في واحدة من أشباه المدن الكردفانية – لا هي بادية بداوتها تبدو ولا هي بندر-، كان لنفر من علية قومها ممن يعتبرون أهل الحل والعقد فيها مجلس دائم يعقدونه كل نهار تحت شجرة النيم الضخمة التي تتوسط السوق، وبعد أن تدور عليهم أكواب الشاي والقهوة ويكملوا متعتهم واسترخاءاتهم بمشروب ( القدو قدو ) يبدأون في التسامر والتحاور والتداول حول شتى الشؤون، من الغارقة في المحلية وإلى الموغلة في العالمية التي يلتقطونها من إذاعة البي بي سي- أقال الله عثرتها- المدينة كانت من أشباه المدن ومثلها كان هذا النفر، أشباه مثقفين وأنصاف متعلمين وادعياء أدب ومدعي تفقه في الدين، ثار مرة بينهم غُلاط حول استحلال أو حرمة لحم ( كلدينق أبو صلعة ) وهو نوع من الصقور يعيش على القمامة والجيف، بعضهم حرّمه وبعضهم استحلّه ولكن دون أن يأتي أي فريق بدليل، ولحسم الغلاط حكّموا أكثرهم إدعاءً بالفقه وكان من عادته ألا يخوض معهم في أي غلاط حول أي أمر ديني انتظاراً لأخذ الرأي الفيصل والنهائي في ما اختلفوا فيه، قال الرجل وقد ملأه الزهو والغرور، بالقطع حلال واستطرد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل لحم الطير حلال إلا الذي في بطنه عيال ) و( كلدينق ) يبيض ولا يحيض، ويفقس ولا يلد .. ومن الطرائف التي تُروى عن أحد المشايخ الذين يقدمون برامج فقهية ودعوية بتلفزيونات بلادهم، أن أحد المشاهدين سأله مرة عن هل يجوز أكل لحم البطريق، وكان السائل جاداً، فكر الشيخ ودبر ثم نظر وبسر وأخيراً استقبل الكاميرا وقال مبتسماً ( إذا لقيته فكله ) ،ومن شاكلة هذه الاسئلة الغريبة التي تتحاشى وتتجاهل القضايا الكبرى وتنشط في طرح الصغائر ( ما حكم صلاة من توضأ للصلاة وهو يحمل قربة فُساء على ظهره ) ، ومنها سؤال اولئك الذين أطبقوا على سيدنا الحسين فقتلوه ثم طفقوا يسألون عن دم البعوض .. قال الامام مالك رحمه الله ، ما شئ أشد عليَّ من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام، لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وأن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا يشتهون الكلام فيه والفتيا، كان ذلك في زمان الامام مالك فما عساه يقول في زماننا هذا الذي تكاثرت فيه الفتاوى وتقاطعت وتضاربت حول المسألة الواحدة، فما ضر بعض هؤلاء ان استفتوا في أمر ليسوا منه على يقين أن يقولوا لا ندري والله أعلم ، لقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يسعد بها ايما سعادة ، وكان يقول من قال لا أدري فقد أفتى، والعلم ثلاثة ( كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري ) ... الصحافة