أثارت الوثيقة التي أصدرها شيخ الأزهر أحمد الطيب حول الدولة المدنية الدستورية جدلاً واسعًا في الساحة المصرية التي لا تزال تعيش مخاض الثورة. لقيت الوثيقة قبولاً واسعًا في الوسط الليبرالي التي وجد فيها “ثورة” داخل المؤسسة الدينية الكبرى في العالم السُني التي انحسر زخمها العلمي والرمزي خلال العقود الأخيرة. تضمنت الوثيقة المبادئ المحورية في النظام الديمقراطي من قيم مواطنة وحريات أساسية، في الوقت الذي اقترح الإمام الإصلاحي تمديد مقاييس الانتخاب الحر إلى مشيخة الأزهر لتكريس استقلاليتها عن السلطة السياسية. لم تكن الوثيقة بعيدة عن النقاش الدستوري – القانوني الذي احتدم في الساحة المصرية حول منزلة الدين وموقعه في الأطر الناظمة للنسق السياسي الجديد المتولد عن الثورة. إنه النقاش نفسه الذي نتابعه راهنًا في الساحة التونسية بحدة أكبر راجعة إلى طبيعة وخصوصيات التجاذب الإسلامي – الليبرالي في هذا البلد الذي طبعته التجربة البورقيبية المتأثرة بالعلمانية الأتاتوركية. نذكر في هذا الباب الجدل المتواصل الذي خلفته تصريحات المؤرخ والمفكر العجوز “محمد الطالبي” حول “وحشية ” التشريعات الجنائية الإسلامية وضرورة إلغائها لعدم ملاءمتها مع القيم الإنسانية الحديثة.كما نذكر كتاب القانوني والمفكر السياسي “عياض بن عاشور” الصادر مؤخرًا بالفرنسية بعنوان “الفاتحة الثانية”. وقد ذهب فيه إلى قراءة جديدة وجريئة لآيات الأحكام في سورة “الإسراء” معتبرًا أنها تؤسس “لمصالحة الإسلام مع قيم حقوق الإنسان” في مقابل الآيات الأخرى التي تجذر “تبعية الإنسان الوجودية لله”. وفي حين ظهرت آراء متشددة طالبت صراحة بإلغاء مرجعية الإسلام الدستورية (كما هو شأن الكاتب التونسي حمادي الرديسي وبعض التشكيلات اليسارية الصغيرة)، فإن المنظور السائد في البلدين هو الاحتفاظ بالنص على أن الإسلام دين الدولة وأنه مصدر أساسي للتشريع، مع دمج هذه المرجعية ضمن المدونة المعيارية والقانونية للنظام المدني العقلاني الحديث. وعلى الرغم من الطابع التوفيقي لهذه المقاربة التي تلاقي قبولاً عارمًا لدى الأطراف السياسية في أغلبها، فإن الجدل يظل قائمًا في مستويين: يتعلق أولهما بالمقتضيات والآثار المترتبة عن المرجعية الإسلامية في مستوى التشريعات التفصيلية: فما معنى أن يكون الإسلام دينًا للدولة إذا كانت القوانين والنظم التشريعية لا تتقيد به؟ ويتعلق ثانيهما بمدى قابلية التوفيق نظريًا وعقديًا بين مدونة مبنية على فكرة الرشد الإنساني وحرية الإرادة البشرية المطلقة من جهة، والقول من جهة أخرى بعقدية الدولة وإلزامها بتصورات مسبقة للخير الجماعي، لا تخضع لمبدأ التداول العمومي؟ تطرح التنظيمات الإسلامية عادة الإشكال الأول وتتخذه إطارًا لحراكها الإيديولوجي والسياسي، وتطرح التشكيلات “العلمانية” عادة الإشكال الثاني الذي يؤطر رؤيتها الفكرية والسياسية. والواقع أن هذين الإشكالين هما اليوم أس المناظرة السياسية والإيديولوجية في الواقع العربي الجديد، ولا بد من معالجتهما بكثير من الرصانة الفكرية والمسؤولية الأخلاقية. إن معالجة الموضوع المطروح هنا تقتضي برأينا حسم جملة من المسائل النظرية المهمة، التي نادرًا ما تنال حظها من المطارحة والتداول. ومن هذه المسائل منزلة المقاييس القانونية في منظومة الدين الإسلامي، باعتبار أن هذا البعد هو مصدر الإشكال في تحديد صيغ التوافق بين المرجعيتين الدينية والمدنية للدولة. وإذا كان أغلب المفكرين المسلمين يوافقون على أن أحكام المعاملات محدودة في بنية النص وأنها في مجملها مبادئ عامة وضوابط رادعة لا يمكن النظر إليها بمنأى عن الجوانب الأخلاقية والقيمية في الشرع، إلا أنهم في مجملهم يؤكدون على فكرة ازدواجية الديني والسياسي في الإسلام وشموليته لكل مناحي الشأن الإنساني.والسؤال المطروح هل الفقهيات داخلة في باب القيم أو هي من باب القوانين؟ ومن الواضح بالرجوع للنصوص الكلاسيكية أن مفهوم الفقه أضيق من منطوق الشريعة التي هي قبل كل شيء مسار روحي وإطار قيمي. ولقد أوضح العلامة الموريتاني “عبد الله بن بيه” هذه الفكرة في دراسة متميزة نشرها مؤخرًا حول “فقه الواقع والتوقع “بقوله:”الأحكام هي ثمرة قيم وفضائل… إن الشريعة قبل أن تتحول إلى إجراءات قانونية يطبقها السلطان وما يتفرع عن ولايته، فإنها تغرس شجرة القيم التي تثمر الحكم على الأشياء.. لتنشئ النظم والأحكام الجزئية التي تحميها وتحوطها، ترتب أسبابها وموانعها وشروطها، وبعبارة أخرى تهيؤ مجال تطبيق الأحكام الجزئية. فالفرق كبير بين القيم وما تثمره من قيام الفضائل في نفوس المؤمنين والحرص على تمثلهما في حياتهم الفردية والجماعية، والأحكام التنظيمية التي تتعامل مع الانحراف عنها سواء تعلق الأمر بالتشريع المدني أو الجزائي”. أما المسألة النظرية الثانية فتتعلق بمصدر التشريعات في سجليها الديني والوضعي من منظور قيم العدالة كمرجعية طبيعية وعقلانية للمعايير الضابطة للنظام الاجتماعي. فالإشكال حسب رأينا لا يتعلق بمصدر القوانين، ما دامت تستند ضرورة لخلفيات ثقافية مؤطرة.وكما بين “هابرماس” يشكل الدين المعين الأساسي للاختيارات المعيارية المناقشة في المجال التداولي العمومي. وعلى عكس اليهودية التي تؤسس المنظومة القانونية على هوية المجموعة وروابطها العضوية، فإن التقليد الإسلامي يختزن بقوة فكرة القانون الطبيعي في دلالتيها: الطبيعة الإنسانية الثابتة (مقولة الفطرة) وعقلانية القيم (مقاصد التكليف). ومن ثم تصبح الإشكالية المطروحة منحصرة في القدرة على تحويل الرصيد القيمي والثقافي الفقهي من سجله التعبدي إلى سجل التحديدات القانونية الإجرائية مع الانطلاق من مسلمة انبناء الشريعة على مصالح العباد، وعلى أولوية العدل على الأحكام الجزئية. وقد اقترب “ابن القيم” من هذا التصور بقوله إن مدار الشريعة هو أحوال المكلفين وليس أحكام التكليف. وبحل هذا الإشكال، ينتفي التعارض بين المرجعيتين النصية والعقلانية، وتصبح المظلة الدينية قوة دافعة لاستبطان وتعميق القيم الإنسانية الحديثة مما يتزايد الحاجة إليه في المجتمعات “ما بعد العلمانية”، التي تزايدت فيها الهوة بين “التوقعات المعيارية”، التي هي أساس القوانين والوقائع الفعلية الخارجة على التقنين والمطروحة للتداول العمومي.