، بعضها أسماء قرى مثل مقاشي وتنقاسي وبعضها أسماء تقنيات وآلات ومحاصيل زراعية وعمرانية مثل كوديقا وسلوكا وكوريقا وسريقا، وكسكسيقا (قبعة عريضة من السعف تلبسها النساء إلى وقت قريب). كذلك لاحظ سبولدنق تراجع الأسماء النوبية للأشخاص في هذه الوثائق بعد العام 1850. كان هدف سبولدنق الأساسي هو النظر في الكيفية التي يمكن بها، من منظور تاريخي، إيجاد الصلة بين هذا الأثر النوبي المتبقي في لغة وثائق أسرة النضيفاب وبين اللغات النوبية المعاصرة. هذه اللغات، كما هو معروف تتكون من لغتين متقاربتين هما الكنزية أو الدنقلاوية، وتسمى أشكر، واللغة المحسية. الأولي تتحدث بها مجموعتا الدناقلة والكنوز ويشكلان غالبية الجماعات المتحدثة بالنوبية، وتتميز بالمقطع الأخير (قي أو كي). أما المحسية فتتحدث بها مجموعة أقل عدداً مقارنةً بالأولى وتتميز بالمقطع (قا أو كا). من ناحية أخرى، يشير سبولدنق إلى أن هناك شئ يبدو غير منطقي في الدراسات التاريخية النوبيةوهو أن المتحدثين اليوم بالمحسية أقل من المتحدثين بالدنقلاوية رغم أن المحسية هي التي تفرعت عن لغة الممالك المسيحية المكتوبة والتي سادت في القرون الوسطى، فما الذي جعل المحسية، أي لغة الأقلية الحالية، سائدة في العصور الوسطى، وهل هناك من أسباب معينة أدت إلى أن تفرض هذه الأقلية لغتها على الأغلبية الساحقة من السكان في تلك العصور؟ هنا يتفق سبولدنق مع الآثاري علي عثمان محمد صالح في إجابته على هذا السؤال، وهو الإستمرار الخاطئ من جانب دارسي ومؤرخي الحضارة السودانية في تصورهم للعصور الوسطى النوبية ضمن الحدود الجغرافية الراهنة للمتحدثين الحاليين باللغات النوبية. بناءً على هذا المنطق يبين سبولدنق شكل العلاقة بين ما أسماه بلغة الشايقية القديمة واللغات النوبية المعاصرة على النحو التالي:
"إختيار اللغة الأصل – التي تفرعت منها محسية اليوم – باعتبارها اللغة المكتوبة في فترة العصور الوسطى يمكن أن يكون منطقياً فقط إذا إفترضنا وجود متحدثين بها في ذلك الوقت أكثر بكثير من المتحدثين بها اليوم، وأن الثقل السكاني السابق المقابل للأكثرية الحالية المتحدثة بالدنقلاوية يتوجب البحث عنه خارج المجتمع النيلي الراهن المتحدث بالنوبية، أي البحث عنه في المجموعات "العربية" المجاورة مثل الشايقية والذين تصفهم حتى الدراسات التقليدية بأنهم "نوبيون مستعربون". وكما قال آدمز،"كل هذه المجموعات تحدثت لغة واحدة أو عدة لغات، أما مدى صلة القرابة بينها وبين اللغة الدنقلاوية أو المحسية فأمر مازال قيد التخمين"… الحجة الأكثر إقناعاً حول الخاصية النوبية للغة التي تبقت منها هذه الكلمات غير العربية تكمن تحديداً في إحتفاظهم بالمقطع الأخير في الأسماء، وهو في اللغة الكلاسيكية أو المحسية الشكل قا أو كا. أما المقطع قي أو كي الذي يميز اللغة الدنقلاوية فلم يتم إثباته. ويمكن للمرء أن يفترض بأنه قبل إنتشار العربية بين الشايقية كان هؤلاء يتحدثون لغة أفريقية نسميها هنا "لغة الشايقية القديمة" وأنها كانت لغة نوبية وكانت شكل من اللغة النوبية أقرب كثيراً إلى الكلاسيكية النوبية أو المحسية المعاصرة منها إلى الدنقلاوية المعاصرة ". إنتهى نص سبولدنق.
كذلك نجد الكثير من الألفاظ النوبية في عربية الرباطاب والجعليين تتطابق في نطقها ودلالتها مع مثيلاتها في عربية الشايقية.
من منظور لغوي يقدم جعفر ميرغني تفسيراً لإحدى روايات التراث الشفاهي عند الشايقيةحول جدهم الأول شايق وإبنه سوار، تبدو خلاصته تدعيماً لرأي سبولدنق. تقول الرواية أن شايق سافر إلى جبال الهمج للتجارة، وهناك تزوج من إمرأة أنجب منها ولداً. وعندما أراد العودة بصحبة إبنه إعترضه أخوال الإبن. يفسر ميرغني هذا الإعتراض بأنه ناتج عن النظام الأمومي السائد هناك والذي يجعل من الإبن وارثاً لأحد هؤلاء الأخوال. قرر شايق تشليخ إبنه بشلوخ الشايقية وألبسه سواراً من الذهب وأخبر أخواله بأن هذا الإجراء نوع من السحر يمارسه أهله وأن الولد قد يموت إذا تم خلع هذا السوار من معصمه قبل أن يصبح رجلاً. كان هدف شايق أن يعود ويتعرف على إبنه بعد أن يصبح رجلاً ويقنعه بالعودة معه، لكن شايق مات قبل أن يتحقق ذلك. لكنه قبل وفاته أخبر أبناءه الثلاثة، كدنقا وحواش وعون، عن أخيهم هذا وأمرهم بإعادته وإعطائه نصيبه من الميراث. لكن حواش وعون تآمروا للتخلص من سوار وأقنعوا كدنقا بإرسال عون لجبال الهمج للعودة بأخيهم. في طريق العودة باع عون أخيه ووالدته في بلاد الجعليين. لكن كدنقا يكتشف الأمر ويتمكن من تخليص سوار ووالدته من الرق.
يرى ميرغني أن مجمل هذه الرواية مأخوذةً من الأدب الشفاهي النوبي، وحاول البرهنة على ذلك من خلال تحليل لغوي لجذور أسماء الأبناء الأربعة، كدنقا وحواش وعون وسوار. يخلص ميرغني إلى أن إسم كدنقا، وهو أكبر أولاد شايق بحسب الرواية، مكون من اللفظ النوبي "كاق" ويعني في النوبية "البكر" ومن اللفظ "إنقا" بكسر الألف ومعناها "ولد" وعلى التخريج من اللسان النوبي يتشكل اللفظ "كاق إنقا" ومعناه الولد البكر، وليس بين هذا اللفظ ولفظ كدنقا إلا قلب القاف دالاً وهو جائز بحسب ميرغني. أما الإسم حواش فيرى ميرغني أن أصله في اللفظ "أوّ uwwo" ومعناه في النوبية إثنان، فيكون لفظ "أواشي uwwachi على هذا التخريج معناه الثاني، فكدنقا معناه في الرواية الإبن البكر وحواش الإبن الثاني. والإسم سوار، بحسب تحليل ميرغني، مقلوب كلمة أسار usar ومعناها العبد، وفي المحسية تنطق "أشار"، وهذا يتطابق مع مضمون الرواية التي تقول بأن عون تخلص من أخيه سوار بأن باعه في بلاد الجعليين. أما الإسم عون فمستخرج من اللفظ أوندي ondi ومعناها في النوبية الكذاب. كذلك يخلص ميرغني إلى أن ما يبدو أنه أقصوصة عربية تعود لفترة الفونج هي في الواقع أقصوصة نوبية قديمة لا تتحدث عن شايق، لكنها تدور حول رجل له أربعة أولاد وأن الأسماء التي أطلقت عليهم (البكر، الثاني، المفتري، العبد) مقصود بها الدور الذي يلعبه كل منهم في الرواية. كذلك يجادل ميرغني بأن هناك العديد من القصص المشابهة في التراث الشفاهي العربي السوداني مستمدة من مصادر قديمة يعاد صياغتها لتناسب أو لترمز إلى حقائق جديده، وفي هذه الحالة، أي قصة شايق، تتضمن الرواية نوع من الصراع حول الميراث. لكن ما لم يتطرق له ميرغني في تفسيره هذا هو أن أولاد شايق هؤلاء هم في الواقع، وحسب التقاليد الشفاهية للشايقية، الأجداد الأوائل لأربع من فروع الشايقية، أي الكدنقاب والحوشاب والعونية والسوراب.
من الممكن كذلك إستنتاج خلاصة هامة من منهجية سبولدنق وميرغني في إستخدامهم لعامل اللغة وتوظيفه. فاللغة، ونعني في هذه الحالة اللغة العربية، عامل ثقافي فعال في نسيج إجتماعي متغير، لكن لابد من تناول موضوعها تناولاً موضوعياً وعلمياً متجنباً مزالق الآيديولوجيا. فاللغة تكشف عن التحولات في المجتمع السوداني وتعكس أيضاً مستوى من الإستمرارية في بعض الخصائص الثقافية الأساسية. ويمكن القول أن هذا التناول العلمي لعامل اللغة قد أكد بشكل جلي الأصول النوبية لما تبقى من "لغة الشايقية القديمة" في عربيتهم، وكذلك الأصول النوبية لأسماء أجداد أربع من فروع هذه المجموعة التي يقول بها تراثهم الشفاهي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.