نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدشن أغنيتها الجديدة (أخوي سيرو) بفاصل من الرقص المثير ومتابعون: (فعلاً سلطانة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدشن أغنيتها الجديدة (أخوي سيرو) بفاصل من الرقص المثير ومتابعون: (فعلاً سلطانة)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    بالفيزياء والرياضيات والقياسات العقلية، الجيش السوداني أسطورة عسكرية    دبابيس ودالشريف    أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحزبُ الشيوعي السوداني وحقُّ تقريرِ المصير ومسئولية انفصالِ جنوبِ السودان 1-2
نشر في حريات يوم 08 - 01 - 2017


1
بدأنا في هذه السلسلة من المقالات مناقشة الاتفاقيات التي عقدها كلُّ حزبٍ من الأحزاب السياسية الشمالية – معارضةً وحكومةً – مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، يعترف ويوافق فيها ذلك الحزبُ على حقِّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
وقد ناقشنا في المقال الأول الاتفاقيات الأربعة التي عقدها الحزب الاتحادي الديمقراطي مع الحركة الشعبية، وفي المقال الثاني الاتفاقيات الخمسة التي عقدها حزب الأمة مع الحركة الشعبية، يعترف فيها كلٌ من الحزبين بحقِّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
وقد أوضح هذان المقالان أن الحزب الاتحادي الديمقراطي كان أولَ حزبٍ شماليٍ معارضٍ يوافق على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، بينما كان حزب الأمة هو الحزب الذي وقّع على أكبر عددٍ من الاتفاقيات تعترف بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. أتتْ تلك الاتفاقيات على خلفيةِ رفض الحزبين التام في الماضي لمطلب السياسيين الجنوبيين للنظام الفيدرالي.
سوف نناقش في هذا المقال والمقال القادم موقف الحزب الشيوعي السوداني من حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وموافقته عليه.
2
برز الدور العملي والفعلي للحزب الشيوعي السوداني في قضية الجنوب بوضوحٍ بعد سقوط نظام الفريق عبود في أكتوبر عام 1964. فقد تم الاتفاق على قيام جبهة الهيئات التي شملت قيادات الأحزاب والنقابات والاتحادات التي قادت ثورة أكتوبر. اتفق أعضاء جبهة الهيئات يوم 27 أكتوبر عام 1964، ووقّعوا على وثيقةٍ سمّوها "الميثاق الوطني" تضمّنت خارطة طريق لعودة الديمقراطية. شملت الخارطةُ إلغاءَ الأحكام العرفية وعودة جميع الحريات التي صادرها نظام الفريق عبود.
لم تشمل قائمةُ المُوقّعين على الميثاق الوطني (والتي تضمّنت 28 من القيادات الحزبية والنقابية) قيادياً واحداً من جنوب السودان. كما لم تشمل جبهة الهيئات عضواً جنوبياً واحداً. ولكن لا يبدو أن أحداً من القيادات الشمالية قد فطن إلى ذلك الخلل، لأنه تناسق مع التجاهلات الكثيرة السابقة لأبناء الجنوب. كما أن الميثاق الوطني نفسه لم يتضمّن أيّة فقرة عن مشكلة الجنوب، رغم الاعتقاد الكبير والعام (الخاطئ) بشمولية القضايا التي تناولها الميثاق. وبما أن مشكلة الجنوب كانت السببَ الرئيسي لثورة أكتوبر، فمن الضروري أن يكون الميثاق الوطني، كما تصوّر الكثيرون، قد تناول تلك المشكلة، حتى لو لم يتعرّض لها في حقيقة الأمر.
كانت هذه الإغفلات كبيرةً دون شك، وقد أشار إليها الكثير من القادة الجنوبيين فيما بعد كدليلٍ على إهمال وتجاهل وتهميش السياسيين الجنوبيين.
3
غير أن حكومة ثورة أكتوبر التي تشكّلت في 30 أكتوبر عام 1964 برئاسة السيد سر الختم الخليفة، شملت ثلاثة وزراء جنوبيين، منهم السيد كلمنت أمبورو الذي تسلّم مهام وزارة الداخلية. كانت تلك أولَ مرّةٍ في تاريخ السودان يتولّى فيها سياسيٌ جنوبيٌ مهام وزارة سيادية منذ تشكيل أول وزارة وطنية في السودان عام 1954. غير أن فترة توليه الوزارة لم تتجاوز السبعة أشهر والتي كانت عمر الحكومة الانتقالية.
بالإضافة إلى السيد كلمنت أمبورو، شملت الوزارة السيد أزبوني منديري وزيراً للمواصلات، والسيد هيلري لوقالي وزيراً للأشغال. وكان السيد أزبوني منديري قد قضى عدّة سنوات في السجن خلال فترة حكم الفريق عبود بعد إدانته بتهمة المطالبة بالنظام الفيدرالي.
4
أرسل رئيس حزب سانو، السيد ويليام دينق الذي كان يقيم في المنفى في مدينة ليوبولدفيل (كينشاسا لاحقاً) في جمهورية الكونغو الديمقراطية، رسالةً إلى السيد سر الختم الخليفة رئيس الوزراء في الثامن من شهر نوفمبر عام 1964 يهنئه والشعب السوداني فيها بنجاح ثورة أكتوبر وتبنّي الحل السلمي لمشكلة الجنوب. اقترحت الرسالةُ عقدَ مؤتمر مائدة مستديرة يضمُّ كافة الأحزاب السياسية السودانية وممثلين للنقابات والاتحادات لمناقشة الخطوط العامة للعلاقات الدستورية بين الشمال والجنوب، والتي بنتها رسالةُ حزب سانو على قيام نظامٍ فيدرالي.
قبلت الحكومة وجبهة الهيئات مقترح عقد مؤتمر المائدة المستديرة. غير أن ردَّ السيد سر الختم الخليفة لطلب النظام الفيدرالي كان مرتبكاً، ورأى ترك مقترح الفيدرالية للنقاش خلال المؤتمر.
5
بعد خمسة أشهرٍ من اندلاع ثورة أكتوبر، وأربعة أشهر من مبادرة حزب سانو، انعقد مؤتمر المائدة المستديرة. بدأ المؤتمر يوم 16 مارس عام 1965 واستمر لمدة أربعة عشر يوماً حتى يوم 29 من الشهر نفسه. تمّ الاتفاق على أن يُمثّل كل حزبٍ من الشمال (الأمة، والوطني الاتحادي، والشعب الديمقراطي، والشيوعي، وجبهة الميثاق الإسلامي، وجبهة الهيئات) بثلاثة أعضاء، بينما يُمثّل حزب سانو بتسعة أعضاء، وجبهة الجنوب بتسعة أعضاء. قاد وفدَ كلِّ حزبٍ من أحزاب الشمال الرئيسُ أو الأمين العام للحزب (حزب الأمة السيد الصادق المهدي، والوطني الاتحادي السيد إسماعيل الأزهري، وحزب الشعب الديمقراطي السيد علي عبد الرحمن، والحزب الشيوعي السيد عبد الخالق محجوب، وجبهة الميثاق الإسلامي الدكتور حسن الترابي، وجبهة الهيئات الأستاذ سيد عبد الله السيد). وشارك في المؤتمر أيضاً مراقبون من كينيا ويوغندا وتنزانيا ومصر ونيجيريا وغانا والجزائر، تفاوتتْ رتبهم من وزراء إلى سفراء.
6
تمّ اختيار البروفيسور النذير دفع الله (الذي كان وقتها مديراً لجامعة الخرطوم) رئيساً للمؤتمر، وعاونته سكرتارية شملت السادة محمد عمر بشير، وعبد الرحمن عبد الله، ويوسف محمد علي. ويُلاحظ أن رئاسة وسكرتارية المؤتمر كانت كلها من الشماليين، ولم يكن بينهم جنوبيٌ واحد. لا بُدّ أن يكون هذا التجاهل قد خلّف آثاره السلبية في نفوس الجنوبيين، وأوضح عدم الثقة في الجنوبيين الذين كان الشمال يسعى جاهداً لإقناعهم بالبقاء في السودان الموحّد.
اقترحت الوفود الجنوبية أن يرأس المؤتمر شخصان، أحدهما شمالي والآخر جنوبي. غير أن الأحزاب الشمالية رفضت ذلك المقترح، بل وسخرتْ منه، ذاكرةً بأنه لم يحدث إطلاقاً أن ترأس مؤتمراً شخصان. وهذا الادعاء ليس صحيحاً، فهناك الكثير من المؤتمرات التي يرأسها شخصان بالتناوب بينهما.
كما يُلاحظ أن وفود الأحزاب الشمالية الخمسة لم تشتمل على جنوبيٍ واحد رغم ادعاء هذه الأحزاب أنها قوميّة التكوين. وقد ذكر قادة هذه الأحزاب أثناء محادثات القاهرة، والتي أدّت إلى توقيع اتفاقية الحكم الذاتي عام 1953، أنهم يمثّلون كل السودان رغم عدم وجود جنوبيٍ واحد في وفد التفاوض في القاهرة.
7
ألقى السيد سر الختم الخليفة، رئيس وزراء حكومة أكتوبر، كلمة افتتاح المؤتمر. تحدّث عن الخلافات بين شطري البلاد والتخلّف الاقتصادي في الجنوب، ولكنه عزا كلَّ تلك المشاكل للاستعمار الإنجليزي وسياسة المناطق المقفولة. وتحدّث أيضاً عما أسماه الحملة الجائرة حول تجارة الرقيق، وأشار إلى أن ذلك النشاط المخجل قد عتّم تاريخ العنصر البشري في كل العالم، وليس في السودان فقط. نادى السيد سر الختم الخليفة بروحٍ جديدة لحل مشكلة الجنوب وإنهاء الحرب والبدء في بناء السودان. غير أنه أشار إلى أن الخارجين على القانون لم يبادلوا الحكومة حسن النية التي وفّرتها بالعفو العام الذي شمل المناداة بوقف العنف، مما جعل الحكومة تقوم بواجبها نحو حفظ الأمن لحماية المصالح القومية. ولم يتطرّق السيد سر الختم الخليفة في كلمته إلى مسألة الحكم الفيدرالي الذي اقترحته رسالة حزب سانو.
من الجانب الآخر كانت كلمة السيد أقري جادين ممثل حزب سانو في الخارج حادّةً في نقدها للشمال، ركّز فيها على الخلافات بين شطري القطر، وأعلن فيها أنه لا يوجد شيءٌ مشترك بين الاثنين – لا عادات ولا تقاليد ولا هويّة ولا لغة ولا دين ولا مصالح، وأن شطري القطر قد فشلا في التعايش معاً. وذكّر السيد جادين الشماليين بنقض وعدهم فيما يختصُّ بالنظام الفيدرالي الذي تمّ الاتفاق عليه في شهر ديسمبر عام 1955، ولكنه أضاف أن الأوضاع قد تغيّرت منذ عام 1955، وأنه قد آن الأوان لانفصال جنوب السودان عن شماله، لأن ادعاء الشمال للوحدة "مبنيٌ على الصدفة التاريخية ومفروضٌ على الجنوب بالهيمنة العسكرية والاقتصادية."
واصل السيد غوردون مورتات السير في طريق السيد أقري جادين معدّداً مجالات التباين والخلاف بين الشمال والجنوب، ولكنه طالب بحق تقرير المصير لجنوب السودان. وقد بنى السيد مورتات مطالبته بحق تقرير المصير لجنوب السودان على قرار الشمال تقرير مصيره عام 1955. فتلك سابقةٌ تاريخيةٌ سودانية، وحقوق الشعبين في شقّي القطر يجب أن تكون متكافئةً ومتساوية.
أما السيد ويليام دينق فقد أعاد الحجج التي ساقها في رسالته للسيد سر الختم الخليفة للمطالبة بالنظام الفيدرالي الذي يمكن بالإرادة السياسية تعايش طرفي البلاد تحت مظلته. وأشار إلى "أن النظام الفيدرالي كفيلٌ باستيعاب التباينات العرقية والدينية واللغوية والثقافية بين الشعبين."
8
لكنَّ ممثلي الأحزاب الخمسة الشمالية وجبهة الهيئات اتبعوا طريقاً مختلفاً في كلماتهم، مؤكدين كلهم رفضهم التام والقاطع لكل ما يمكن أن يقسّم السودان، بما في ذلك النظام الفيدرالي، ومعلنين إصرارهم على وحدة السودان. وقد أوضح قادة الأحزاب الخمسة، بما في ذلك الحزب الشيوعي السوداني، أسباب رفضهم للنظام الفيدرالي لأنه يمثل في نظرهم الخطوة الأولى نحو الانفصال، كما ذكروا في ورقتهم المشتركة:
"يشعر السودانيون خاصةً في الشمال أن الوضع الفيدرالي ما هو إلّا خطوةٌ نحو الانفصال لأنه درجةٌ بعيدة المدى نحو تلاشي الحكومة المركزية، ولأنه نظامٌ ثبت تشجيعه للنعراتِ الإقليمية والعصبيّات المحليّة لا سيما وأنه في هذه الحالة يشكّل نزعةً إلى الابتعاد عن الوحدة، بعكس المعتاد في النظم الفيدرالية التي تقرّب بين مقاطعاتٍ أو دولٍ كانت مستقلّةً أو شبه مستقلّة، أو لم يكن بينها إلّا الرباط الاستعماري."
وقد اقترح الحزب الشيوعي نظاماً للحكم الذاتي لجنوب السودان. وقد ورد الذكر في كتاب "ثورة شعب"، الذي صدر عام 1965، لنظام "الحكم الداخلي"، وأوضح الكتاب أنه برنامج الحزب الشيوعي للحلِّ الواقعي لقضية الجنوب حين اقترح: "إعطاء المديريات الجنوبية الثلاثة حكماً داخلياً مؤسساً على مجلس تمثيلي لكل القبائل بنسبة عددها لتنظيم شئونها الداخلية مع وجود تمثيل ديمقراطي لها في المجلس النيابي المركزي والحكومة المركزية ومساعدتها مساعدة فعالة من الخزينة العامة ورفع مستوى معيشتها" (ثورة شعب، الطبعة الثانية 2013، صفحة 302). ويبدو أن الحكم الذاتي كان تطويراً لفكرة الحكم الداخلي.
غير أن الأحزاب الشمالية الأخرى كلها، وكذلك الأطراف الجنوبية، تجاهلت مقترح الحكم الذاتي، ولم يتعامل معه أحدٌ بجديّة، خصوصاً مع وقوف الحزب الشيوعي مع الأحزاب الشمالية الأخرى في رفض النظام الفيدرالي. ولم ييذل الحزب الشيوعي نفسه أيَّ جهدٍ في توضيح ودفع مقترحه.
9
تواصل عقد مؤتمر المائدة المستديرة لمدّةِ أسبوعين، من 16 مارس وحتى 29 مارس عام 1965. صدرت قرارات المؤتمر في 30 مارس عام 1965 وتضمّنت وعوداً بفتح المدارس وإنشاء جامعة في الجنوب، والعمل على إعادة الحياة الطبيعية هناك وتدريب الجنوبيين لملء مجموعة وظائف في الجنوب، مع التأكيد على مبدأ المساواة في الأجور. غير أن المؤتمر فشل فشلاً تاماً في معالجة لبِّ قضية الجنوب. فقد تضمّنت القرارات نصّاً يفيد أن المؤتمر قد نظر في بعض أشكال الحكم التي يمكن أن تطبّق في السودان ولكنه لم يتمكّن من الوصول إلى قرارٍ إجماعي كما تتطلّب قواعد إجراءات المؤتمر. لذا فقد قرّر تكوين لجنة من اثني عشر عضواً لتتولّى بحث الوضع الدستوري والإداري الذي يضمن مصالح الجنوب الخاصة، كما يضمن مصالح البلاد عامةً. وقد أُعطيت اللجنة بجانب ذلك الصلاحيات التالية:
(أ) أن تكون لجنة رقابة تشرف على تنفيذ الخطوات والسياسة المتفق عليهما.
(ب) أن تخطط وسائل إعادة الأحوال في الجنوب إلى الأوضاع العادية. وأن تدرس الخطوات اللازمة لرفع حالة الطوارئ في الجنوب واستتباب الأمن وحكم القانون، على أن تُعرض النتائج التي تتوصّل إليها لجنة الاثني عشر على المؤتمر الذي ستدعو له الحكومة للانعقاد خلال ثلاثة أشهر.
10
تكوّنت لجنة الاثني عشر من ستة جنوبيين وستة شماليين، وشملت السادة بونا ملوال، واثوان داك، وغوردون أبيي من جبهة الجنوب، والسادة أندرو ويو، ونيكانورا أقوي، وهيلري أوشالا من سانو. وشملت عضواً واحداً من كلٍ من الأحزاب الشمالية وجبهة الهيئات هم السادة محمد أحمد المرضي من الحزب الوطني الاتحادي، محمد داوود الخليفة من حزب الأمة، الفاتح عبود من حزب الشعب الديمقراطي، حسن الترابي من جبهة الميثاق الإسلامي، محمد إبراهيم نقد من الحزب الشيوعي السوداني، وسيد عبد الله السيد من جبهة الهيئات.
لكن بات واضحاً بذاك الوقت أن القوة الدافعة للمؤتمر قد بدأت في التلاشي. فقد غادر السيدان أقري جادين وغوردون مورتات السودان وعادا إلى منفاهما في يوغندا والكونغو. وكانت الأحزاب الشمالية قد بدأت في توجيه وتركيز كل جهودها لانتخابات الجمعية التأسيسية التي ستشكّل الحكومة وتضع الدستور.
وكان التسجيل قد بدأ للانتخابات في 11 فبراير عام 1965 واستمر حتى 12 مارس، بينما بدأ التصويت في 21 أبريل. عليه فقد كانت قيادات الأحزاب على عجلةٍ من أمرها خلال مؤتمر المائدة المستديرة للتفرّغ للانتخابات. وبدا واضحاً أن عقد المؤتمر وإجراء الانتخابات في نفس الوقت كان خطأً كبيراً وفادحاً. فقد اختارت الأحزاب أن تضع جلَّ جهدها وطاقتها وزمنها في الانتخابات، وأخذ المؤتمر بعد ذلك اهتماماً ثانوياً.
11
واجهت لجنة الاثني عشر مجموعةٌ من المشاكل. فبعد أسابيع قلائل من بداية عمل اللجنة قاطع ممثلا حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي أعمال اللجنة. علّل حزب الشعب الديمقراطي انسحابه بعدم اطمئنانه على المعلومات التي كانت تدلي بها الحكومة عن الوضع في الجنوب، بينما أخبر الحزب الشيوعي اللجنة أنه انسحب احتجاجاً على فشل الأحزاب الجنوبية إدانة الهجمات المتكررة من الأنيانيا على المدن في الجنوب. أوضح الحزب الشيوعي السوداني في خطابه إلى السيد رئيس الوزراء الآتي:
"لقد أقر الحزب الشيوعي السوداني مقاطعة اجتماعات لجنة الاثني عشر وتجميد قرارات مؤتمر المائدة المستديرة ما لم يستتب الأمن بالجنوب." وقد أيّده حزب الشعب الديمقراطي في هذا السبب أيضاً.
كان غريباً أن يقدّم هذان الحزبان ذلك الطلب ويصرّان عليه، علماً بأن الغرض من المؤتمر كان الوصول إلى حلولٍ بغرض إنهاء الحرب الأهلية. وهكذا وضحت مشكلة تجاهل الحركات المسلّحة في الجنوب وآثارها وتداعياتها الحقيقية والعملية.
إضافةً إلى هذا، لم يكن هناك حرصٌ من أعضاء لجنة الاثني عشر الشماليين على حضور اجتماعات اللجنة، وتغيّبوا عن الكثير من تلك الاجتماعات مما أوضح عدم الجدّية بين أعضاء اللجنة. أوضح السيد يوسف محمد علي الذي عمل رئيساً للجنة الاثني عشر في كتابه: "السودان والوحدة الوطنية الغائبة" (مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان 2012) أن حزب الشعب الديمقراطي حضر أربع اجتماعات من ثمان اجتماعات قبل أن يقرّر الانسحاب من اللجنة، بينما حضر الحزب الشيوعي سبع اجتماعات من مجمل 12 اجتماع قبل أن يقرّر هو الآخر الانسحاب أيضاً من اللجنة. بلغت اجتماعات لجنة الاثني عشر في مجملها 48 اجتماع، تغيّب حزب الأمة عن عشرٍ منها، بينما تغيّبت جبهة الميثاق الإسلامي عن 14، وجبهة الهيئات عن ثماني، والحزب الوطني الاتحادي عن ثلاث اجتماعات. من الجانب الآخر فقد حضر مندوبو جبهة الجنوب وحزب سانو كل الاجتماعات ولم يتغيبوا حتى عن جلسة واحدة (راجع الكتاب، صفحة 214). لا بُدّ أن الرسالة التي أرسلتها هذه النتائج للأحزاب الجنوبية هي غياب الجدّية من جانب الأحزاب الشمالية.
12
تم إجراء الانتخابات في وقتها في الشمال، ولكن بسبب الأوضاع الأمنية فلم تتم الانتخابات في الجنوب. تشكّلت في بداية شهر يونيو عام 1965 حكومة ائتلافية بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي برئاسة السيد محمد أحمد محجوب.
أدلى السيد محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء ببيانٍ مفصّل أمام الجمعية التأسيسية يوم السبت 26 يونيو عام 1965، موضّحاً فيه سياسة حكومته. وقد اشتمل البيان على الخطوط العريضة لسياسة الحكومة في جنوب السودان، والتي كان من بينها: "وستسير حكومتي في سياسة الحل السلمي لمشكلة الجنوب مهتديةً بوحي قرارات مؤتمر المائدة المستديرة، لكنها ستنبذ سياسة الاسترضاء واللين في معاملة الخارجين على القانون ومن يدفعونهم في هذا السبيل، وستأمر بنزع السلاح نزعاً تاماً والقضاء الكامل على العصابات المسلحة التي تعبث بالأمن، وستأمر القوات المسلحة السودانية بتعقّب المجرمين وإعادة سيادة القانون والنظام وتأديب المتمردين." وأوضح البيان دور القوات المسلحة ومسئولية الحكومة تجاهها عندما ذكر: "وستعمل حكومتي على تقوية القوات المسلحة السودانية بزيادة عددها وتطوير عتادها وتحسين أحوال أفرادها … وستعيد النظر في تشكيلها وتكوينها حتى تستطيع أداء واجباتها في الداخل والخارج."
لم يعِدْ السيد رئيس الوزراء بتطبيق قرارات مؤتمر المائدة المستديرة، بل أوضح أن حكومته ستهتدي (وليس ستلتزم) بوحي قرارات المؤتمر (وليس بالقرارات نفسها). ثم أوضح دون مواراة تفاصيل الحل العسكري الكامل الذي تبناه لقضية الجنوب من قضاءٍ على العصابات المسلّحة، وتعقّبٍ للمجرمين، وتأديبٍ للمتمردين. وقد سمى السيد محمد أحمد محجوب المحاربين الجنوبيين بعدّةِ أسماء وصفات منها: الإرهابيين، العصابات المسلحة، الخارجين على القانون، المجرمين والمتمردين.
13
وقد نجح السيد محمد أحمد محجوب في استصدار قرارٍ من الجمعية التأسيسية في 26 يونيو عام 1965، بعد الإدلاء ببيانه، وافقت الجمعية التأسيسية بمقتضاه بالإجماع على مقترحه بوصف الوضع في جنوب السودان بأنه خروجٌ على القانون والنظام ويجب التعامل معه بالحسم العسكري. وقد صوّت إلى جانب القرار كل أعضاء حزبي الأمة والوطني الاتحادي، وكذلك أعضاء الحزب الشيوعي السوداني وأعضاء جبهة الميثاق الإسلامي في الجمعية التأسيسية. وافقت الجمعية أيضاً على زيادةٍ معتبرةٍ في ميزانية وزارة الدفاع لدحر التمرّد وهزيمة الإرهابيين والعصابات المسلحة، كما سمّاهم القرار.
وهكذا أعطت الجمعية التأسيسية الضوء الأخضر للسيد محمد أحمد محجوب، الذي احتفظ لنفسه بحقيبة وزارة الدفاع أيضاً، ليفعل في جنوب السودان كل ما يراه مناسباً من حلٍ عسكري لاستعادة القانون والنظام، ودحر العصابات الإرهابية. وقد حدثت في عهد حكومة السيد محمد أحمد محجوب مجزرتا جوبا وواو، واللتان بلغ عدد ضحاياهما أكثر من خمسمائة من أطفال ونساء ورجال الجنوب، كما وثّقت المحكمة العليا في الخرطوم.
14
يتضح من هذا العرض أن موقف الحزب الشيوعي السوداني من قضية الجنوب خلال مؤتمر المائدة المستديرة وبعد انتخابات عام 1965 لم يكن يختلف البتّة من موقف الأحزاب الشمالية الأخرى من أنها قضية تمرّدٍ وخروجٍ على القانون والنظام، ويجب التعامل معها بالحسم العسكري. وقد كان المحاربون الجنوبيون بالنسبة لكل الأحزاب الشمالية هم مجموعةٌ من الخونة والخوارج والمتمردين والإرهابيين والعصابات المسلحة. بل إن الحزب الشيوعي انسحب من لجنة الاثني عشر، وقرّر "مقاطعة اجتماعات لجنة الاثني عشر وتجميد قرارات مؤتمر المائدة المستديرة ما لم يستتب الأمن بالجنوب."
ولا بد من إضافة أن الحزب الشيوعي السوداني وقف خلال المؤتمر إلى جانب الأحزاب الشمالية الأخرى في رفضه التام للنظام الفيدرالي. ورغم تقديم الحزب لمقترح الحكم الذاتي للجنوب، إلا أن المقترح لم يتضمّن أيّة تفاصيل، ولم ييذل الحزب الشيوعي نفسه أيَّ جهدٍ في توضيح ودفع مقترحه.
وقد ظلّت قضية الجنوب في رأي الحزب الشيوعي هي قضية الاستعمار وصنائعه، وأن الطريق يتمثل في "تطبيق حلٍ ديمقراطي …. يحفظ للوطن وحدته ويسد الطريق أمام الدسائس والمؤمرات الاستعمارية" (ثورة شعب، صفحة 310) .
15
سنناقش في المقال القادم قبول الحزب الشيوعي اللاحق لحقِّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، مثله مثل بقية الأحزاب الشمالية الأخرى، على الرغم من هذه التحفّظات والخلفيّات، بما فيها رفض مقترح الفيدرالية.
[email protected]
www.salmanmasalman.org


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.