* قد نتلمّس أسبابه ونتكهن بمقاديره أحياناً؛ لكننا لا نعلم بكيفه..! فالكيف فوق (تصوراتنا).. حتى حدود علمنا بالأسباب ليست بيدنا، إنما بيدنا أن نطلبه ما استطعنا..! يزيد أو ينقص فذلك تقدير المُعطِي والمانع.. لو نظرنا إلى زحام الخلائق في البسيطة نحو سُبله و(مطباته) لتعددت أسئلتنا والتقت جميعها في لطف الواهب..! فإياك أن تردّ الرزق لغيره؛ فهو سبحانه وتعالى مانحهُ؛ رغم أنف كل (عازل) ضار أو حاسد..! * في اللغة أن الرزق بجانب معانٍ أخرى يعني (العطاء).. ولا حدود لجواهر المعاني إذا أطلقنا العنان للخيال..! لأن الرزق في أسراره التي تتعالى على إدراكنا المحدود أكبر من الحصر اللغوي.. أو كما أرى.. وفي هذا تطول الإفادة..! * إن ما يُطمْئن النفس في أمر الرزق ذلك التدبر في آيات حملته.. ويكفي أماناً من الهم والغم والفزع واللوعة (إن الله هو الرازق).. لا ظالم ولا عادل من الناس يملك مفاتيح (القسمة والنصيب!).. ثم.. قال الله تعالى (ومَا مِن دابةٍ في الأَرض إِلاَّ على اللَّه رِزقها ويعلمُ مُستقرَّها ومُستودعَهَا كُلٌّ في كتابٍ مبين). * قيل إن كلمة دابة وردت (نكِرة) لتفيد في العموم، أي لتجمع كل ما يدبّ في الكون من بشر وحيوانات.. الخ.. وما أضيق الكون في قدرة الصانع البديع، وما أوسع أسراره على ألبابنا الضيقة..! * يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).. الحديث محفز للسكينة؛ زاخر بشرط التوكل الصحيح بلا تواكل؛ ومن روحه يقترب قول الشافعي: توكلتُ في رزقي على الله خالقي وأيقنتُ أن الله لا شك رازقي وما يكُ من رزقي فليس يفوتني ولو كان في قاع البحار العوامقِ سيأتي به الله العظيم بفضله ولو لم يكن مني اللسانُ بناطق ففي أي شيء تذهب النفس حسرة وقد قسم الرحمن رزق الخلائق؟ * ملحوظة: يُنسب للشافعي أيضاً: (لأن أرتزق بالرقص خير من أرتزق بالدِّين)..! * الرزق طالما هو مكتوب لدى الرحمن؛ فإنه من غير شِكاية أو عجلة سيتنزل على عباده، لا تحده مشيئة منهم ولا يصرفه صارف.. قال شاعر: لا تعجلن فليس الرزق في العَجلِ الرزق في اللوح مكتوب مع الأجل ولو صبرنا لكان الرزق يطلبنا لكنه الإنسان خلق من عجل * ومن أبدع ما كتبه الخليل بن أحمد في هذا الشأن: الرزقُ عن قدرٍ لا الضعفُ ينقصُه ولا يزيدُك فيه حول محتالِ والفقرُ في النفسِ لا في المالِ نعرفه ومثل ذاك الغنى في النفسِ لا المالِ * ونستزيد ببيت المعري: (وليس يزادُ في رزقٍ حريصٌ.. ولو ركبَ العواصفَ كي يُزادا). * في التفريط وعدم صيانة الأرزاق يخبرنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه: (إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد). * ومن أفضل أجوبة السلف ما قاله بعضهم وقد سُئل: لم سُمِّى الله خير الرازقين؟ فأجاب: لأنه إذا كفر به عبده لم يقطع رزقه عنه وهو كافر به . * ولأن الحرام لا بركة فيه ولا عِز؛ فمن العيب أن تطلب الرزق بمجراه وأنت تعلم (بئس المصير).. ورد في الحديث الشريف: (ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله.. الخ). وجاء في الأثر (أطلبوا الحوائج بعزة الأنفس؛ فإن الأمور تجري بالمقادير).. يدنو من هذا الأثر كلامٌ فيه بعض اللطف والطرافة يُنسب للإمام علي بن أبي طالب؛ يقول كرم الله وجهه: (لحفر بئر بإبرتين؛ ونزح بحرين بغربالين؛ وكنس أرض الحجاز بريشتين خير من الوقوف على باب لئيم يعطيك أو يمنعك). كما قرأنا في شعره: (ولا تقيمن بدارٍ لا انتفاع بها.. فالأرضُ واسعةٌ والرزقُ مبسوطُ). ويُنسب إلى ابنه الحسن قوله: (من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل). * أما أبو حازم الذي اشتهر بالزهد فكان يردِد: (لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس).. ويعزز العارف أبو سليمان الداراني كلام الحسن بإضافة: (من وثق بالله في رزقه زاد في حسن خلقه، وأعقبه الحلم، وسَخت نفسه، وقلّت وساوسه في صلاته). * ومن حكم الزاهد إبراهيم بن أدهم ما حكته الكتب.. قيل إنه مرّ في طريقه على رجل يطفر الحزن من وجهه؛ فقال له إبراهيم: يا هذا إني أسالك عن ثلاثة فأجبني. فقال الرجل: نعم. قال له إبراهيم: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ قال الرجل: لا. قال: أينقص من أجَلِك لحظة كتبها الله لك في الحياة؟ قال: لا. قال: أينقص رزقك شي قدره الله؟ قال: لا. قال إبراهيم: فعلام الهَمّ إذن؟ * وسئل الحسن البصري عن سر زهده فأجاب: (علمتُ أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي.. وعلمتُ أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به وحدي.. وعلمتُ أن الله مطلع علىَّ فاستحييت أن يراني على معصية.. وعلمتُ أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي). * عزيزي القارئ.. باب الرزق متسع، النظر من خلاله فيه فوائد وفرائد تضيق بها المساحة؛ وقد نعود إليه.. فاللهم أرزقنا طاعتك. الجريدة (النسخة الالكترونية).