سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لعنةُ الموارد: دورُ النفط في انفصال جنوب السودان 1 – 3
نشر في حريات يوم 22 - 01 - 2017


1
يُسْتخدمُ مُصطلحُ "لعنة الموارد" في إشارةٍ إلى مفارقةِ أن البلدان التي تمتلك قدراً من الموارد الطبيعية غير المتجدّدة مثل النفط والمعادن – خصوصاً في العالم الثالث – تتجه في الغالب الأعم إلى نموٍّ اقتصاديٍّ محدود، وفشلٍ في استخدام عائدات المورد الجديد في التنمية، ومديونية خارجية عالية، مع استشراء الفساد. وتمتد لعنةُ المواردِ إلى إهمال وتدهور القطاع الزراعي الذي كان مرتكزَ الاقتصاد، في معظم الحالات، قبل اكتشاف المورد الجديد.
وينتج عن هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي الجديد، في معظم الحالات، نظامٌ سياسيٌ مستبدٌّ وأحادي. وقد يتدهور الوضع السياسي والأمني نتيجة لعنةِ الموارد المُتمثّل في سوء استخدامها والمشاركة فيها، ويقود إلى حروب أهلية كما حدث في أنقولا وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وإلى محاولات انفصال جزءٍ من القطر كما حدث في نيجيريا.
وقد امتدت لعنة الموارد إلى السودان، إثر اكتشاف النفط، لتشملَ كلَّ ما ورد ذكره سابقاً. فقد تمّ إهمال القطاع الزراعي إهمالاً تاماً خلال سنواتِ النفط، وانهار مشروعُ الجزيرة – أكبر مشروع ريٍّ في العالم تحت إدارة واحدة. وارتفعت مديونية السودان الخارحية فجأةً وبصورةٍ كبيرة بسبب استخدام النفط كضمانة لتلك الديون.
وقد لعب النفطُ دوراً محورياً وكبيراً في قضية الجنوب، وأدّى، مع عوامل أخرى، إلى انفصال جنوب السودان، كما سنناقش في هذه السلسلة من المقالات الثلاثة.
2
شهد عام 1972 توقيع اتفاقية أديس أبابا بين الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري وحركة تحرير جنوب السودان بقيادة السيد جوزيف لاقو. توقّفت الحرب الأهلية في السودان لأوّلِ مرّة منذ عام 1955، وبدأ السودان ما اعتقدت الحكومة وجزءٌ كبير من الشعب السوداني أنها بداية السلام والتنمية في البلاد.
امتدت يدُ التنمية إلى مجال البحث عن النفط. وقد أعلنت شركة شيفرون الأمريكية اكتشاف النفط بكمياتٍ كبيرةٍ وتجارية في جنوب السودان في عام 1978. بدأت الحكومة في التخطيط لاستخراجه وتكرير جزءٍ منه للاستعمال المحلّي، وتصدير الجزء المتبقِّي. وقامت الوفود الحكومية بالطواف على المنظمات المالية الدولية والإقليمية للبحث عن الممولين الذين شملت قائمتهم البنك الدولي والصناديق العربية، وكذلك البنوك التجارية.
وعمّت الفرحةُ والاحتفالات أرجاء البلاد. فقد تمّ اكتشاف النفط في السودان في وقتٍ وصل السعر العالمي للبرميل إلى رقمٍ لم يشهده العالم من قبل، ولم يتوقّعه اقتصاديو النفط، وفي وقتٍ كان الوضع الاقتصادي في السودان في أسوأ حالاته.
3
غير أن الرئيس جعفر نميري كان قد أصبح في تلك الفترة ديكتاتوراً مطلقاً بعد سحقه لعددٍ من محاولات الانقلاب العسكري على حكمه. وامتدت يد النميري إلى اتفاقية أديس أبابا، إنجازه الذي كان يمكن أن يميّزه عن غيره من السياسيين السودانيين، وبدأ في تمزيق الاتفاقية يوماً بعد الآخر، ومادةً بعد الأخرى.
بدأ العقيد نميري نقض اتفاقية أديس أبابا بالتدخّل بصورةٍ سافرة في أعمال مجلس الشعب الإقليمي والمجلس التنفيذي العالي في الإقليم الجنوبي. أمر العقيد نميري السيد أبيل ألير عام 1978 بسحب ترشيحه لرئاسة المجلس التنفيذي ليحلَّ محله السيد جوزيف لاقو، وتمّ له ذلك على مضضٍ من السيد أبيل ألير وأنصاره.
ثم واصل العقيد نميري تدخّله وأبعد السيد كلمنت أمبورو من رئاسة مجلس الشعب الإقليمي، ثم قام فجأةً في أكتوبر عام 1980 بحلِّ مجلس الشعب الإقليمي والمجلس التنفيذي، واستبدل السيد جوزيف لاقو بالسيد قسم الله رصاص.
كما قام العقيد نميري أيضاً بتعيين أعضاء المجلس التنفيذي وحكّام المديريات الثلاثة بالإقليم الجنوبي. كان كلُّ ذلك التدخّل خرقاً واضحاً لاتفاقية أديس أبابا التي قضتْ بأن يكون تعيين رئيس المجلس التنفيذي وعزله من اختصاصات رئيس الجمهورية، ولكن بناءً على توصية مجلس الشعب الإقليمي. كما أوضحت الاتفاقية أن تعيين وعزل أعضاء المجلس التنفيذي من اختصاص مجلس الشعب الإقليمي.
ثم قام الرئيس نميري بالخرق الأكبر لاتفاقية أديس أبابا بتقسيمه الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم، ناسِفاً بذلك الأرضية التي انبنتْ عليها اتفاقية أديس أبابا.
4
قرّرتْ حكومة نميري بعد أسابيع من اكتشاف النفط في جنوب السودان عام 1978 عن نيتها بناء مصفاة في مدينة بانتيو في الجنوب. لكن نفس الحكومة عادت في بداية الثمانينيات وعدّلت عن قرارها، وأعلنت أن المصفاة سوف يتمّ بناؤها في مدينة كوستي في شمال السودان، بدلاً عن مدينة بانتيو، وأن التخطيط قد تمّ لبناء خط أنابيب لنقل النفط إلى ميناء بورتسودان.
إضافةً إلى هذا فإن الحكومة لم تتحدّث عن أيّةِ نسبةٍ من عائد النفط يتمُّ تخصيصها لجنوب السودان. أغضبتْ هذه القرارات السياسيين وشعب جنوب السودان الذين رأوا أن نفطهم سوف يتمّ تصفيته في شمال السودان لاستعماله هناك، بدلاً من القرار السابق بإقامة المصفاة في بانتيو. كما سيتم تصدير النفط عن طريق الشمال دون أن يكون هناك أيُّ عائدٍ ماديٍ أو عينيٍ للجنوب، ودون حتى مشاركة الحكومة الإقليمية في إدارة أو في عائدات النفط المكتشف في أراضيهم، وداخل إقليمهم.
5
وكأنَّ هذه التطورات لم تكن كافية لإثارة القلاقل في الجنوب، فقد بدأت الحكومة السودانية والحكومة المصرية في عام 1978 في بناء قناة جونقلي لتجفيف أجزاءٍ من مستنقعات جنوب السودان وإضافة مياهها للنيل الأبيض لاستخدامات السودان ومصر، دون أيّة تعويضاتٍ للمجموعات القبلية المتضرّرة من القناة، أو أيّة استخداماتٍ للمياه في الجنوب.
6
ثم بدأ الحديث في أوساط الدوائر السياسية والأكاديمية الجنوبية أن حكومة الخرطوم قد قامتْ بإعادة رسم الحدود بين شمال وجنوب السودان، واقتطعتْ أراضي واسعة حول مناطق البترول في منطقة بانتيو بالجنوب، تمَّ اكتشاف النفط فيها، وقامت بضمِّها لشمال السودان.
ونشب نزاعٌ حول الأراضي الزراعية في منطقة الرنك وجودة، واتهم الجنوبُ الشمالَ بالاستيلاء على هذه المناطق وضمّها للشمال. كما أنه لم يتم الاتفاق رسمياً على الحدود بين الشمال والجنوب والتي تمتد لمسافة ألفي كيلومتر.
ورفض مجلس الشعب الإقليمي في عام 1980 خريطة السودان التي رسمت الحدود بين الشمال والجنوب، والتي كان مجلس الشعب القومي قد اعتمدها.
7
وكانت حكومة الفريق إبراهيم عبود قد واجهت اتهاماتٍ مماثلة في ستينيات القرن الماضي. فقد ادّعت قيادات جنوبية سياسية وأكاديمية متعدّدة أن الفريق عبود قام بضمِّ منطقة حفرة النحاس الجنوبية إلى مديرية دارفور إثر اكتشاف كمياتٍ من المعادن، من بينها النحاس، في تلك المنطقة الجنوبية. وهذه المنطقة تقع ضمن المناطق المتنازع عليها الآن بين السودان وجنوب السودان، والتي ما يزال الطرفان يتفاوضان عليها.
8
أدّت تلك التطورات السلبية المتسارعة بين الشمال والجنوب في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات إلى ميلاد الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق في شهر مايو عام 1983، واندلاع الحرب الأهلية الثانية في السودان. وساهم إعلان قوانين سبتمبر بواسطة الرئيس نميري في تقوية الحركة الشعبية ومدِّها بمزيدٍ من الذخيرة السياسية وأعدادٍ كبيرة من المتطوعين.
وقد ساهم برنامج الحركة الشعبية للسودان الجديد القائم على المواطنة في جذب أعدادٍ متزايدةٍ من الشماليين إلى صفوف الحركة. وأصبح المتطوّع الشمالي يحارب جنباً إلى جنب المحارب الجنوبي ضد حكومة الخرطوم.
9
كانت مشاريع النفط والمياه في جنوب السودان من أوائل الأهداف العسكرية للحركة الشعبية. قامت الحركة في شهر نوفمبر عام 1983 (بعد شهورٍ فقط من إعلان ميلادها) بإنذار شركة شيفرون بوقف نشاطها في قطاع النفط في جنوب السودان. وتبعتْ ذلك الإنذار بهجومٍ عسكريٍ ناجحٍ على معسكر الشركة، وعلى أحد مواقع النفط الرئيسية، مما أدّى إلى إغلاق الشركة لكل عملياتها وانسحابها التام من الجنوب.
كانت تلك ضربةً موجعةً وقاسيةً لنظام نميري الذي بدأ يخطّط للاستفادة من نفط الجنوب لحلّ الضائقة الاقتصادية الحادة التي كانت تحاصر السودان. وكان السودان قد وصل مرحلةً متقدّمة في المفاوضات مع بعض المنظمات المالية الدولية والإقليمية والعربية لتمويل خط الأنابيب من مواقع إنتاج البترول إلى بورتسودان، وكذلك المصفاة المزمع قيامها في مدينة كوستي بشمال السودان.
10
كانت الضربة الموجعة الثانية هي لقناة جونقلي. فبعد الإنذار الذي وجهته الحركة الشعبية لشركة "سي سي آي" الفرنسية (التي كانت تقوم بحفر القناة) في نوفمبر عام 1983 بوقف حفر القناة، قامت الحركة في فبراير عام 1984 بهجومٍ على معسكر الشركة، وتدمير أجزاء منه، واختطاف عددٍ من موظفي الشركة والعبور بهم إلى إثيوبيا حيث كانت قد أقامت بعض معسكرات التدريب. وأوقفتْ الحركةُ بذلك الهجوم العملَ نهائياً في قناة جونقلي بعد الانسحاب الكامل للشركة الفرنسية في ذلك الشهر.
توالت انتصارات الحركة الشعبية، واستطاعت أيضاً في فبراير عام 1984 ضرب مطار جوبا الذي كانت تُجرى فيه عمليات توسيع وتحديث منذ عام 1982. وذكرت الحركة في بياناتها أنها بضربها مطار جوبا فقد أوقفتْ الإمدادات العسكرية والغذائية التي كانت الخرطوم ترسلها إلى الجيش السوداني في جنوب السودان، وإلى مواقع النفط وقناة جونقلي.
11
نتج عن هذه الانتصارات الثلاثة المتوالية، والتي جاءت بعد شهورٍ فقط من ميلاد الحركة الشعبية لتحرير السودان، دويٌّ هائلٌ ليس فقط في الخرطوم، بل امتد ليصل إلى القاهرة وباريس وواشنطن، وغرباً حتى ولاية كاليفورنيا، مقر شركة شيفرون.
عليه فقد كان مورد النفط عاملاً أساسياً في اندلاع الحرب الأهلية الثانية في السودان، والتعجيل بالهجوم الكبير والناجح على مواقع آبار النفط وإغلاقها قبل البدء في الإنتاج، وإجبار شركة شيفرون على وقف إنتاج النفط، ومغادرة جنوب السودان نهائياً.
12
لكنَّ لعنةَ المواردِ كانت قد بدأت عملها وبسرعةٍ في جسد الاقتصاد السوداني المنهك الهش. فقد بدأ السودان في الاستدانة من المصارف التجارية، وفتح اقتصاديو صندوق النقد الدولي خزائنهم بسخاءٍ لنظام نميري. وكانت ضمانة الدائنين هي النفط الذي تمَّ اكتشافه في جنوب السودان. ويبدو أن اقتصاديي صندوق النقد الدولي لم يشملوا في دراستهم عن نفط واقتصاد السودان المخاطر التي يمكن أن تنتج عن تجدّد القتال في جنوب السودان.
ولا بُدّ من الإشارة هنا إلى أن نظام نميري كان قد أصبح الطفلَ المدلّل للغرب بعد أن قام بالضرب بيدٍ من حديد على الحزب الشيوعي السوداني، أكبر الأحزاب الشيوعية في العالم العربي وأفريقيا في ذلك الوقت، إثر الانقلاب الفاشل للحزب في شهر يوليو عام 1972.
كما أن نظام نميري (والذي كان قد أصبح نظاماً إسلامياً متكاملاً وقتها) سمح لإسرائيل في شهر نوفمبر عام 1984 بترحيل اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى السودان، ثم نقلهم بالطائرات الإسرائلية من داخل السودان لدولة إسرائيل مباشرةً. ونال السودان بذلك العمل المزيد من الرضاء من أمريكا ودول الغرب الأخرى ومؤسساتها المالية.
13
أفاق صندوق النقد الدولي على ديون السودان المتزايدة للصندوق إثر الضربة الناجحة التي قامت بها الحركة الشعبية لمواقع النفط في جنوب السودان، والانسحاب الكامل لشركة شيفرون من السودان في بداية عام 1984. كانت قروض الصندوق للسودان قروضاً قصيرة الأمد، وكبيرة الحجم، وبأسعار فائدةٍ عالية، لاقتصادٍ هشٍّ ومحدود الإنتاج.
بدأ حلول سداد الجزء الأكبر من الديون تلك في النصف الثاني من عام 1984. وبما أن توقّعات إنتاج وترحيل وبيع نفط السودان لسداد تلك الديون كانت قد تبخّرتْ تماماً بذاك الوقت، فقد كان على إداريي صندوق النقد الدولي مواجهة ذلك الوضع الحرج. وبات واضحاً لصندوق النقد الدولي أنه بلا نفط فلن يستطيع السودان تسديد المستحقات من ديونه للصندوق. وقد حدث ذلك بالفعل، ولم يستطع السودان سداد قسطٍ واحدٍ من مديونيته لصندوق النقد الدولي.
14
في شهر سبتمبر عام 1984 أصبح السودانُ أولَ دولةٍ في تاريخ صندوق النقد الدولي تفشل في سداد ديونها للصندوق. وأعلن مجلسُ إدارة الصندوق السودانَ دولةً غير متعاونة في بداية عام 1985، وأصبح السودانُ بذلك أولَ دولةٍ في تاريخ صندوق النقد الدولي تنال تلك الصفة.
عند زيارته لواشنطن في نهاية شهر مارس عام 1985، التقى الرئيس جعفر نميري ببعض إداريي صندوق النقد الدولي. وقد أوضح له أولئك الإداريون خطورةَ الموقف، وطالبوه بالاستعانة بالصناديق العربية والإدارة الأمريكية لسداد تلك الديون. وكانت ديون السودان لصندوق النقد الدولي تقترب بسرعةٍ في شهر مارس عام 1985 من ستمائة مليون دولار.
15
انهار نظام نميري في بداية شهر أبريل عام 1985، دون أن يتقدّم خطوةً واحدة في اتجاه حلِّ مشكلة مديونيته لصندوق النقد الدولي. وبسببِ إعلان السودان دولة غير متعاونة فقد توقّفت معظم المنظمات المالية الأخرى من التعامل مع السودان. وهكذا تمدّدت لعنة الموارد عبر شرايين اقتصاد السودان الهش المنهك، وعبر حكوماته المتعاقبة.
زار وفدٌ وزاريٌ من حكومة الانتفاضة واشنطن في شهر يوليو عام 1985، واجتمع مع موظفي وإداريي صندوق النقد الدولي لمناقشة ديون السودان للصندوق والتي كانت تقترب بسرعة وقتها من سبعمائة مليون دولار، وكذلك ديونه لبقية المنظمات المالية الدولية والبنوك التجارية، والتي كادت أن تصلَ إلى تسعة مليار دولار. وقد سبقت زيارة ذلك الوفد زيارةٌ قام بها رئيس وزراء حكومة الانتفاضة الدكتور الجزولي دفع الله لواشنطن.
غير أن همَّ اقتصاديي وإداريي صندوق النقد الدولي كان دفعَ السودان لديونه للصندوق، وطيَ ذلك الملف الحرج للصندوق. عليه فقد انتهى الاجتماع من حيث بدأ، وعاد الوفد الوزاري لحكومة الانتفاضة إلى الخرطوم خالي الوفاض.
16
وقد استقال السيد عوض عبد المجيد وزير المالية في حكومة الانتفاضة في شهر يناير عام 1986 بسبب الخلافات مع زملائه في الحكومة حول الإجراءات الاقتصادية التي يستلزم القيام بها لمواجهة الوضع الاقتصادي الحرج الذي كانت البلاد تواجهه.
تمّ تعيين الدكتور سيد أحمد طيفور وزيراً للمالية خلفاً للسيد عوض عبد المجيد. وقد زار السيد سيد أحمد طيفور واشنطن واجتمع مع إداريي صندوق النقد الدولي في شهر فبراير عام 1986. حاول الدكتور طيفور شرحَ الظروف الاقتصادية الحرجة التي يواجهها السودان، وناشد الصندوقَ تأجيل وقت سداد ديون السودان للصندوق بعام. غير أن همَّ إدارةِ الصندوق كان دفع السودان لديونه التي حان وقت سدادها، وانتهى الاجتماع بلا اتفاق.
17
ورثت حكومةُ السيد الصادق المهدي الائتلافية في أبريل عام 1986 ذلك الوضع الحرج وديون السودان الخارجية، والتي كانت تقترب من العشرة مليار دولار.
غير أن تنصّل السيد الصادق المهدي من إعلان كوكا دام، ورفضه إلغاء قوانين سبتمبر، وعلاقاته الوطيدة بجمهورية إيران الإسلامية (التي كانت على خلافٍ حاد مع الغرب وقتها)، وتصعيد الحرب في الجنوب، زادت علاقة السودان بالغرب، والوضع الاقتصادي، تعقيداً وسوءاً. وقد انهارت بسرعة الآمال العريضة لوقف الحرب في الجنوب وتبخّرت معها آمالُ عودةِ شركة شيفرون لتعاود إنتاج النفط في جنوب السودان.
وقد انهارت لتلك الأسباب أيضاً الاتفاقية المبدئية التي كان يمكن بموجبها سداد ديون السودان لصندوق النقد الدولي بمنحٍ وديونٍ طويلة الأمد للسودان من بعض دول الغرب. وزادت العلاقات بين السودان وصندوق النقد الدولي ارتباكاً وتعقيداً، وزادت ديونه للصندوق ولبقية المنظمات المالية والبنوك التجارية في حجمها. وجاءت زيارة السيد الصادق المهدي لواشنطن ونيو يورك في شهر سبتمبر عام 1986 بنتائج عكسية لتوقّعاته وتوقّعات حكومته.
18
انهارت حكومة السيد الصادق المهدي تحت دبابات الإنقاذ في 30 يونيو عام 1989. كانت مديونية السودان لصندوق النقد الدولي في ذاك الوقت تقترب من المليار دولار، بينما كانت ديونه الخارجية تقترب من ثلاثة عشر مليار دولار.
ظلَّ السودان مُصنّفاً كدولةٍ غير متعاونة بواسطة صندوق النقد الدولي. ثم أعلن الصندوقُ تعليقَ حقِّ السودان في التصويت في مجلس الإدارة كخطوةٍ لاحقةٍ تلقائية لتصنيف السودان كدولة غير متعاونة.
19
وهكذا بدأت وتواصلت لعنة الموارد على السودان. فقد تبخّرت أحلام استخراج وتصدير النفط، وحلَّ مكان ذلك الحلم كابوسُ ديون السودن الخارجية، والتي ظلّت تزداد يوماً بعد الآخر بسبب تراكم الفائدة والعقوبات على عدم السداد.
وكما ذكرنا أعلاه فقد اشتعلت الحرب الأهلية في السودان في مايو عام 1983 بسبب عوامل كثيرة من بينها اكتشاف النفط في السودان، والذي كان جُلُّه في جنوب السودان.
وقد قرّرت حكومة الإنقاذ وقف سداد ديون السودان للبنك الدولي عام 1991، ليلحق البنكُ الدولي بصندوق النقد الدولي في ذلك العام، وليصبح السودانُ الدولةَ الأولى في تاريخ المنظمات المالية الدولية التي تتوقّف عن سداد ديونها للمنظمتين في وقتٍ واحدٍ.
وتوقّف البنك الدولي عام 1991 عن دراسة والموافقة على أيِّ مشاريع وقروض ومنح جديدة للسودان، كما فعل صندوق النقد الدولي عام 1984. وتشمل ديون السودان الخارجية في الوقت الحاضر أكثر من مليارين وربع المليار دولار، تتضمّن أصول الديون التي مضى وقت سدادها لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكذلك الفائدة المتراكمة والمتزايدة على هذه الأصول.
20
بعد نجاح حكومة الإنقاذ في إنتاج وتصدير النفط عام 1999، بدأت الحكومة في دفع مبالغ محدودة لصندوق النقد الدولي لسداد الفائدة من ديون السودان لصندوق النقد الدولي، دون سداد أي جزءٍ من أصول الديون الواجبة السداد. وقد نتج عن هذا الوضع إزالة إسم السودان عام 2000 من لائحة الدول غير المتعاونة، واسترداد السودان لحقِّ التصويت في مجلس إدارة الصندوق.
غير أن لعنة النفط تضخّمت وتطاولت وتمدّدت، وأدّت لارتفاع ديون السودان لتصل إلى قرابة الخمسين مليار دولار هذا العام، بعد سبعة عشر عام من بدء الإنقاذ استخراج وتصدير النفط واستخدامه كضمانة لسداد تلك الديون، وبعد ستة أعوام من ذهاب جلِّ النفط مع دولة الجنوب.
21
لكنّ نجاح حكومة الإنقاذ في استخراج النفط وتصديره عام 1999، أدّى مع عوامل أخرى، إلى تسارع وتيرة التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية، والوصول إلى اتفاق السلام الشامل.
غير أن اتفاق السلام الشامل نفسه، أدّى بسبب النفط (كعاملٍ رئيسي)، إلى انفصال جنوب السودان، وذهاب جلِّ النفط مع الدولة الجديدة، كما سنناقش في المقالين القادمين.
[email protected]
www.salmanmasalman.org


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.