تابعت طوال ليلة أمس الملحمة التي أقامها ذوو وأصدقاء المعتقلين أمام سجن كوبر في إستقبالهم بالأحضان والزغاريد، وقد حكى لي من يقول أنه شاهد أكثر من مُعتقل خرج من السجن ولم يجد أحداً في إنتظاره ليأخذه بالحضن ويطبطب على ظهره ويمسح عنه الآلام التي عاشها في المُعتقل، ومثل هؤلاء الأبطال الذين خرجوا يطالبون لغيرهم بالحرية والكرامة كثيرون، من بينهم أبطال مجهولين لا يعرف أسماءهم أحد، ولم يصل خبر القبض عليهم لذويهم في أقاصي البلاد، وقد فطِن لحالة هؤلاء المهندس صديق يوسف عضو مركزية الحزب الشيوعي حين قال عند خروجه من المُعتقل : لقد خرجت سالِماً، عليكم بعشرات المعتقلين غير المعروفين مِمّن رأيتهم داخل السجن. كان الواجب أن تتولّى الأحزاب والقوى السياسية تنظيم إستقبال جميع المعتقلين وترعى شؤونهم بإعتبار أن جميعهم أبناء رِحم واحد وأنهم شُركاء في البطولة، ولا فضل لمعتقل على معتقل بلمعان إسمه أو مركزه، فعيبٌ علينا أن نجعل واحداً من هؤلاء الأبطال يخرج من السجن هائماً على وجهه وهو لا يحمل في جيبه ثمن تذكرة الدفّار الذي يحمله إلى مسكنه، فيما تُطالع عيناه رفاقه في الزنزانة وهم يُحمَلون على الأعناق ويهتف الناس بإسمهم وتؤخذ معهم صور "السيلفي" فيما يتوكأ هو وحيداً لا يعرف قِبلة يتجه إليها وكأنه كان قد أُلقي عليه في السجن بجريمة مخدرات. مثل هذا الخطأ نأخذه على جماعة الإنقاذ الذين لا يعدلون حتى بين أمواتهم، ويتّخِذون لشهدائهم ثلاث درجات، "البريمو" وهي درجة سيد الشهداء وقد منحتها للزبير محمد صالح وإبراهيم شمس الدين وعبيد ختم، وهؤلاء مجّدتهم الإنقاذ بتسمية الشوارع والأحياء بأسمائهم وتجعل أسرهم يعيشون في نعمة كما لو كانوا بمراكزهم في السلطة، ودرجة الشهداء "السوبر" وهي التي تكفُل لأصحابها إستمرارهم بعد مفارقتهم الحياة في العمل بوظائفهم وترعى أسرهم وتُتيح فرص التعليم والعمل لأبنائهم، بيد أن غالبية شهداء الإنقاذ من درجة "الترسو"، وهي درجة تحكي عن مآسيها مئات القصص والحكاوي عن حالة البؤس التي تعيشها أسر الشهداء من هذه الدرجة. هل تذكرون مشاهير المحامين من مختلف الأحزاب السياسية المُعارِضة الذين سمّوا أنفسهم بالمحامين الوطنيين وكان عددهم مائة محامٍ برئاسة المحامي نبيل أديب الذين شكّلوا فيما بينهم هيئة للمطالبة بإطلاق سراح الفريق صلاح قوش حينما كان مُعتقلاً بتهمة المحاولة الإنقلابية !! أين ذاب فص وطنية تلك اللجنة حينما أصبح عدد المعتقلين الآن أكثر من أربعمائة وبلا تُهم مُحدّدة مثل قوش!! ثم هل تذكرون كيف كانت الصحافة المحلية تُتابِع أخبار صلاح قوش في المعتقل لحظة بلحظة، ومنها علِمنا كيف جُزِعت أسرته بسبب إصابته وهو في المعتقل بحالة هبوط مفاجئ نجم عن معاناة سابقة لديه من إعتلال في إنتظام ضربات القلب (الرجفان الأذيني)، وعلمنا من أخبار أن إبنته الكُبرى وهي تعمل طبيبة بشرية سُمِح لها بالوقوف إلى جانبه بمستشفى الأمل الذي كان قد نُقِل إليه، وكانت تُطمئن والدتها وإخوانها على صحته، فيما تجمهر عشرات من من مُريديه وأهله وعارفي فضله خارج المستشفى للإطمئنان على صحة معاليه !! ماذا دهى هذا الكون !! وبين هذه المئات من المعتقلين الآن مرضى ومُسنّين حُرِموا من إدخال الأدوية الطبية إليهم، وأكثرهم عجز أهلهم من معرفة الجهة التي نُقلوا إليها أو أُحتِجزوا بها، من بينهم نجل أحد أصدقائي وزملاء دراستي. ثم، يأتي عبدالرحمن الصادق المهدي في ليلة الإفراج عن المعتقلين ليحوّل أضواء الكاميرا من وجوه الأبطال المُعتقلين إلى مقصورة المتفرجين حيث يتربّع الجلاّد الذي زجّ بهم في المعتقل، ويضع قلادة البطولة على رقبة الحكم بدل أن يُزيّن بها صدور الذين قدموا التضحية، حين قال في كلمته التي نقلها التلفزيون أن الإفراج عن المعتقلين جاء كمكرمة من الرئيس البشير، ولم يقل معاليه لماذا تمّ إعتقال هؤلاء المواطنين من الأساس وبالمخالفة للدستور والقانون وبينهم طفل في الخامسة عشر من العمر !! ولم يتضمن حديثه ما يفيد: هل تمسح هذه المكرمة آثار التعذيب والجلد بالسياط !! هل تُنسي المعتقل حالة التجويع (قال صديق يوسف أنه كان أكل المعتقل ربع كباية شاي فقط في اليوم) وكلمات الإهانة والتحقير وسوء المعاملة !! ثم يمضي في القول (والكلام لعبدالرحمن) أن الإفراج عن المعتقلين هو خطوة في طريق مصالحة سوف تشمل الجميع دون إستثناء. وعبدالرحمن في نفسه رجل قليل حيلة لا يملك كلمة لا في الحكومة ولا خارجها، والذي حمله على الذهاب إلى نواحي سجن كوبر في تلك الليلة أن شقيقه الأصغر (وهو بطل بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى) كان من بين المعتقلين، وعبدالرحمن هذا بالذات لا يعرف الشيئ الذي يريد تحقيقه من وراء أفعاله، فالمقابل الذي حصل عليه من الإنقاذ وحمله على الخروج على حزبه أول مرة كان منحه رتبة عقيد بفرع الرياضة العسكرية (أي والله)، وقد كان تفسيره لقبول تلك الوظيفة أنه أخذ حقاً من حقوقه لأن فصله من الجيش للصالح العام كان ظُلماً، وكأنه يُقِر بأن الآخرين الذين فُصِلوا للصالح العام ولم يُعادوا للخدمة ليست لديهم حقوق مماثلة، ومنذ تعيينه مساعداً لرئيس الجمهورية لم تُوكَل له مهمة رسمية عليها القيمة، وغاية ما يُستعان فيه هو رعاية سباقات الهجن والخيول وتشريف المهرجانات الغنائية. الإفراج عن المعتقلين ليس مكرمة من أحد وهو حق قانوني ودستوري، وقد جاء نتيجة ضغط الشرفاء من أبناء الوطن الذين تقدموا بمذكرات طعن بعدم قانونية ودستورية الإعتقال أمام المحكمة الدستورية والنيابة العامة، وكذلك نتيجة الضغوط التي مارستها المنظمات الحقوقية الدولية وبعض الدول العظمى التي تُعنى بالحريات، وسوف لن يُثني ذلك الشعب عن مواصلة المطالبة بالحرية والتغيير. تبقّى القول أن هناك من ذوي وأصدقاء المعتقلين من إنتظر حتى الساعات الأولى من الصباح في إنتظار رؤية أحبابهم، وتبيّن أن السلطات قد أبقت عليهم في المعتقل بدعوى أن هناك إجراءات تريد تكملتها، ولا أحد يفهم ماهية هذه الإجراءات التي تتطلبها حالة هؤلاء المعتقلين دون غيرهم، وعندنا، آخِر معتقل حريته بحرية كل المعتقلين أيّاً كان إسمه أو صفته. المجد والخلود للشهداء الأبرار والحرية لجميع المعتقلين،، [email protected]