خرجت أمها تتعثر بثوبها استجابة لنداءات جاراتها المنتظرات بلهفة..فالقرية الهادئة تمر فيها الأيام رتيبة مما يجعل اى حدث مثير حتى وان كان حزيناً.. وقفت أمام الباب تنظر بحسد أمها وصاحباتها ذاهبات” لبيت بكاء”، تنبهت لغياب أصوات أخوتها الصغار وجدتهم تسللوا بالباب الخلفي لحوش الجيران، رجعت وكادت أن تغلق الباب خلفها عندما سمعت صوت عربة”التاج السقا” فتركت الباب مفتوحاً فالتاج يعرف طريقه جيداً سنوات وهو يداوم على جلب الماء لهم، “الجوز” الأول فى زير الرجال، و”الجوز” الثاني في زير الراكوبة، وجوز ونص فى برميل التكل،والحساب آخر الشهر…دخلت الغرفة لتجد فستان أمها “أب وردات” معلقاً على “الشماعة” ، كانت ورداته ترمقها بتواطؤ فقررت ان تجربه فلكم تتوق لأن تجربه ولكن انتهارات أمها كانت تمنعها دائماً، أمسكته بين يديها وهى تتحسس قماشه الناعم.. سنوات عمرها الإحدى عشر كانت تهفو لأن تكبر وترتدي مثله، ورداته كانت تكبر كلما قربته اليها لم تستطع ان تقاوم أكثر ألقت بجلبابها بعيداً لترتديه شعرت بجسم شخص ما يقف بباب الغرفة رفعت رأسها لتجده “التاج” يدفع بالباب الموارب ويتقدم نحوها.. - التاج ؟ داير شنو أمرق بسراع! لم يجبها كان يبحلق ببلاهة بجسدها المكشوف واصلت انتهارها له: - التاج قلت ليك أمرق انت جنيت، كان الخوف قد ارعش سؤالها وكانت تحاول ان تستتر بفستان أمها.. أقترب أكثر.. صرخت وقبل ان تعلو صرختها كانت كفه الكبيرة قد كتمت صرختها وأنفاسها، غرست أسنانها بيده شعرت بسائل دافى مالح فى شفتيها، أدمته ولكنه لم يتراجع تحول لقطعة صخر صلبة تدفعها لتلاصق الدولاب ظل يضغطها لدقائق وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، ظلت تتلوى من تحت الصخر دون فائدة، لحظات وتفتت الصخر لعرق وتنهدات وبلل فى جلبابه، وركض خارجاً.. ظلت لشهور لا تستطيع شرب الماء دون ان تتذوق طعم الدم المالح.. دم عضتها الضعيفة التى لم تستطع ان تحميها تتذوق طعم ضعفها من ان تحكى لأحد..طعم الخوف.. لكم تحبه..هكذا راحت تفكر وهى تنظر لوجهه الذي عشقت كل تفاصيله.. كان يكمل إجراءات دخولهم للفندق ليقضيا أولى ليالي شهر عسلهما ، أمسكت ذراعه بفرح طفولي وارتقت معه درجات السلم وهى تتوكأ عليه مثلما فعلت منذ أن عرفته، وهما يدلفان إلى الغرفة شعرت بألم خفيف يعتصر معدتها .. دخل الحمام وفتحت حقيبتهما ترتب محتوياتها بدولاب الغرفة وظل الألم يعتصرها أكثر.. خرج من الحمام مازحها، ردت عليه بصعوبة، تجنبت نظراته المتسائلة حول تبدل مزاجها المفاجئ، هربت إلى الحمام أستغرقها حمامها وقتاً طويلاً، طرق الحمام بلطف وتعجلها بعبارات لطيفة، أذعنت لندائه وخرجت، استلقت بجانبه وتنفسها يكاد يسمع، كان الألم قد زحف من معدتها إلى صدرها وقبض بخناقها، ظلت أيادي خفية تعتصرها وتكتم أنفاسها، اقتربت يده مطمئنة تربت على رأسها في إشارة للتفهم والحنان أبعدت يده بقسوة، حاول أن يحتضنها دفعته عنها بعنف..أصر أن يطوقها بذراعيه طمعاً في تهدئتها، ضربته بعنف وظلت تلاحقه بيديها وأظافرها، ابتعد عنها مرعوباً، نظرته ساهمة وجلست تبكى .. لم يستطيع مساعدتها فلقد كان يتحول لخالها الذي اغتصبها وهى طفلة..وكانت تدافع عن نفسها بكل القسوة والثأر الذي ادخرته عبر السنوات، كان قبح تاريخها أقوى من حبهما ..فطلقها.. ركض “حمادة” مرتعباً والماء يسيل من جسده وبلل لزج مابين ساقيه يثير فيه رغبة بالتقيؤ، كانت أنفاسه تتلاحق.. لا يدرى كيف استطاعت ذراعاه النحيلتين مقاومة الشاب المفتول الذي اغتصبه، ولكنها عناية ربانية كانت معه هو الصغير، وقف وحيداً بجانب حوض السباحة الكبير بعد أن ارتدى ملابسه ..وحيداً حقاً، سالت دموعه مالحة وهو يبتلعها بصمت كان خائفاً متألماً.. شعر بذل شديد وهو ينتظر مغتصبه ليأخذه إلى البيت فلقد كان يجهل طريق العودة للمنزل، كان الحادث أقوى من سنواته العشر، كانت عبراته تملأ حلقه وجسده الغض، حنان والدته واهتمامها جعلا بركان حنقه يتفجر فبكى، أخذته بين يديها.. شعر بالأمان ولاذ بها، ووسط نشيجه وبكاءه الطفولي فهمت ما حدث، ارتج كيانها كانت تقاطعه متسائلة متمنية أن يجيبها بالنفي وعقب كل سؤال كانت تشعر برجفة تسرى داخلها.. غضب هائل اجتاحها .. استغاثت بالجيران، أنكروا عليها ما يقول طفلها فهذا المدرب المغتصب “ملتحى ومقصر ويصلى كل صلواته في المسجد ويدرب أطفال الخلوة فى السباحة طمعاً بالأجر السماوى…و…” سرت النار في جسدها لم تجادلهم ولم تستمع لنصائحهم “بالسترة” .. والعربة تنطلق بهم إلى الشرطة كان ذهنها يستدعى عشرات التجارب التي سمعتها في طفولتها ،مرارات الماضي وكوابيسه، لن تسمح لهذا بالتكرار، فليتوقف المجرمين ، اندفعت وكل جسدها يرتجف حتى أطراف أصابعها، قلبها يكاد يخرج من شدة انتفاضه، كانت الإجراءات تتم ببطء ممعن في إضافة الإذلال لموقفهم، نظرته يجيب على أسئلتهم المتكررة بحزن لا يناسب ملامح وجهه الطفولية .. لكم هو صغير تداعت لها صورته وهو لازال رضيعاً..تمنت أن تعيده لذلك الزمان .. يا ليتها تستطيع أن ترجعه لرحمها تحفظه بعيداً في مائه يسبح وحده آمناً.. وسط تنفسها المسموع ومحاولاتها لابتلاع ريقها جلست “أم حمادة” بمنتدى صحيفة “الرأى العام” تحكى عن خذلانها من قانون لم ينصر سنوات طفلها العشر وأدان المتهم فقط بأربعة أشهر سجن وأربعون جلدة، ليخرج المجرم بعد شهر واحد وهو يتبجح بأنه سيذلهم وبالفعل تقدم بقضية إشانة سمعة لان أخ الطفل قد وزع صورته وهو يتلقى عقوبة الجلد فى موبايله لسكان الحي الذين كانوا يرون انه لا جدوى من التبليغ عنه لأن “ضهرو” قوى ولن ينال عقابه والأفضل أن يأخذوا حقهم بيدهم. توهم الأخ ان القانون نصرهم ووزع دليل انتصارهم ليفاجئوا بعد خروج المتهم أن القاضي يأمر بدفع تعويض خمسة مليون للمتهم لقاء اشانة سمعته!! حكت كيف انها قاتلت وحيدة وان وحدة حماية الاسرة والطفل لم تكلف نفسها عناء تفويض محام للوقوف معهم فى المحكمة، انتهت للقول بصوت متهدج: حاولت ان اكون متحضرة وان امنع المجرم من الاعتداء على أطفال آخرين ولكن الآن انصح اى أم بأن لا تذهب للشرطة لان القانون لن يقف معها مطلقاً..!” قصة حمادة قصة مؤلمة ومحزنة.. وسط كل ألمها تلمع شجاعة وجسارة أمه كنجمة وضئيه تدفع الأمل في التغيير فى القلوب، بالنسبة لى كانت مأساة حمادة استثنائية فقط بسبب بطولة أمه..لقد اختارت هذه السيدة الشجاعة ان تواجه كل تخلف المجتمع وان تزيد ثقوب “توب السترة” المتهتك ليتمزق للأبد مفهوم الخوف المسمى “سترة”. اختارت المواجهة بدلاً عن الانزواء باكية بالبيت. اختارت ان تكون متحضرة وتعلم أطفالها إن الأشخاص المتمدنين يلجئون للقانون وليس للعنف الأخرق. اختارت أن لا تستسلم وان لا تتراجع أمام ضغط مجتمع يثبط من همتها وحماسها.. اختارت ان تكون أم .. هكذا يجب ان تكون الأم مقاتلة شرسة عن ابنائها.. حنينة محبة .. يبادلها اطفالها اسرارهم دون خوف او خجل.. انت الأم.. اننا فخورون بك، فكوني فخورة بنفسك وبما فعلتي كما نحن. إن ثقافة التعتيم فى كل ما يخص حياتنا الجنسية هى اليد الممدودة دون ان ندرى لمساعدة المجرمين والمرضى لاغتصاب أطفالنا، اذ ان التحدث بوضوح عن الحياة الجنسية يجعل الحدود مرسومة للأطفال بوضوح عما هو طبيعى وما عداه. كما ان الإضاءة فى هذا المجال تعطى الفرصة لتقديم تحذيرات لا تخيف الطفل ولكنها تجعله لديه القدرة على حماية نفسه او على الأقل التحدث بدون خوف عما يتعرض له من تحرشات ولكن عندما يكون الجنس دائرة محرمة وممنوعة يجد الطفل ان شكواه ستحشره فى دائرة اتهام الأم وغضبها، ومعروف ان الطفلة او الطفل المعتدى عليه يشعر بالمسئولية تجاه الاعتداء عليه ونحن نعاظم شعوره بالذنب عندما نربيه على ان الحديث فى هذا المجال يضعه في قائمة “غير المهذبين”، لذا فالخطوة الأولى ان نكسر حاجز الصمت فى هذا المجال .. ويجب ان لا يتم ذلك بالتخويف وسكب الرعب داخل القلوب الصغيرة، ولا بالحبس لان حبس الأطفال لا يحميهم، بل يحميهم تفتيح مداركهم وإشباع فضولهم المعرفى، وليس التعتيم الذى يدفعهم للتجريب فيقعوا ضحايا المجرمين والمعتدين . لقد امتلأت قاعة صحيفة “الرأي العام” ذلك النهار بمتخصصين في مجالات مختلفة “علم نفس واجتماع وقانون ومعلمين وناشطين فى منظمات مجتمع مدنى وطلاب جامعات …و..” وارتفعت المشاعر كعادتنا كسودانيين ولم ترتفع ردود الفعل العملية. ان هذه الجرائم تحتاج لجهد متواز يعمل فى اتجاهات مختلفة ولكنها تصب فى ذات الهدف، اذ يجب العمل عبر منظمات المجتمع المدني للتنوير حول موضوعات الجنس عموماً وتطبيع النقاش حوله. كما يجب ان يبذل القانونيون الجهد بمساعدة كل منظمات المجتمع المدني لتولى القضايا الشبيهة ومساعدة الضحايا وتوقيع أقصى العقوبات على المجرمين، والضغط لتعديل القوانين بحيث يتناسب العقاب وفداحة الجرم. كما يجب أن يقوم الأخصائيون النفسيون والاجتماعيون بمساعدة الضحايا وأسرهم للتعافي النفسي من صدمة الاعتداء. كما يجب أن يبذل الجميع الجهد لإلزام الدولة بواجباتها فى حماية الأطفال. كل هذا الجهد يمكن ترتيبه وإدارته عبر مجموعة صغيرة تمثل الناشطين فى كل مجال من المجالات المذكورة، وهو أمر ليس ببالغ الصعوبة فغالب هؤلاء الناشطين كانوا حضوراً بالندوة. وتحدد هذه اللجنة أولويات العمل وتبدأ بالاستفادة من حماس الناشطين لتغيير القوانين فتدفع بعدد من الفعاليات المنظمة لتوجيه الرأى العام وجمع التوقيعات والإجراءات القانونية وخلافه لانجاز هذا الهدف..ان خمول وعدم مسئولية الجهات الحكومية المسئولة عن حماية الطفل لا يضع العذر لمنظمات المجتمع المدني للتخلي عن واجباتها أيضاً.. فلنجعل من جسارة أم حمادة وروحها القتالية هذى إلهاماً لنا للقتال لأجل مستقبل أطفالنا هادية حسب الله [email protected]