ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رباح الصادق المهدى : عشرُ حواشٍ على مَتنِ أمِّ الكرام
نشر في حريات يوم 22 - 01 - 2017


بَعد عَام : عشرُ حواشٍ على مَتنِ أمِّ الكرام
رباح الصادق المهدى
(1)
2016م، سنةٌ كبيسةٌ بالآلام، تماماً مثل 2008م حينما رحلت أمي سارا، ففيها عبرت إلى الضفة الأخرى يمة، أمُّ الكرام.
بعد الخامسة بقليل، فجر الخميس 21 يناير، كنا في أبها بالسعودية، تفصلنا مئات الكيلومترات عن البقعة. رن جرس المحمول خاصة عبد الرحمن، لم نكُ سمعنا بأن (يُمة قِبْضَت) ليلاً وأحيلت للمستشفى.
(يا ساتر)، قالها وأجاب. أعلمُ أنه كان يستغيث ربه أن يستر عليها. فهمتُ أن محدثه ابن اخته (الرشيد الخواض)، هبط سكونٌ عجيبٌ عليه، وسمعته يعزي الرشيد ويهدئه: الدوام لله، جايز، هو مراد الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.. أيقنتُ أن الفقد خاصة الرشيد، سألتُه:
– من المتوفى؟
– أجاب وهو ينظر في الفراغ: يمة!
يمّة التي قضيتُ طيلة عشرين عاماً معه وأنا أدركُ أنه يخشى سماع خبر عبورها كأكثر شيءٍ يخشاه في الوجود، لعله الشيء الوحيد. كان لا يفوّت يوماً إلا وحمله الثاني لودنوباوي ليسكن إليها ويطمئن. إذا جادت السماء خشي أن يخرق الغيثُ سقفها فيهرع متفقداً، ولو كان ذاك ليلاً لاذ بسبحته وبرك على السجادة متضرعاً لله أن يحفظ الآل في ودنوباوي، حتى يطلع الصباح. إنك يا رب رحيم، أنزلت هذا اليقين عليه أمَنَةً كما تغشيت النعاس على صحابة رسولك صلى الله عليه وسلم يوم التقى الجمعان.
(2)
وُلدت أم الكرام حاج العاقب في بيت دين وتقى وعلم ومديح، في النصف الأول من عشرينات القرن العشرين، كان والدها (سيدنا)(1) ود حاج العاقب على غير عادة مجايليه خديجياً موحداً كرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة إذ اكتفى بخديجة لم يتزوج عليها أبداً، فعاش معها حياته الأطول كزوج، نحو 25 عاماً، ولم يعدد إلا بعد وفاتها بسنين، وقد انتقلت بمكة في نفس العام الذي انتقل فيه أبو طالب، فأُطلق عليه: عام الحزن.
كانت زوج سيدنا والد أم الكرام هي حسب سيدا بت سيد أحمد ود الحسين ود التوم، كريمة ابن عمه الشيخ سيد أحمد بحلة قوز بدر شمالي شندي. كان سيد أحمد أحد رجالات المهدية الباقين على ولائها بتمسك أسطوري مثل غالب أولئك الرجال الذين قضى أكثر من عشرين ألفاً منهم في ضحوية كرري (وليس عشرة آلاف كما أشاع سفاح أم درمان، كتشنر، ضمن محاولته أن يخفي الأرقام تنصلاً من مساءلة البرلمان البريطاني آنذاك). وبقيت غالبيتهم على الولاء بعدها، فقد أثبتت دراسة أعدها الباحثان الأمريكيان (ريتشارد ديكميجيان ومارقريت فايزوميريسكي) بعنوان (القيادة الكاريزمية في الإسلام: مهدي السودان)(2) ثبات الولاء للمهدية منذ بدايتها وإلى ما بعد زوال دولتها حيث تطرقت ل140 قائداً مهدوياً حافظ 90% منهم على ولائهم للمهدية، وأكدت تنوع خلفيتهم الاجتماعية وتمثيلها لكل قطاعات المجتمع السوداني. (3)
كان فصيل شيوخ الدين ومعلمي المسايد إحداها، وينتمي إليها الشيخ سيد أحمد الذي مثل كثيرين آخرين من جيله المهدوي لم يستطيعوا مواكبة العهد الجديد، فاعتزلوا كل شيء ووجهوا من استمع لهم بمقاطعة التركية اللاحقة ومدارسها وإدارتها وبندرها، وظلوا في عزلتهم حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً.
أما صهره محمد أحمد (ود حاج العاقب) فقد كان تلقى تعليمه في خلوة بالمتمة وخلاوى الغبش ببربر، وحينما سمع بأن (ود المهدي) قد رفع الراية من جديد، هرع إليه في أم درمان مبايعاً، وكانت أولى قصائده تنم عن شوق فتق الجراح بتعبيره:
يا خليلي طال الشوق اراح
نلفى ام عجل نطوي البراح
شوق الحبيب فتق الجراح
ومن فرقه قلبنا ما استراح.
فكان من أبرز أعلام الطور الثاني في العمل الدعوي والأنصاري. انخرط مبشراً برفع الراية وسائحاً لنشرها. وهو الطور الذي تمثّل مقولة الإمام المهدي: (إنما لكل وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال). كان مثالاً للتحول داخل الأنصار، لأولئك النفر الذين أدركوا وتيقنوا رغم إيمانهم بالمهدية في طورها الأول، من حكمة قائد الركب الجديد الذي غيّر في موقف المهدية إزاء ركيزتي الجهاد والزهد (4)، فآزروه ونصروه بقلبهم وربهم، وبنوا في النهاية معه استقلال السودان الثاني، مثلما لا تزال الدراسات تكشف وتمحو اللجج.
(3)
حاج العاقب (الصغير) والد حبيبتنا (ت 1971م)، هو حفيد حاج العاقب (الكبير) (ت 1879م)(5)، المادح النبوي الشهير الملقب ب(البرعي الصغير)، وقد وصفه البعض ب(سلطان العاشقين) بين مداح النبي صلى الله عليه وسلم السودانيين، وقد عاش جانباً من حياته في العهد السناري وردحاً منها إبان احتلال (التركية السابقة)، فضاق ذرعاً بمظالمها البالغة وخاطب ربه شعراً: يا مجير جيرنا/ من زماناً ذل فقيرنا/ إما ديرهم.. إما ديرنا/ إما جيب المهدي أميرنا.
وصفه حاج الماحي مقراً لريادته ب(العاقب المشهور). واشتهر بكرامة تكليم رسول الله صلى الله عليه وسلم له راداً عليه السلام. هو الذي أكثر من إنشاد محبته للحبيب وذم شبابه أن لم يسع إلى وصله: (عيب شبابي الما عنا والله لي سيد منى)، و(عيب شبابي الما رحل والله لي ذاك المحل)، و(عيب شبابي الما هرب والله لي خير العرب)، و(عيب شبابي الما رجع والله لي شافي الوجع).
كان حاج العاقب الكبير ثمرة المدرسية السودانية في العهدين السناري والتركي، يمثل روح المحبة المصطفوية في أوجها، والتقوى والصلاح الذي تفتق على أرض سُميَت منذ القدم ببلاد الطهر، هكذا عرفها اليونانيون القدماء، كما كان يمثل الرفض الشعبي المائر للبغي التركي قبل أن يتبلور في المهدية. لذا لم يُستغرب أن كان ذويه وقومه من بعده من أوائل الملتحقين بالمهدي لدى ظهوره فذهبوا لمبايعته زرافاتٍ ووحداناً. (6)
وكان العاقب الصغير حفيداً للكبير بأمه زهراء ابنة حاج العاقب الكبير(7)، واسمه محمد أحمد (المهدي) ود العاقب ود التوم، روت السيدة آمنة العاقب، حفيدة شقيقه، أن أمه زهراء كانت تضع صفاتٍ مسجوعة لأبنائها بعد تسميتهم، وحول ابنها الذي سماه والده محمد أحمد المهدي، تيمناً بالإمام، قالت إنه: (المهدي المهنّى، الرفع جهلنا، وحيا اسم اهلنا)، وشرحت آمنة بأنه فعلاً حقق وصفها فبمذاكراته أشاع العلم ودحر الجهل، كما أنه أحيا اسم جده لأمه المادح حاج العاقب الكبير، فصار يقال: حاج العاقب الصغير.
وكان شبيهاً بجده لدرجة بعيدة في صلاحه وتقواه وإجماع كل معارفه على سموه وتشربه بروحانية فائضة، وعلم غزير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقبه، كما كان ملتزماً بالمهدية، عاملاً وعالماً نحريراً، واسعاً، هيناً، ليناً، حبيباً محبوباً.
رحل ود حاج العاقب الصغير بأسرته التي كانت تتكون من زوجه وبناته أم الكرام، ومقبولة، وصديقة، وابنه الطاهر واستقر في أم درمان، حي الهجرة، قريباً من دار الإمام عبد الرحمن بودنوباوي.. وكانت أم الكرام حينها بعمر نحو ست سنوات، وفي أم درمان أنجبا صفية وعبد الرحمن.
طاف سيدنا حاج العاقب كل السودان لرفع الراية، قال لي أحد الأنصار من نهر النيل: "حاج العاقب أتى بكل السافل للإمام عبد الرحمن"، فكل مجموعات الشمال الأنصارية من أهله الخريساب أو مجاوريهم من جبلاب وعكداب وموسياب ومجاذيب تعرفه وتعترف بفضله في ربطها برباط العقيدة من جديد.. لكني علمتُ من أحباب في الصعيد كذلك، في النيل الأزرق، وسنار، وآخرون في دار صباح، نواحي خشم القربة، وغيرها من الجهات، أن حاج العاقب كان هو الطائف الذي يطوف مناطقهم بين حين وآخر مع ركب ميمون يشمل بعض تلامذته، مبشراً ومذكراً ومجدداً عهود الأنصار للمهدية وتحت قيادة (ود المهدي) الذي تصدى لرفع الراية، يزور المسايد، يذكّر بالتمسك بالكتاب وبالراتب، وينشد ورواته مدائح المهدية التي يحفظونها ويزيدهم من نظمه الجديد.
كان الوحيد من أصحاب الإمام عبد الرحمن الذين آخاهم بأبنائه رمزاً مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان رضي الله عنه، قائلاً: سلمان منا أهل البيت، فكان الإمام عبد الرحمن يطلب من كل زوجة من زوجاته تلد أن تضع بعض حليبها في فنجان ليشرب منه حاج العاقب، رامزاً لرباط البنوة بالرضاع، وإن فات أوانها.
كان شاعراً كجده، شديد الروحانية، كثير الرمز، مجيداً للغة، غزير العلم. نظر إلى قصيدة الخليل (في الضواحي وطرف المداين يللا ننظر شمس الصباح) فجاراها في مدح الإمام عبد الرحمن المهدي: (من أبانا ووشل أم جناين.. يللا ننظر شمس الفلاح)، ووشل هي أم درمان. كما نظر إلى قصيدة سيد عبد العزيز (يا ناس أنا ما معيون أذاي ودواي خدود وعيون) فقال:
يا قوم أنا في المجروح
دواي وشفاي في وصال الروح
يا خالق الروح
بحق مهديك وبحق الروح
في رسولك ازور صدرا مشروح
وفيه اعب ومن بعده اروح
كان محباً، يكثر من ذكر الروح حتى يخال إليك أنه ما له في غيرها نصيب. هذا الضرب الروحاني وجد في قصيد طور المهدية الأول مثل: (ربيني يا مربي للأرواح)، و(أبو البشرى يا إمام الحضرة)، وغيرهما خاصة لدى ود سعد، لكن أكثر مديح الطور الأول لدى ود سعد ذاته كان صدىً لوقع معارك المهدية والتبشير بأبطالها وبالجهاد. (8)
وقد جارى حاج العاقب جده في تعداد المدائح من نفس المطلع كما رأينا في (عيب شبابي)، فعدد في مدح الإمام عبد الرحمن بذات المطلع قائلاً على نسق رائعة أبو صلاح (شوف العين قالت دلالا): (صادق الحق صاحب الدلالة سيد روحي الختم الكمالا)، و(صادق الحق صفوة رسوله، سيد روحي الطاهرات نسوله)، و(صادق الحق صاحب الضراعة)، وهكذا.
(4)
نشأت أم الكرام إذن في جوٍ من الصفاء الروحي والتُقى، وأصدِّقُ أنها كانت أشبه الناس بأبيها. في هؤلاء القوم شيءٌ عجيب، أسمى مما يظن الإنسان أن يلتقيه على الأرض، سيمفونية إلهية. خلطة من السمو، وتوطئة الأكناف، مفارَقَةً للناسوت.
مهما حدثتها ما كنت تظفر منها بشيء من أغراض النفس وآثارها، هل كانت أم الكرام محض روح؟ تفكرتُ فيها فكتبتُ هذه الفقرة، ثم دهشتُ لما اطلعت على إحدى مدائح أبيها تصف بالذات ما ظننتُ أني نحتّه نحتاً: روحٌ ولا نفس، قال: (نِعْم العَنَا وقافى/ وعافْ وطن النفوس والروح عِرِف قافها). يا نعم أم الكرام!
ما كانت تذكر أحداً أصلاً، ناهيك عن اغتيابه، وإن ذُكر أمامها الآحاد ما كانت تصفهم ولا تلغ في سيرتهم، لكنها تسألك بحنو عنك وعن ذويك فرداً فرداً، وبالنسبة لي كانت دائبة السؤال وتفقد أحوال وأخبار الحبيب (الإمام) الذي تكن له محبة عظيمة.
كانت (شفقتها) مهولة على الصغار تسعى لإكرامهم حالما يأتون، كل الصغار من كل نبع لديها محط اهتمام عجيب، لم تكن تفرّق أبداً فكلهم سواسية في محبتها وعطفها وحرصها على قوتهم مثل حرصها على ضمهم ولمهم. وكذا لدى إكرام الضيف كانت تسرع لتنبيه من حولها حالما يحضر زائر لإكرامه، في الحقيقة تنبيه أماني تحديداً، آخر عنقودها، وخاتمة الكرام.. هذه وغيرها لحظات كنتُ أستدرك فيها أن أم الكرام كائنٌ أرضيٌّ يهتم بالخبز فليست محض روح! تعجبتُ كثيراً وأنا أتأمل فيها وتساءلتُ كيف كانت في شبابها؟ وهل كانت كنمط النساء المألوف الذي فارقته في كبرها؟ هل كانت تتزين مثلهن أم أنها كانت مثل الشيخة (بتول اليعقوبابية)، التي رفضت النمط فلقبوها ب(الغبشا)، بل رووا من كراماتها شكوى زوجها أنها كانت إذا زارها تنقلب وحشاً أو تمساحاً وبالكاد أنجبت له الشيخ هجو أب قرن.
لعل المرحوم الغالي الجعلي نظر لشيٍء من هذه المفارقة الناسوتية في طباع صهره حينما أزمع زواجها، إذ رُوي عنه أنه قال: (بِتْ سيدنا دي يكاتلوها كيف)؟ أي كيف يمكن أن يختلف معها دارج اختلاف الأزواج؟ وأظنه لم يذق أبداً ذلك (الكتال) المتوجَّس منه، فما لقداحةٍ أن تشتعل في بحر.
وقد وحّد الغالي كذلك بأم الكرام، التي تزوجها بعد تجربة أولى لم تفلح، وذلك خلافاً لما عليه غالب أبناء جيله وقومه الجبلاب آنذاك. الخديجية نهجٌ متكرر لدى الرجال والنساء الظافرين بعلاقة تشع سكناً ومودة ورحمة وسكينة، أما إن هبطت العلاقة في تلك المقاييس، يختل توازنها فتتعدد أو تتبدد.
(5)
أنجبت أم الكرام أحد عشر، ما شاء الله، توفيت الثانية، خديجة وهي بعمر نحو ثماني سنوات جراء علة قلبية لم يستطع الطب آنذاك مداواتها. أما العشرة الآخرين فقد كانوا دليلاً في ذلك الزمان (الذي تقول فيه النسوة لبعضهن: ألْدَنْ، ما بتعرفن حقكن من حق الله)، على مستوى وعي أم الكرام العالي. يذكر الأستاذ محمد نور الدين السبعاوي في كتابه (اتجاهات حديثة في الجغرافيا الطبية) عدداً من المؤثرات البشرية على المستوى الصحي ووفيات الأطفال، ومنها مستوى التعليم، والسلوك الاجتماعي للأمهات. فأمية الأمهات بشقيها الأبجدية والحضارية شكلت أحد أهم أسباب ارتفاع نسب وفيات الأطفال دون الخامسة، كما أشارت (الأنثروبولوجيا الطبية) وعلم الاجتماع الطبي للأثر الصحي لعادات ومعتقدات الشعوب، وعلاقتها بمعدلات وفيات الأمهات والأطفال دون الخامسة. ولو كان بالسودان وعيٌ بالممارسات والاعتقادات الكثيرة الضارة بصحة الأطفال ومن ذلك على سبيل المثال إعطاؤهم أولوية متدنية في سلم التغذية داخل كثير من الأسر، حيث توضع الموائد للرجال ومن ثم يتغذى على بواقيها النساء ثم الأطفال. لو كان هناك وعيٌ وتتبع لأسباب ارتفاع نسبة الوفيات دون الخامسة لعلموا أن أمهات هدتهن فطرتهن وحنانهن الدافق لعكس هذه الآية اهتماماً متزايداً بالطفل وتغذيته، وبإكرامه على نحو ما كانت تفعل أم الكرام، ولكانت وأمثالها حرية بجائزة الأم المثالية.
(6)
كانت أم الكرام تتلقى مدارسات ومذاكرات والدها الشيخ الدائبة في منزلهم ضمن نساء الأسرة، متضمنة دروساً في الفقه والعبادات، ومشتملة أحياناً على مذاكرات حول شؤون الحياة المختلفة. وقد ذكرت لي أنها كانت كذلك تحضر دروس الإمام عبد الرحمن المهدي لمذاكرة النساء أسبوعياً. كما علمتُ أنها نالت قدراً من التعليم الأبجدي على يدي شقيقها الأصغر عبد الرحمن الذي اختلف هو وأخوه الطاهر على المدارس المدنية، وقد طلب منه والده تعليم أخواته القراءة والكتابة.
أما حضارياً فقد كانت أمُّ الكرام متقدمة كثيراً على بنات جيلها، كانت خلية عن خزعبلات الاعتقاد والممارسات المرتبطة بها من حُجُب، وتمائم و(فكيا)، وزار، وما إليه، لعل ذلك من أثر التوحيد المهدوي الصارم وتشربها وأسرتها به، كذلك كانت بعيدة من العادات التي سماها الإمام المهدي (العادات المبعدة من الله ورسوله) من مباهاة وتطويل في المناسبات.. ومع الغرق الروحاني، والإيمان الصمد، كانت غارفة من العقل متطلعة للعلم شغفة به، وربما كان لزوجها المرحوم الغالي الجعلي أثرٌ إضافي في جعل بيتهما هكذا بؤرة للاطلاع والعلوم، فكانت بناتهما أول من تعلمن في محيطهن العائلي، وأبناؤهما آية في تحري العلوم والمعارف، بل كان بيتهما كأنه داخلية تؤوي طلبة العلم من الأقربين.
كانوا في آخر أيامها لو أرادوا استنطاقها (يجرّون خيطها) بمحفوظات تحبها من آيات القرآن الكريم، أو راتب الإمام المهدي عليه السلام، أو مدائح والدها وغيرها، كانت حصيلتها المحفوظة ضخمة، حتى حينما ذبلت الذاكرة، وكثيراً، ظلت ناضرة متقدة بهذه النصوص الأثيرة.
(7)
عاشت أم الكرام حياة رخيةً في كنف الغالي رحمهما الله، وكانت أبلغ صفاتها مع قوة الإيمان اللطف والإحسان والحنان. كانت تحسن للبشر وللقطط وللطير وكل ذي كبد رطب. بيتها بيت كرم وضيافة لا ينقطعان، فمن حالّين فيه لأشهر أو سنين، ومن زائرين لا ينضبون، ومن أيادٍ بالخير تصل ذوي المسغبة، وهدايا تبلغ أهل المودة. قال أحمد ابنها الذي لم يزل في شط العزوبية: أريد زوجة تكون إذا حضر ضيوف وكأن في البيت حريقا! لعله يذكر كيف كانت "يمة" تقف بلا كلل في إكرام الضيفان أيام صحتها، ومن ورائها أخواته، ثم يحضر مرتضى حاثاً إياهن من طرف المطبخ على الزيادة، قبل أن تنفذ (طرق) الكسرة أو الملاح أو يُنتهش الضلع، أو يفرغ أي طبق كان. بيتُ يعد تمثيلاً صادقاً للوحة القِرى السودانية التي ذكرها المرحوم صلاح أحمد إبراهيم وهو يصف مناقب هذا الشعب الأبي:
دا اخو الواقفة تعشى الضيف
الحافظ ديمة حقوق الغير
سيد الماعون السالي السيف
الهدمه مترب وقلبه نظيف
لكنما يمة ورهطها جمعوا بين نظافة الملبس والقلب، وقد تحدث المرحوم الطيب محمد الطيب من قبل عن الآداب التي غرسها الإمام عبد الرحمن المهدي في الأنصار من الاهتمام بالمظهر ونظافة وترتيب الملابس، حتى كادوا يعكسون الآية التي وصفها المادح النبوي والمهدوي الأبرز، أحمد ود سعد، في مدحهم إبان عهدهم الأول: (أنصارك المنصورة، جمالهم باطن مو صورة). لأنهم أضافوا لجمال الباطن الاهتمام بالصورة في حسن أزيائهم وتزيين ديارهم والاهتمام بالفنون طراً. والحقيقة، لم يكن مدح الطور الأول كله لجمال الباطن، فنحن نرى أحمد ود سعد يمدح خليفة المهدي بقوله: (يا حسين الصورة، ملة الإسلام عليت سورا، جبرت قلوبنا المكسورة). وود أب شريعة يمدح المهدي بقوله: (يا حسين الصور، أبي الفاضل خليفة الفي طيبة حاوي السور).
ولو فُتح باب الفنون في هذا البيت لرأيت عجباً، خزائن من المعرفة بفنون الغناء والشعر على مر حقبه، ليس فقط الحقيبة التي يعد مرتضى فيها عمدة ومرجعاً، وهو عمدة كذلك في أدب وأشعار الجبلاب ومدائحهم الأنصارية. لكنك سوف تستمع لمن يحفظ (مصطفى) عن ظهر قلب، ومن يتابع (الحوت) بمحبة، ومن يوقع أغاني (الكاشف) بموسيقاها من طق طق لسلام عليكم، ومن يؤمن ب(وردي) وهكذا.
صارت هذه السيدة مثلاً لجيل متشرب بالقيم السودانية الأصيلة، كارع من منهل المهدية التي تمثل ثمرة العبقرية السودانية وبنت تجليها، وفي ذات الآن منفتح لقبول الآخَر حتى الآخِر.
وصف الأمير عبد المحمود أبو في يوم تأبينها كيف كانت تؤويهم وتستضيف أبناء العقيدة وغيرهم من الأهل والأصدقاء من مختلف المشارب بترحاب وكرم، وكيف أتاحت لأبنائها حرية الاختيار ولم تضجر برغم تمسكها الأنصاري أو تتأفف من خياراتهم مهما كانت، فكان هذا التنوع البديع في نسيج بيتها، يلفه خيط جامع من تلك الخلال الكريمة.
وانت تجد/ين مؤمناً تأرجح من اليمين لليسار، ومرتضى يعتد باستقلاله، والغالبية تنشط بحماس في تكوينات حزب الأمة والأنصار، وكلهم لم يفارق أحدهم الاستقامة، ولا مدّ يده لمال الشعب أو ولغ في حقوق الآخرين. قال لي صديقٌ ذهب لعزائهم في مصابها العام الماضي مذهولاً: هناك أدبٌ لدى هؤلاء الناس قلَّ أن يوجد في هذا الزمان.
الوالد النعمة، حبيبنا الإمام حفظه ربي، قالها في معرض المزاح، إذ لاحظ محبة عبد الرحمن البالغة للشاي. ففي رمضان حينما نفطر جماعياً يتثاقل على الطعام، لكنه حينما يحضر الشاي يقوم لصبِّ كوبه، قال الحبيب واصفاً عشقه للشاي: الأديب في الناس للقاك يتهبَّل!
وكلهم يحبون تحديداً (شاي يمة) وكل ما يُقدَّم في دارها، حد الإدمان.
(8)
بكاها يوم نعيت كثيرون و(جعر) الرجال والنساء من جيرانها وأصهارها الجبلاب بعالي الصوت، ذكروا حنوها الدافق كأنها أمهم جميعاً، كيف احتضنتهم وقربتهم وأحبتهم فأحبوها، كيف أحسنت إليهم وأذهبت محاقهم يوم استصرخوها، بل كيف سبقت بالعطاء وأجزلته، وكيف تفقدتهم، كيف أسمعتهم طيّب الكلام وأمسكت عن كل سوءٍ آن أوانه لدى المشاحنات، وخلت عن كل غلٍ هو ديدن البشر في الاختلافات، ذكروا من مناقبها ما أبكى الحجر.
أما قومها فمن عادتهم الصمت والصوت الخفيض، فكرتُ ساخرة: ربما لذلك أسموهم (الخريساب)، وهم كما رأينا من أعلام البلاغة الذين سارت بذكرهم الركبان. خرسٌ لا لعجزِ نطقٍ، ولكن لخفضِ صوتٍ وقلةِ خوضٍ فيما فيه قومهم الجعليين من ضجيج الحياة وصرخان ألوانها. يروي أبناؤها ضاحكين كيف زارتها مرة إحدى قريباتها وكانت على غير عادة أهلها تتحدث وتضحك بصوتٍ عالٍ سمعه الغالي وبعد ذهابها سأل أم الكرام: من زارتكم اليوم من أهلي الجبلاب؟ فردت: لم تزرنا جبلابية بل من أهلي الخريساب، فغالط ولم يفهم أبداً أن صاحبة ذلكم الصوت البالغ "الديوان" يمكن أن تكون خريسابية!
ولو تعلّمنا منطق الطيرِ لسمعنا ذكره لعلاقتها الممتدة به وموالاتها له بالطعام.. أما القطط فكانت تساكنها وتتابعها حيث حلت ملاصقة فتحنو عليها وتطعمُ، وقد ذكرت زادُ التقى هذه الحالة في قصيدةٍ لها كتبتها انفعالاً بكلمات كتبها وائل (حفيدها) في 2009م في الحنين لشجرة النيمة، والنيمة عنده تعني (ناس يمة)، قالت:
أما أمِّي فلها درِّي أمّ الأجيالِ المنتظرة
تهدي للرشدِ وتنصحُ بل تبدي عطفاً قولاً دُرَرا
بردٌ وسلامٌ وأمانٌ وحرارةُ قلبٍ مستعرة
تمحو سأماً تمنحُ حباً وتبدِّدُ عُسْراً أو كدَرَا
هِرَّاتُكِ تحمِلُ عِرْفَاناً وتموءُ فهل تعْلمُ أمرا؟
وحينما فاضت روحها الطاهرة قدمت بيتها قطةٌ جديدة لم تبارحه كأنها صاحبة المقام، تنام كالإنسيِّ على الأسرّة، وتتطلع للموائد لا تأبهُ لزاجر، سماها بعض الضجرين: المؤتمر الوطني، بينما اعتبر آخرون أنها جاءت معزية، تحفظُ تاريخاً ربما يؤهلها لهذا الاحتلال!
(9)
من يُمْسِك بمتن أم الكرام؟
قال عبد الرحمن يصف الحبيب الإمام لدى زيارته الجبلاب في 2005م:
روحٌ مفاضٌ لا تسل عن كنهه إن السؤال عن المحال تبابُ
صَدَق! لا يصف الإمام وما يفرغه فيك من معنى مداد، حفظه الله.
وكذا لا تدرك متن أم الكرام كلمات.
كان فيها لطفٌ عجيب. لطفٌ لا يتجه لغايةٍ من مجاملة أو استظراف، لطفٌ هو سجية فيها. لا تضجر ولا تنهر، ولا تتأفف أبداً، كأنّ جدتها لوالدها عنتها في وصفها لابنها عبد الله (ود العاقب، اللي رب العباد راغب، الما غلّط على صاحب)، فقد كانت كذلك منصرفة بكليتها للذكر، لا تغلّط على صاحب، ولا غير صاحب.
ولا تطلب طلباً من أحد. وحينما (جَلَست) في آخر أيامها وصار لا مندوحة من تلك الطلبات كانت تبدو في غاية الحرج أن تطلب شيئاً، ربما إلا من أماني التي نذرت حياتها لها، فظلت تشاطرها ليالي الصحو والمرء يقل نومه مع العمر. حضرتُها مرة وهي تطلب من إحدى حفيداتها غطاءً إذ أحست بالبرد، متسائلة: لو عندكم غطا.. أقول، لو عندكم يعني غطا زايد، وظلت تكرر: (لو عندكم يعني) بانحراج يدرّ المآقي عجباً لهذا اللطف الأصيل.. هذا بينما هم كلهم أبناء وبنات وحفدة كانوا يتسابقون نحوها، يحتفون بتقديم أدنى خدمة لها، يهرعون لتلبية طلباتها قبل أن تكون. مربوطين بها برباط وثيق ومحبة لا تُجارى.. محبة هي التي بذرتها فنبتت أشجاراً باذخة سامقة ملتفة، جمعتهم بعروة لا انفصام لها اسمها أم الكرام.
(10)
أخذت تقية منها الوسع والمجال الواسع لذريتها والأجيال المحدثة، فكأنما تخرجت من مدرسة تربية حديثة حول حقوق الطفل في التعبير وحرية الاختيار. وسمعتهم يتحدثون عن حنو مؤمن ورقة قلبه على الصغار والكبار. وترى في مقبولة الصدق وعدم الركون للسائد والشائع كما يروى عن والدها الغالي، آية الصدق والعقلانية. وفي مرتضى ذلك التسامي على الصغائر والعاطفة الصادقة، رأيتُه يجلس قربها (يمسّد) أقدامها ويؤانسها ويناديها لا كما ينادونها بيمة بل ب(أم الكرام)، هي التي لا تترك أياً من ذراريها يجالسها بدون أن تمسح رأسه أو تمسك يده أو تمسّد قفاه. وفي زاد التقى روحانية ومحبة وأنصارية وكذا الحنان والشفقة المنثورة في الطرقات، وفي سامي ذلك العطاء المتصل الصامت والهم بالآخرين ونكران الذات، وفي سمية مع اللطف البالغ الرصانة والحديث الموزون بميزان الذهب، كما القُضَاة، وفي أحمد السخاء الحاتمي والهمة ومحبة الصغار وسد الثغرات، وفي عبد الرحمن الكثير منها من تسامٍ ووسع ولطف، وفي أماني كل شيء تقريباً مما يسحر النفوس ويجذب، وكلمة (سحر) ذكرها أحد مموليهم في ديوان الضرائب حيث تعمل، قال: (لا أدري كيف دفعتُ كل ما دفعت، بنتكم هذه سحرتني!)، أماني الصغرى التي هي أم وحاملة هم الجميع، وكانت أمي رحمها الله تقول (أماني صاحِبْتِي)، والشكولُ أقاربُ!
هل كان يدرك أبوها حين سماها أنها ستكون أم كرام؟ هو رجل محدّث ولا شك.. كانت تلك الخلال الكريمة نابعةً منها ومن صنوها رحمهما الله.
أحببتُ هذا البيت وأركانه وقد ولجته صديقةً لابنهم، وكنتُ إذ ذاك مرتبطة بآخر، لقد سبقت محبة أم الكرام وذريتها علاقة المصاهرة التي ربطتني بعدها بهم.. ثم صارت لي أماً بحنوها الدافق، وقد كانت أمي نبع حنانٍ ومودة يروي كل ظمأٍ، رحل إلى دار الخلود، أحسن الله نزلها في عليين.
وحينما عبَرَت أمُّ الكرام لم أستطع القول: انكسر المرق، واتشتت الرصاص، بل ظل إيماني قوياً أنما أم الكرام قد وضعت أثراً لا يُمحى، ليس فقط في العشرة الكرام، بل في كل من خرج من أو ولج إلى هذا البيت الذي أسس على الروح، والتقوى، والمحبة، والترابط، والصدق، والاستقامة، والعقل، والعلم، والوسع، والاحترام.
ألا يا رب فلتحسن وفادة أم الكرام، ألا يا رب فلتجمع قلوب أحبتها على نهجها، واطرح فيهم البركة، وقر أعينهم بثمرات غرسها في الدنيا والآخرة، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلي اللهم وسلم وبارك على رسولك منبع الهدى والخير، ولا حول ولا قوة إلا بك، وإنا لك وإنا إليك راجعون.
رباح الصادق
أبها في 21 يناير 2017م
هوامش:
(1) سيدنا لقب يطلق على الفقهاء من حفظة القرآن ومعلمي الخلاوى.
(2) انظر لتلخيص الدراسة في: عبد الرحمن الغالي، المهدية قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش، أو عرضها في: بدر الدين حامد الهاشمي، السودان بعيون غربية، الجزء الثالث (كاريزما القيادة في الإسلام: مهدي السودان).
(3) يطلق السودانيون على الاحتلال الثنائي اسم التركية اللاحقة.
(4) للتفصيل حول تأويل الإمام عبد الرحمن الجديد للجهاد وتفسيره للزهد الرجاء الرجوع ل الصادق المهدي: عبد الرحمن الصادق إمام الدين، ورقة منشورة في: يوسف فضل، محمد إبراهيم أبو سليم، والطيب شكاك، الإمام عبد الرحمن المهدي، مداولات الندوة العلمية للاحتفال بالعيد المئوي للإمام عبد الرحمن المهدي، مكتبة مدبولي 2002م.
(5) هناك خلاف حول تاريخ وفاة حاج العاقب الكبير فتجد بعض مواقع الإنترنت تذكر في ترجمته أنه توفي في 1830، بيد أن الثابت لدى أهله بقوز بدر أنه توفي قبل المهدية ببضع سنوات.
(6) روت السيدة آمنة العاقب في تسجيل توثيقي كيف ترافق كل من صهر حاج العاقب الكبير وابن اخته (العاقب)، وشقيقه الحسين في رحلة البيعة للمهدي بعد ظهوره وعادا إلى قوز بدر.
(7) كذلك فإن جد ود حاج العاقب الصغير، التوم، كان متزوجاً من زهراء بت أحمد ود سعد، شقيقة حاج العاقب الكبير ووالدة كل من حاج العاقب (والد العاقب الصغير)، والحسين والد سيد أحمد والد حسب سيدا.
(8) لمدائح المهدية في طورها الأول يمكن الرجوع لقرشي محمد حسن، قصائد من شعراء المهدية، 1974م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.