يواصل الدكتور حيدر بدوي صادق كتابته بصحيفة السوداني لمقالٍ من عدة حلقات بعنوان ” رؤية متجدِّدة نحو جمهورية ثانية رشيدة ” وقد تم نشر حلقتين منه حتى الآن. ونسبة لأهمية الطرح وخطورته فقد رأيتُ تناول الحلقتين بالنقد خصوصاً وأنَّ المادة التي قدِّمت فيهما حتى الآن يمكن تناولها دون حاجة لإنتظار بقية الحلقات. يقول الدكتور حيدر أنه يرغب في أن : ( يساهم في تسخين الجدل العام بأطروحة جديدة كل الجدة، في ظني، على الوسط الفكري والسياسي الراهن في السودان). هذه الأطروحة تستند إلى النظر في حسنات ومثالب الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني حتى تصل إلى ( رؤية تساهم في إعادة تركيب القوى التي انتجتهما في كيان جديد، موحد، “ينقذ” البلاد والعباد بحق . ينقذها من طوفان الدم الذي ظل يغرق السودان والسودانيين في شر أعمالهم منذ 18 يناير ). وقد إختار الدكتور حيدر هذين الكيانين لأنهما في رأيه ( يشكلان تجليات حيوية، لواقع السودان الاجتماعي والفكري والسياسي. فكلاهما من تجليات القوى الجديدة، التي انتفضت على، دون أن تتخلص من، أسوأ ما في القوى القديمة من طائفية وقبلية وهوس ديني وعنصرية ماحقة. وكلاهما يحركه مشروع قوي متجدد، اختلفنا أم اتفقنا حول جدوى هذا المشروع أو ذاك. وكلاهما تبنيا العنف كوسيلة للتغير). وبتوفر أوجه الشبه هذه بينهما فإنهما يُصبحان ( أقرب كيانين شبهاً لبعضهما البعض في الساحة السياسية السودانية، على الرغم من تضارب الرؤى بينهما. ربما بسبب ذلك هما أكبر متنافسين على الساحة السياسية السودانية. وعليه يجب أن تسارع طلائع القوى التي ساقت إلى تكوينهما إلى تبني محاسن الطرفين، وإن أدى ذلك لاتحاد تلك القوى في كيان واحد يساهم في، ولا يحتكر، إعادة تركيب وهيكلة الدولة السودانية. وليس شرطاً أن تكون نفس الوجوه القيادية في الكيانين هي الوجوه. وليس شرطاً أن تعزل كل تلك الوجوه عزلاً يحرم الجمهورية الثانية الوليدة من أهم روافد الخبرة في الحكم). وقبل الخوض في تفكيك الدكتور حيدر وتوضيحه لحسنات وسيئات الكيانين يجب بداية أن نتوقف ونناقش الأسس التى دفعته لإختيار هذين الكيانين كمادة لأطروحته الهادفة لتحقيق الخلاص الوطني المنشود. قد إستخدم الدكتور حيدر مصطلح “القوى الجديدة” بطريقة جُزافية و دون ضبط علمي يوضح ماهيتهُ ويُفرِّق بينه وبين ما يُسميه ” القوى القديمة”. وتنبع أهمية التعريف وضبط المُصطلح من أنه ينسف الأساس المفهومي الذي إنبنت عليه الأطروحة . فماذا يعني مُصطلح القوى الجديدة ؟ هل الجِّدة تعني التأخر في الظهور أم تعني جِّدة الأطروحات الفكرية ؟ أم الخلفية الإجتماعية والإقتصادية للقواعد وللفئات المُكونة للحزبين ؟ و كيف يتمايز الكيانان عن القوى القديمة ؟ يتعامل كثيرٌ من المثقفين مع المصطلحات بإستسهال شديد يُصوِّر رؤاهم (الذاتية) وكأنها حقائق (موضوعية) ومسلمات غير قابلة للنقاش. فأىُّ منطق ذلك الذي يُصنف الحركة الشعبية وهى كيان عموده الفقري القبيلة ضمن القوى الجديدة بينما يضع حزباً مثل الحزب الإتحادي الذي نشأ وترعرع في أحضان الطبقة الوسطى السودانيِّة ويستند إلى القوى الاجتماعية الحديثة والمستنيرة وجماهير المُدن الحضرية التي تجاوزت مفهوم القبيلة ضمن القوى القديمة ؟ لقد إتخذ الدكتور جون قرنق – كما يقول حاج حمد – من قبيلته (الدينكا) قاعدة لبرنامجه تحت مسمى (الحركة الشعبية لتحرير السودان) ولم يستطع أن يمتد بخطابه هذا حتى للنخب من أبناء القبائل الأخرى. إنَّ النظرة العلمية والموضوعية للأحزاب الوطنيِّة الموصوفة بأحزاب الطائفية يجب أن تضع في الحسبان حقيقة أنَّ الطائفة في الإطار الإجتماعي السوداني تمثل تشكيلة إجتماعية متقدمة على القبيلة والأسرة, وبهذا المعنى فإنه لا يُجوز وصف القوى التي تستند إليها بالقديمة بينما تمنح الكيانات القبلية صفة القوى الجديدة بهذه الطريقة المجَّانية. أمَّا إذا كانت صفة (الجِّدة) موصولة بالخطاب وبالبرامج المطروحة من قبل هذه القوى فإنَّ ذلك يتطلب إخضاع تلك البرامج للتحليل والنظر العميق, والأهم من ذلك إختبار النتائج التي تمخضت عنها تجربة الحكم العملية لأصحاب تلك البرامج ومقارنتها بخلاصات تجربة القوى الموصومة بالقديمة, وهو ما سنتطرق إليه في ثنايا نقاشنا لأطروحة الدكتور حيدر. إنَّ إمعان النظر في التحولات التي يشهدها العالم العربي هذه الأيام يُمكن أن يُلقي بعض الضوء على ما نقول. فالقوى التي كانت توصف بالجديدة وبالثورية والتي ملأت الدنيا ضجيجاً بالشعارات الفارغة من المحتوى و إستولت على الحكم بعد إنقلابها على ما أسمتها بالقوى الرجعية أو الطائفية إنتهت بالتجربة العملية إلى مسوخٍ مُتخلفة تحكم الشعوب بشرعية التناسل البيولوجي المحض. ودوننا أمثلة حكم “العائلة” في سوريا الأسد وعراق صدَّام ومصر مبارك وليبيا القذافي ويمن علي عبد الله صالح. وعندما يقول الدكتور حيدر أنَّ الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني يُحرِّكهما ” مشروعٌ قوىٌ متجدِّد” فإنهُ كالعادة لا يُعرِّف مايعنيه “بقوة” المشروعين, فالمُحصلة الأخيرة للتجربة أثبتت أنَّ القوة الوحيدة التي يستند إليها كلا الكيانين هى قوة البندقية و التجييش والأمن والمخابرات, وليست قوة البرنامج والمُحتوى الفكري, وهذه الأخيرة ثبت – بما لايدع مجالاً للشك بلغة القانونيين – أنها لا تتوفر في المشروعات المُستندة إلى أوهام الآيدولوجيا. واقع الحال يقول انَّ مشروعات الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني ليست “مُتجدِّدة” كما يقول الدكتور حيدر بل هى مشروعات “مُتبدِّدة”, وهذا ما سنأتي عليه بالتفصيل عند نقاشنا لتوجه الإنقاذ الحضاري ومانيفستو السودان الجديد. و في خصوص حسنات الإنقاذ يقول الدكتور حيدر ( هنا أقول، ودون أدنى تردد، أن من حسنات الإنقاذ الأخرى، إضافة إلى الحكم المركزي القوي، أنها اهتمت بالتحديث، بنظرة جادة ومتابعة هميمة، وتنزيل للمشروعات لأرض الواقع بقدرتفوقت معه على كل الحكومات الطائفية والعسكرية السابقة لها. نعم, هناك قدر كبير من الفساد صاحب التحديث, وقدر أكبر من إهمال الإنقاذ للريف, ولكن لا جدال على أنَّ الإنقاذ أفلحت فيما فشلت فيه الأحزاب الأخرى في عهود حكمها من بسط لسلطة الدولة ومن تحديث ساهم في إيجاد بنية تحتية أفضل بما لا يقاس عما تركته حكومات تلك الأحزاب. وفي إطار المقارنة بين الإنقاذ وغيرها نجد أن السلطة أتت طائعة مختارة، بفضل من الشعب السوداني للأحزاب الطائفية، مرة بعد الاستقلال مباشرة، ومرتين حين ثار شعبنا الأبي على حكامه وسلم هذه الأحزاب السلطة بيد بيضاء، من غير سوء، لحكامه الطائفيين الفاشلين ). مرة أخرى لا يشرح الدكتور حيدر ماذا يعني ب “الحكم المركزي القوي”. أمَّا إذا المقصود هو المركزية الإدارية فإنَّ الإنقاذ طبَّقت أسوأ ما في هذا النظام من تركيز للسُلطات والخدمات في المركز “الخرطوم” بطريقة جعلت الناس يهجرون الولايات و الأقاليم والأرياف ويتزاحمون بالملايين في العاصمة. وإذا كان المقصود بالمركزية القوية هو بسط سلطان الدولة على كافة أراضي الوطن فإنَّه لا توجد حكومة وطنيَّة منذ الإستقلال عجزت عن بسط وجودها في كامل حدودها مثل حكومة الإنقاذ والتي إنطبقت عليها بجدارة مواصفات ما يُعرف بالدولة الفاشلة. وأهم هذه المواصفات هو عجز الدولة عن بسط الأمن في أراضيها بحيث يتعرض المواطنون للقتل والنهب والخطف, وأن تصبح بعض المناطق داخل البلد خارج سيطرة الدولة. أىُّ حكم مركزي قوي هذا الذي تحدثنا عنه – يا دكتور حيدر – وجيوش حركتكم الشعبية تقتطع أجزاءاً من جنوب كردفان والنيل الأزرق, وعشرات المليشيات المُسلحة تسيطر على أراضٍ في دارفور لا تستطيع الحكومة الوصول إليها ؟ أىُّ حكومة مركزية قوية هذه التي يتواجد أكثر من 30 ألف جندي أممي داخل أراضيها ؟ أىُّ حكم مركزي قوي هذا الذي يصمت على إحتلال أرضه كما هو الحال في الفشقة وحلايب ؟ إنَّ الدكتور حيدر لا يُجهد نفسه كثيراً في توضيح ما يعنيه مفهوم “التحديث” لديه, ويُستشفُ من كلامه أنه يقصر معناه على بناء عددٍ من شوارع الأسفلت والجسور والمباني الحكومية الفاخرة ( ولا يهم إن كان هذا البناء يفي بمعايير الجودة أم لا ), وتحويل مدرسة ثانوية بقرار سياسي إلى جامعة, وجلب خدم المنازل من شرق آسيا , بينما التحديث الحقيقي يشمل مجمل وسياق التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية التي تنجز تنمية متوازنة ومتكاملة في المجتمع بما يحقق الاستقلال السياسي والاقتصادي الحقيقي. وبهذا المعنى فإنَّ كلا الحكومات العسكرية والمدنية فشلتا في إنجاز عملية التحديث, ولكن من الظلم الكبير أن نعقد مقارنة بين حكومات أمسكت بزمام السلطة لأربعة وأربعين عاماً وهى الحكومات العسكرية, وأخرى حكمت أحد عشر سنة متفرقة وهى الحكومات المدنية. ويعلم الدكتور حيدر أنَّ الإنجاز في ظل الحكومات الديموقراطيِّة في مجتمعات العالم الثالث لا يحدث بين عشيِّة وضحاها, وأنَّ هذا النوع من الحكم يلعب عامل الزمن دوراً مهماً في ترسيخه خصوصاً في المجتمعات المثقلة بالنزاعات والحروب الأهلية. قد تعمَّد الدكتور حيدر في مفتتح مقاله تذكيرنا بأنهُ تلميذٌ مخلص لأفكار الأستاذ محمود محمد طه. والحق يقال أنَّ الإخوة الجمهوريين يتمتعون بقدرٍ عال من الثقافة وينطلقون من فهم ديني متطوِّر, ولكن الملاحظ أنَّ فكرهم السياسي يٌعاني من نقطة ضعف رئيسية وخلل كبير يتمثل في عدم حسم عدد كبير منهم للموقف من قضية الديموقراطية بصورة واضحة. ويبدو لي أنّ مسيرةَ مساجلاتهم و مواجهاتهم مع الأفكار الدينية المطروحة في الساحة خلقت لديهم موقفاً ضبابياً من قضية الديموقراطية, بحيث أصبح عداءهم للقوى “الطائفية” يشكل أولوية على مطالبتهم بذهاب الإستبداد والشمولية. وقد سألتُ الدكتور عبد الله النعيم قبل عدة أشهر عقب محاضرة ألقاها بمدينة دينفر عن هذا التناقض فأجابني أجابة واضحة : الطائفية أخطر على الناس من العساكر. الأمر المثير للدهشة والحسرة في آن واحد أنَّ كلمة ديموقراطية لم ترد على الإطلاق في ما سطرَّهُ قلم الدكتور حيدر في أطروحته التي يصفها ب ” الجديدة كل الجِّدة” . وأنَّ ذلك الطرح ما زال يدور في فلك الوصاية النخبوية التي فشلت مشروعاتها السياسية في كل أنحاء العالم وفي السودان على وجه الخصوص, فهو يريد للقوى التي تمثل الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني الإتحاد ( في كيان واحد يساهم في، ولا يحتكر، إعادة تركيب وهيكلة الدولة السودانية), ولكنه لا يوضح لنا طبيعة النظام الذي ستتحِّد فيه تلك القوى, هل هو النظام الديموقراطي أم هو نظام شمولي آخر بتسمية جديدة ؟ و لا يقول لنا من أين تستمد تلك القوى مشروعية إعادة تركيب وهيكلة الدولة السودانية ؟ إنَّ المشروع الوحيد الذي سيخرج بلادنا من محنتها وأزماتها المتلاحقة – يا دكتور حيدر – هو المشروع الديموقراطي الذي يرتكز على حق الشعب في إختيار حاكمه دون وصاية أو تزوير, ويتمُّ فيه الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية, وتكفل فيه جميع الحريات, وتتنافس فيه الأحزاب منافسة حُرَّة في إنتخابات تحسمها صناديق الإقتراع, ودون ذلك فكلها وصفاتٌ متنوعة لمرض قاتل واحد إسمهُ الإستبداد, وقد جرَّبناهُ في نسخه المختلفة من أقصى اليمين لأقصى اليسار, و من جرَّب المُجرَّب حاقت به الندامة. بابكر فيصل بابكر ….. [email protected]