جبريل: سائلاً المولى عز و جلّ أن يحقق لبلادنا العزيزة نصراً عاجلاً غير آجل على المليشيا الآثمة و على مرتزقتها و داعميها    ضبط عمليات "احتيال بالأضاحي" في السعودية.. وتحذيرات من "الأمن العام"    بالأرقام.. السعودية تكشف أعداد و"تصنيفات" الحجاج في 2024    شاهد بالصور.. الحسناء السودانية "لوشي" تبهر المتابعين بإطلالة مثيرة في ليلة العيد والجمهور يتغزل: (بنت سمحة زي تجديد الإقامة)    بعثة المريخ تصل مطار دار السلام    شاهد بالفيديو.. بعد مقتل قائد الدعم السريع بدارفور.. "الجوفاني" يظهر غاضباً ويتوعد مواطني مدينة الفاشر: (ما تقول لي مواطنين ولا انتهاكات ولا منظمات دولية ولا قيامة رابطة الرد سيكون قاسي)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في بريطانيا يحاصرون الناشط البارز بالدعم السريع الربيع عبد المنعم داخل إحدى المحلات ويوجهون له هجوم عنيف والأخير يفقد أعصابه ويحاول الإعتداء عليهم بالعصا    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. حسناء سودانية تستعرض مفاتنها بوصلة رقص تثير بها غضب الجمهور    المريخ يتعاقد مع السنغالي مباي وبعثته تصل تنزانيا    هذه الحرب يجب أن تنتهي لمصلحة الشعب السوداني ولصالح مؤسساته وبناء دولته    الخراف السودانية تغزو أسواق القاهرة    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابط القوات المشتركة الذي قام بقتل قائد الدعم السريع بدارفور يروي التفاصيل كاملة: (لا أملك عربية ولا كارو وهو راكب سيارة مصفحة ورغم ذلك تمكنت من قتله بهذه الطريقة)    كيف ستنقلب موازين العالم بسبب غزة وأوكرانيا؟    مدرب تشيلسي الأسبق يقترب من العودة للبريميرليج    ترامب: لست عنصرياً.. ولدي الكثير من "الأصدقاء السود"    مسجد الصخرات .. على صعيد عرفات عنده نزلت " اليوم أكملت لكم دينكم"    مواصلة لبرامجها للإهتمام بالصغار والإكاديميات..بحضور وزير الشباب والرياضة سنار افتتاح اكاديميتي ود هاشم سنار والزهرة مايرنو    بالأرقام والتفاصيل.. بعد ارتفاع سعر الجنيه المصري مقابل السوداني تعرف على سعر "خروف" الأضحية السوداني في مصر وإقبال كبير من المواطنين السودانيين بالقاهرة على شرائه    بالفيديو.. تعرف على أسعار الأضحية في مدينة بورتسودان ومتابعون: (أسعار في حدود المعقول مقارنة بالأرقام الفلكية التي نسمع عنها على السوشيال ميديا)    رئيس وأعضاء مجلس السيادة يهنئون المنتخب القومي لكرة القدم    بالصورة.. المريخ يواصل تدعيم صفوفه بالصفقات الأجنبية ويتعاقد مع الظهير الأيسر العاجي    صالون لتدليك البقر في إندونيسيا قبل تقديمها أضحية في العيد    غوغل تختبر ميزات جديدة لمكافحة سرقة الهواتف    بعرض خيالي .. الاتحاد يسعى للظفر بخدمات " محمد صلاح "    "أشعر ببعض الخوف".. ميسي يكشف آخر فريق سيلعب لصالحه قبل اعتزاله    امرأة تطلب 100 ألف درهم تعويضاً عن رسالة «واتس أب»    القصور بعد الثكنات.. هل يستطيع انقلابيو الساحل الأفريقي الاحتفاظ بالسلطة؟    "فخور به".. أول تعليق لبايدن بعد إدانة نجله رسميا ..!    الهروب من الموت إلى الموت    ترامب معلقاً على إدانة هانتر: سينتهي عهد بايدن المحتال    شرطة مرور كسلا تنفذ برنامجا توعوية بدار اليتيم    4 عيوب بالأضحية لا تجيز ذبحها    قصة عصابة سودانية بالقاهرة تقودها فتاة ونجل طبيب شرعي شهير تنصب كمين لشاب سوداني بحي المهندسين.. اعتدوا عليه تحت تهديد السلاح ونهبوا أمواله والشرطة المصرية تلقي القبض عليهم    نداء مهم لجميع مرضى الكلى في السودان .. سارع بالتسجيل    شاهد بالفيديو.. الراقصة آية أفرو تهاجم شباب سودانيون تحرشوا بها أثناء تقديمها برنامج على الهواء بالسعودية وتطالب مصور البرنامج بتوجيه الكاميرا نحوهم: (صورهم كلهم ديل خرفان الترند)    الإمارات.. الإجراءات والضوابط المتعلقة بالحالات التي يسمح فيها بالإجهاض    الإعدام شنقاً حتى الموت لشرطى بإدارة الأمن والمعلومات    اللعب مع الكبار آخر قفزات الجنرال في الظلام    نصائح مهمة لنوم أفضل    إغلاق مطعم مخالف لقانون الأغذية بالوكرة    شرطة بلدية القضارف تنظم حملات مشتركة لإزالة الظواهر السالبة    التضخم في مصر.. ارتفاع متوقع تحت تأثير زيادات الخبز والوقود والكهرباء    إجتماع بين وزير الصحة الإتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    من هو الأعمى؟!    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنطباعات عائد من البلد ( 2) لا تختلف طغمة الإنقاذ الحاكمة اليوم كثيرا عن تلك النماذج من سادات قريش و ملوك بني أميَّة
نشر في حريات يوم 30 - 10 - 2011

مرَّت قضية الهوية مثقلة علي ذاكرتي في شريط سريع من الخواطر و قد كنت واقفا داخل فناء مبني جوازات المغتربين من ناحية البوابة الغربية متكئا علي جداران مكاتب أراضي المغتربين متجها جنوبا (في إنتظار الإنتهاء من إجراءات تأشيرة الخروج) يواجهني مباشرة صيوان كبير بميكرفونات جهورة و خطيب ضخم الجثة أو (صحابي جليل) بقاموس ساخر اللغة عند العامة مستعيضا عن شَعره الحليق تماما بلحية كثيفة متدلية حتي أعلي صدره مرتديا لبسة السفاري الشهيرة (موديل 89م) و علي يده اليمني ساعة لا تغفلها العين حيث يستخدم يمناه للتلويح و التكبير و التهليل أثناء الخطبة في لوحة و مشهد للرجل بمجرد نظرة عابرة تعرف أنه من ماركة صُنِع خِصِّيصاً للإنقاذ و هو يخطب أمام جمع قليلٌ خليط من مغتربين لا ناقة لهم و لا جمل في الأمر كله وقد وجدوا (مع أزمة أماكن الإنتظار) مكانا ظليلا لإنتظار إنتهاء معاملاتهم و وجوه أخري يبدو من زيَّها و مظهرها العام أنها من نفس ماركة الرجل من العاملين بإحدي الإدارات و المصالح الحكومية الملحقة بجهاز المغتربين و هو يتحدث بإنفعال عن الحرب أو الجهاد (كما يسميه) في جنوبي كردفان و النيل الأزرق. و لا يحتاج المرء لجهد كبير ليدرك أن العملية برمتها جزء من حملة التعبئة المنظمة مسبقا للترويج لمشروع السودان العروبي المسلم الهادف لفرض الثقافة العربية الإسلامية علي بلادنا دون غيرها من الثقافات و تسعير نيران الحرب و إثارة النعرات العنصرية لإطالة أمد الطغمة الحاكمة من خلال أجهزة الإعلام الحكومية الموجهة و من خلال أجهزة إعلامية أخري تابعة لبعض المؤسسات و الأجهزة الحكومية من ضمنها إدارة الإعلام و التواصل التابعة للإدارة العامة للإعلام والشئون الثقافية، و إدارتي الهجرة و المنظمات و الإرشاد الأسري بالإدارة العامة للجاليات و الهجرة (و كلها إدارات ضمن الهيكل التنظيمي و الإداري لجهاز تنظيم شئون السودانيين العاملين بالخارج و الذي يتم تمويله بشكل رئيسي من عرق السودانيين العاملين بالخارج، و بدلا من أن تلعب دورها في خدمة المغتربين و المهاجرين السودانيين تكرِّس مواردهم في خدمة مصالح و توجهات سلطة الإنقاذ و سياساتها التي تكرِّس الفتنة و الحرب الأهلية و الإضطهاد القومي و التطهير العرقي و تقود لمزيد من التفتيت و التقسيم وفقا لما يعرف بمثلث حمدي).
و لا تخلو مجالس الناس في السودان علي إختلاف مستوياتهم الإجتماعية من حديث عن العروبة و الهوية و التنوع و أصبح مثلث حمدي من المصطلحات العادية التي يفهمها الجميع و يتم تداولها في مجالس عليَّة القوم و صفوتهم و كذلك في مجالس البسطاء من عامة الناس. و تصاب بخليط من مشاعر الدهشة و الإعجاب و الإلفة و عمق الإنتماء الفطري لعامة الشعب عندما تستمع لأحد البسطاء من رواد مجالس ست الشاي و هو يتحدث عن التنوع ساخرا و معلقا علي ما تبشِّر به الإنتباهة و الطيب مصطفي و منبر السلام العادل، أو عن العروبة و الهوية بطريقته الخاصة المميزة و بلهجة عاميِّة طلِقة أشبه بلغة الراندوك مرتبة واضحة المعاني لها سحر خاص يناسب كل الأذواق يجعلها تنساب لفهمك بهدوء و سلاسة دون عناء أو جهد أو حاجة لإستخدام أيٌ من علامات الإستفهام أو الإستيضاح و كأنه يمتلك مفتاحاً سحرياً لمختلف ألسنة السودانيين و ألبابهم.
و علي عكس مجالس الصفوة (التي تعِجُّ بالمطايب و المكيفات مختلفٌ ألوانها، السكر، الشاى الأخضر و الأحمر و الأصفر و غيره من ألوان الطيف، القهوة العربي بمقبلات الفُستُق و المكسَّرات الفارسيَّة، الفول و التسالى و اللِّب الأسمر و الأبيض من أغلي محمصَّات وكالة الغورية و الحسين و السيدة زينب، نقاوة تمر القُنديلة ماركة حوش بانقا، و أزكي ما أبلحته و أرطبته القطيف “واحة النخيل” من تمر الرطب، البن العجمى، النِسكافيه و متطلباته من حليب البقر المهجِّن و التوابل من أجود ما أنتجته بلاد السند، الفناجيل بمختلف أنواعها و أشكالها، كبابي الشُّب مقاس “كب يا أبو على”، المياه المعدنية، كولا و بيبسى كولا، ميرندا، شعير الشامبيون المعتق، الشربوت الصافي، و الشربوت المخلوط بما لذَّ وطاب من خيرات بلادنا) مجالس في بروج عاجية معادية للوحدة و التنوع و لا تستأنس سيرتهما و تلفظ كل من يثيرهما و يتحدث عنهما في مجالسهم المغلقة تلك المتخمة بحِس الإستعلاء العرقي و الترفع و الإدعاء الفج و الأحاديث المبتذلة، و أقلام السدنة و المأجورين التي أدمنت إقتفاء نتانة الصيف في أحذية الحكام و السلاطين علي مر العهود و الأزمان من ذوي الوجوه الكالحة التي كلما لمحتها مجرد لمحة خاطفة إزدت إيمانا و يقينا و بما لا يدع مجالا للشك أن الإنسان قد خلق بالفعل من طين و ماء مهين، و علي عكسها، فإن مجالس ست الشاي و مجالس البسطاء دائما ما تعِجُّ بالناس الجيدين و الحديث الجيد و الحكاوي الصادقة الممتعة القريبة للقلب و النفس، الواقعية المعاشة فعلا عن الحياة اليومية لعامة الكادحين من أبناء و بنات شعبنا كما هي علي سليقتها بهمومها و معاناتها دون زيف أو رتوش و هم يناضلون نضالا يوميا له معناه، مدعاة للفخر و الإعزاز، جدير بالإحترام و التقدير من أجل إكتساب أسباب بقائهم و في نفس الوقت الإحتفاظ بسودانيَّتِهم و وقارهم و عاداتهم و تقاليدهم السمحة برغم ضيق الحال، و لن يجد المرء أدني صعوبة أو (قشة مرة) “كما يقولون” في الدخول إلي قلوبهم و أريحيتهم و وعيهم العفوي البسيط، فهم يجيدون الإستماع للحديث و يتَّبِعُون دائما أحسنه، و تجد تجاوبا و شغفا من نوع فريد كلما تحدثت لهم عن الديمقراطية و حرية التعبير و حرية المعتقدات و التنوع الثقافي و سيادة حكم القانون و السيادة الوطنية كضرورات لإقامة دولة موحدة يسودها الأمن و السلام و ستلاحظ أن الجميع يستمع إليك باهتمام و إعجاب و أمل و تفاعل إيجابي فتنهال عليك كلمات الإطراء و الأسئلة البسيطة الجادة المفيدة من بعضهم، و يكتفي البعض الآخر برمقك بنظراته المليئة بالإعجاب و كأنه يقول لك هل من مزيد؟ و منهم من يقوم بكرم السودانيين المعهود بالإصرار علي دفع قيمة الطلبات (برغم ضيق الحال) و من الجانب الآخر تجد ست الشاي و قد بذلت جهدا إضافيا مقدرا و عناية خاصة في تهيئة طلبك من القهوة أو الشاي فتزيد كمية السكر و ما اخترته من أصناف (الدواء) أو النعناع الأخضر أو المجفف، القِرفة، الجنزبيل، و الحبَّهان بأكثر من المعتاد، و تزيِّن صينية الشاي أو القهوة بالمزيد من بخور التيمان تعبيرا عن إعجابها بما تقوله و يعبِّر عن آمالها و تطلعاتها، و ما هي إلا دقائق لتكتشف قدرتهم السحرية علي إمتصاص مشاعر الحزن و الإحباط و إحياء روح التفاؤل و الأمل و الإيمان الراسخ بحتمية التغيير فتخرج من تلك المجالس ممتلئاً بعظمة شعبنا و إرثه و قدرته علي الصبر و أيضا علي قلب الموازين في أي لحظة.
و عادة ما يتم تناول قضية الهوية في مثل هذه المجالس المدهشة بشكل تلقائي مختلف تماما عن حوارات الصفوة التي ظلت دائما حبيسة مجالسهم تلك في بروجهم العاجية و في دهاليز السلطة و دواوينها و أجهزتها الإعلامية الموجهة المنحازة بالطبع لتغليب الثقافة العربية و الإسلامية علي غيرها من ثقافات بلادنا الزاخرة المتنوعة، و كذلك في منابر فئات محدودة من المثقفين و السياسيين و المتخصصين التي لا تجد حظها من الإعلام و النشر و لا تجد وسيلة للوصول لعامة الناس و تظل بالتالي كسابقتها حبيسة لا تراوح مكانها.
و قد تختلف المنطلقات التي يتم بها تناول الموضوع بين هذا المستوي الإجتماعي أو ذاك و تتباين وفقا للموقف الإجتماعي و السياسي لكل مستوي من تلك المستويات من موضوع الهوية نفسه إلا أن مجرد تناوله خاصة علي مستوي جمهور البسطاء و الكادحين من أبناء شعبنا و بهذا الشكل التلقائي واسع النطاق يعتبر في حد ذاته تطورا كبيرا و خطيرا في بلادنا.
و علي عكس ما قد يبدو للبعض من سخرية و عدم إهتمام في تناول موضوع الهوية بين العديد من أوساط الكادحين إلا أن هذه السخرية تحمل في طيَّاتها و مكنوناتها قدرا لا يستهان به من العمق و الجدية و الوعي الإجتماعي و السياسي الجدير بالإحترام و لكن يتم التعبير عنه بأساليب بسيطة مفهومة لكل الناس، و لعل في قصة مشجع هلال العاصمة التي يتم تداولها ضمن طرائف مجتمع الكورة ما يبين ذلك بسخرية مثيرة للإعجاب عندما وقف الرجل (و هو هلالابي علي السكين) محتار لفترة طويلة لم يتمكن خلالها التمييز بين لاعبي هلال العاصمة و لاعبي هلال كادوقلي في المباراة التي جمعتهما بالعاصمة و قد جاء متأخرا بعد بداية المباراة فصاح ينادي بخليط من مشاعر السخرية و السخط و بأعلي صوته (ياكوتش ،،، ياخي عليك الله دخِّل لينا هيثم مصطفي عشان نعرف روحنا شايتين وين؟). فمع طرافة القصة و سخريتها و ما تعكسه من قبول السودانيين بكل رحابة صدر و روح رياضية عالية لواقعهم المتنوع بدون عُقَد أو حساسيات برغم المعاناة و ضنك العيش إلا أنها تحمل في طياتها معناً عميقا يعبِّر في جوهره عن صورة حيِّة من صور التمازج القومي في بلادنا يبرز فيها عالم الكورة واحدا من الأوساط الهامة التي تعكسه بوضوح و تبين الوتيرة المتسارعة التي يتطور بها.
و برغم الواقع المذري الذي يعيشه شعبنا طوال فترة حكم الإنقاذ و حتي يومنا هذا (و ما وصلت إليه الأحوال السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية لمستويات غير مسبوقة من الفقر و البؤس و التشرد و التفسُّخ و الإنهيار الإقتصادي التام و التدهور المريع في الصحة و التعليم و الفقدان الكامل للسيادة الوطنية و الإنفلات الأمني و إتساع دائرة الحروب الأهلية المفتعلة) و الحملة المنظمة التي تقودها الحكومة و أجهزتها الإعلامية الرسمية و غير الرسمية بتدبير و مباركة من أعلي قمم السلطة لإثارة النعرات العنصرية و الإستعلاء العرقي و عرقلة عملية التعايش السلمي من أجل فرض الثقافة العربية علي بلادنا دون غيرها من الثقافات الوطنية، إلا أنها لن تستطيع (مهما بذلت من جهود) إيقاف مسيرة التمازج القومي في بلادنا، و علي عكس ما يتوقع دعاة المشروع الحضاري، فإن هذا العداء و الكُره المعزَّز بكل هذه الجهود المبذولة في طمس هوية شعبنا سيتحول في نهاية المطاف إلي قوة دافعة تولد من رحم معاناة الناس تُعَضِّد و تُقوِّي أواصر التلاحم الوطني بين كافة جماهير شعبنا علي إختلاف ثقافاتهم و أعراقهم، و هو ما يشكل في الحقيقة بعبعا و هاجسا للسلطة و عرَّابيها من الأقلام المأجورة و دعاة الفكر الظلامي و يدفعهم لإثارة مزيد من الفتن و التحريض لأجهزة الدولة البوليسية و القمعية لتطهير العاصمة القومية التي أصبحت، برغم أحزمة الفقر و المعاناة التي تحيط بها من كل جانب، قلعة تعكس أرقي صور التعايش السلمي و التمازج القومي بين أبناء شعبنا تشد علي أياديهم و تراكم معاناتهم اليومية علي كافة المستويات و تحوِّلُها إلي حالة من السخط الذي سرعان ما سيخلق مزاجا عاما لدي الناس ينقلهم من حالة السخط و المعاناة إلي حالة الفعل الثوري التي قد تكون بدأت فعلا بتواتر بعض الإحتجاجات المتقطعة و المظاهرات المحدودة المتفرقة هنا و هناك في بعض أحياء العاصمة و بعض المدن الأخري و التي بالتأكيد ستتسع شيئا فشيئا و ستستقطب أقساماً أخري من جماهير شعبنا مع مرور الوقت و إشتداد الضائقة المعيشية و تفاقم عجز الدولة عن الوفاء بالمتطلبات اليومية الضرورية لحياة الناس.
و علي الرغم من وجود قوي إجتماعية تحاول بإستمرار في كل الأزمان و العهود التآمر علي التاريخ و إحداث قطع فيه (بإعتقاد واهم منها بقدرتها علي إلغاء تاريخيَّته و تحويل حركته عن مسارها الطبيعي و التحكم فيها و توجيهها في إتجاهات تخدم مصالحها الذاتية الضيقة و بشكل دائم)، إلا أنّ المقصود بالقطع هنا (كما يقول المفكر الراحل حسين مروة في موسوعته “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”) ليس القطع بمفهومه السكوني (الميتافيزيائي) أي القطع المطلق لحركة التطوّر في إحدى مراحله ثمّ البدء في المرحلة اللاحقة من نقطة الصفر أي البدء المطلق أيضا، بل مفهومه الجدلي التاريخي وهو المفهوم الذي يَعتَبِر القطع جزءاً من خط الإستمرارية نفسها. فإنّ فهم العلاقة الجدلية على هذا النحو بين القطع و الإستمرارية في حركة تطوّر المجتمع البشري يرجع للأساس العلمي لمفهوم الحركة نفسها في الطبيعة والمجتمع والفكر جميعا، وهو الأساس القائم على وحدة التناقض الداخلي لقانون الحركة. و هو ذات التناقض الذي بنى عليه الفيلسوف زينون الأيلي (489 ق.م) إنكاره المطلق لوجود الحركة عندما تصوّر لإثبات ذلك سهما ينطلق في الفضاء قال أنّه (أي السهم) لا بدّ و أن يكون في أيّة لحظة زمنية خلال إنطلاقه ثابتا في نقطة معينة لأنّه لا يمكن أن يكون في لحظة واحدة موجوداً في مكانين إثنين أي أن وجوده في كل نقطة ينفي النقطة التي سبقتها و يبدأ من الصفر في النقطة التي تليها و هكذا.
و بالتالي خلص إلي أنّه إذا كان السهم في كلّ جزء زمني ساكنا في نقطة بعينها لزم أن يكون في مجموع الأجزاء الزمنية ساكنا أيضا في النقاط الأخري لأنّ استمرار السكون لا ينتج غير السكون و بالتالي فلا حركة إذن. و من هنا جاء إنكاره المطلق للحركة.
و لمزيد من محاولات إثبات فرضيته عن الحركة تصور زينون رجلا أسماه (أخيلوس) يسابق سلحفاة و إفترض أنّ السلحفاة تقدّمت علي الرجل بعشرة أمتار منذ البدء بناءا على أنّ سرعة الرجل تعادل عشرة أمثال سرعة السلحفاة، فحين بدأ الرجل السير وقطع عشرة الأمتار الفاصلة بينه وبينها وجدها تقدّمت مترا واحدا أي عُشر المسافة التي قطعها هو فلمّا قطع هذا المتر كانت هي قد قطعت عُشر المتر فإذا قطع هذا العُشر تكون السلحفاة قد تقدّمت عليه بجزء من المائة من المتر،،، و هكذا يظلان متلاحقان إلى غير نهاية دون أن يلحق أخيلوس السلحفاة بناءاً علي إفتراض زينون بالقطع المطلق لمرحلة معينة لتبدأ المرحلة التي تلي القطع من الصفر و كأن ما سبقها لم يكن له وجود أصلا فالمسافة التي قطعها أخيلوس في المرحلة السابقة لا تضاف وفقا لمنطق زينون للمرحلة الجديدة و تبدأ بالتالي من الصفر تماما.
إلا أنّه بناءا على هذين التصورين يكون السهم في حقيقة الأمر موجودا وغير موجودا في النقطة المعينة نفسها وفي اللحظة المعيّنة نفسها وهكذا في كلّ نقطة وفي كلّ لحظة على خطّ السهم الزينوني. والأمر نفسه يتم في مثال أخيلوس والسلحفاة، فلو أنّ الحركة هي التقطع فقط (كما كان يفكّر زينون) لكان افتراض عدم إمكان أخيلوس اللحاق بالسلحفاة أمرا صحيحا و محتوما. غير أنّ فهم الحركة بكونها وحدة النقيضين (التقطّع وعدم التقطع) أي (الإستمرارية) يجعل لحاقه بالسلحفاة ممكنا و هذا هو الفهم الذي يقبله العقل و المنطق.
هذا المفهوم الجدلي للحركة ينطبق على الحركة التاريخية لتطوّر المجتمع ولتطوّر الفكر بالطريقة نفسها التي ينطبق بها على الحركة في الطبيعة فالتاريخ أي (تاريخ المجتمع وتاريخ الفكر معا) كلاهما عبارة عن وحدة لخط الإستمرارية و وحدة لتراكم التغيّرات الكمية والتغيرات الكيفية أو (النوعية) التي تنشأ و تولد من رحمها أي وحدة التقطّع و الإستمرارية في خطّ هذه التغيرات نفسها.
فثورة أكتوبر بإعتبارها مرحلة من مراحل التطور الإجتماعي و الفكري لم تكن حدثا بدأ من الصفر أو السكون معزولا عن التطورات الإجتماعية و الفكرية التي سبقتها بل كانت نتاجا لتراكم كل ممارسات سلطة 17 نوفمبر 1959م إبتداءا من أول قرارات للفريق عبود في أول خطاب له بعد إستلامه السلطة متمثلة في حل الأحزاب السياسية، منع التجمعات و المواكب و المظاهرات، وقف صدور الصحف، و صدور الأمر الدستوري الأول بإعلان حالة الطوارئ، مرورا بحركة 9 نوفمبر 1959م و التي تم إعدام ضباطها الخمسة و محاكمة زملائهم بالسجن لفترات وصلت ل 59 عاما، و كذلك حل النقابات من قبل مجلس الوزراء العسكري الحاكم في قراره بتاريخ 3 ديسمبر 1958م و ملاحقة قادة الحركة النقابية و الشبابية و الطلابية و النسوية و إعتقالهم و تعذيبهم و تشريدهم و التي لم تثني جماهير شعبنا عن مواصلة النضال طوال فترة الحكم العسكري بكافة الوسائل الجماهيرية مظاهرات، إعتصامات، و إضرابات شكلت جميعها تراكمات و تحولات كمية أفرزت في النهاية تحولا نوعيا كبيرا و عظيما ممثلا في ثورة أكتوبر المجيدة.
و بنفس القدر فإن إنتفاضة شعبنا في مارس/أبريل 1985م كانت أيضا نتاجا لتراكم نضالاته طوال سنوات حكم السفاح نميري متمثلة في 19 يوليو 1971م، أغسطس 1973م، 5 سبتمبر 1975م، 2 يوليو 1976م، يناير 1980م و يناير 1982م و غيرها من مختلف أشكال المقاومة الجماهيرية المجربة و المواجهات العسكرية المسلحة في جنوب البلاد و مساهمتها في إضعاف نظام مايو و التي شكلت جميعها تطورات تاريخية فعلية أفرزت في النهاية إنتفاضة الشعب في 1985م. فهي إذن كسابقتها في أكتوبر 1964م لم تولد من فراغ أو تبدأ من الصفر أو السكون كما يعتقد دعاة المشروع الحضاري. و بالتالي لم تنجح محاولات السلطتين العسكريتين في الفترتين أن تحمي مصالح فئات إجتماعية بعينها لا تختلف كثيرا عن الفئات التي تحميها اليوم طغمة الإنقاذ و في تصفية حركة الجماهير و في إيقاف حركة التاريخ و مسيرة التطور الإجتماعي. و ستظلان (أكتوبر و مارس/أبريل معا) هكذا جزءاً لا يتجزأ من خط الإستمرارية خالدتان في ذاكرة شعبنا يستقي منهما الدروس و العِبَر و يمضي إلي الأمام و هو يخوض بثبات و صبر غِمار ثورة جديدة عارمة قادمة لا محالة. و كذلك لن تفلح هذه المرة أيضا طغمة الإنقاذ الحاكمة في شل مسيرة شعبنا و طمس هويته مهما بلغت درجات التزييف و الإستغلال للسلطة و الدين.
و من المعروف أن هنالك فرقٌا بين التراث في حد ذاته و بين معرفة هذا التراث، فالتراث واحد لا يتغير أي (موجود كما هو بشحمه و لحمه)، و لكن معرفته أي (معرفة التراث) تتعدد و تختلف بإختلاف المنطلقات الإجتماعية و الموضوعية للجهات المتعددة التي تقوم بتفسيره، أي موقفها من واقع الصراع الإجتماعي في الوقت الحاضر و بالتالي تميل دائما لتفسيره بما يخدم مصالحها و يتماشي مع أفكارها التي تتبناها في الوقت الحاضر نفسه. فعلي سبيل المثال، بما أن ثالوث المؤسسة الدينية في البلاد المتمثل في هيئة علماء السودان، مجمع الفقه الإسلامي، و مجلس الإفتاء ينتمي لنفس الفئة الإجتماعية و السياسية الحاكمة فإنها تكرِّس علمها و معارفها الفقهية و الشرعية عن الدين و التراث في خدمة مصالح الطغمة الحاكمة و تقوم بتفسير نصوصه و تكييفها شرعيا بما يخدم هذه الطغمة و يبرر جبروتها و تسلطها فتصدر عنها علي سبيل المثال فتوي بعدم جواز خروج المسلمين في التظاهرات. أو فتوي نائب رئيس هيئة علماء السودان عبد الحي يوسف بناءا علي مقال رئيس منبر السلام العادل عن معرض الكتاب المقدس الذي أقامته مدارس كمبوني (و هو تقليد خاص بالمسيحيين درج علي إحيائه المسيحيين الشباب سنويا في الجامعات و المعاهد العليا منذ عدة سنوات) بعدم جواز ذلك و إعتبره منكرا باطلا يتحتم علي من بسط الله يده من رئيس ووالي و مسئول (أي الحكومة) أن يمنع هذا المنكر و الباطل ويحول دونه وإلا كان خائناً لله ورسوله ولجماعة المسلمين. في حين أن المولي عزَّ و جلَّ قد أمرنا في ديننا الحنيف أن نؤمن بالأديان و الكتب السماوية فقد قال المولي عزَّ و جل في سورة البقرة الآية (285): (آمَنَ الرسولُ بما أُنزِلَ إليه مِن رَبِّه والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه لا نُفرِّقُ بين أَحَدٍ مِن رُسُله وقالوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرَانكَ رَبَّنَا وَإليكَ المَصيرُ) صدق الله العظيم. إلا أن الجماعة ليس لهم (قشة مرة) و هم في المراوغة و المخاتلة و مجاراة ظاهر القول ما يجعلهم أكثر مهارةً و قدرةً من ود الموية و القرموط يصعب صيدهم و مسكهم كمخاتلة حبهم للمطايب و النِعم فإذا أعجبهم الطعام أفتوا بأن قالوا من القرآن (كلوا من طيبات ما رزقناكم) و من السنة (أحسنوا الصحن) ،،، أما إذا لم يعجبهم المذاق قالوا (ما ملأ ابن آدم وعاءا شراً من وعاء بطنه). فهم جاهزون دائما (للنَّجِر) لا يخشون في تحريف الكلام أو تصحيفه أو حمله بمعانيه المجردة فقط لومة لائم.
و علي عكس تفسير دعاة المشروع الحضاري فالتراث العربي الإسلامي يحدثنا بأن الآثار الإيجابية التي تركتها الديانات اليهودية والنصرانية علي العقلية العربية في المجال الديني، كانت من العوامل التي مهدت لقبول سكان الجزيرة العربية للإسلام نفسه حيث ساعدت عقيدة التوحيد التي نشرتها تلك الديانات بين العرب قبل الإسلام على تفكيك الوثنية والتعددية الإلهية التي كانت سائدة في ذلك الوقت والكشف عن زيفها و مجافاتها للعقل و المنطق والحس البشري السليم لذلك فإن الإسلام قد وجد الطريق أمامه معبدا و الأرض ممهدة فوجدت فكرة التوحيد قبولا و أصبحت فيما بعد أول مبدأ دعي له الإسلام و جعله أول أركانه الخمس (شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله) و مفتاحا و مدخلا له. كما يحدثنا القرآن الكريم كيف أن المسيح عيسي بن مريم قد بشّر بالإسلام و بالنبي الكريم محمد (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)، و التاريخ الإسلامي يحدثنا بأن الأوس والخزرج قد كانوا من أهم عوامل نجاح دعوة الرسول الكريم محمد وهو القائل في حقهم (وهو لا ينطق عن الهوى إنما هو وحي يوحى)، ( اللهم أعز الأنصار الذين أقام الله بهم الدين والإيمان، هم الذين آووني ونصروني وآزروني وحموني، هم أصحابي في الدنيا وشيعتي في الآخرة وأول من يدخل بحبوحة الجنة من أمتي).
و بلادنا التي ظلت مسرحا للتعايش السلمي لقرون عديدة أيضا حافلة بالمشاهد الحيَّة التي لا تحصي أو تعد و التي تعكس هذا التعايش فقد أرسل لي صديق مصري بإعجاب وثيقة يرجع تاريخها لعام 1935م و هي عبارة عن خبر بأحد صفحات ملحق (حضارة السودان)، و هي جريدة يومية سياسية أخبارية كانت تصدر في تلك الحقبة، العدد 1367 بتاريخ 9 ذي الحجة 1353ه الموافق الخميس 14 مارس 1935م بعنوان (القائمة الأولي بإعانة ساكني المدينة المنورة لصاحبها أفضل الصلاة و السلام) و كانت تضم قائمة من 16 شخصية سودانية معروفة تبرعوا بمبلغ إجمالي قدره 223 جنيه و قد كان يمثل مبلغا ضخما في ذلك الوقت و كانت حينها بلاد الحجاز تعتمد بشكل كبير علي مواسم الحج والعمرة وكانت مناطق جدة ومكة و المدينة تنتظر قوافل الحجاج السودانيين بفارق الصبر لكرم السودانيين وما يحملونه معهم من عطايا للحجاج والفقراء في تلك البلاد في ذلك الزمن. وكثير من كبار السن من سكان مكة و المدينة يذكرون هذا الأمر و قد ورد ضمن رواياتهم أن السودانيون كانوا يلقبوا بأولاد عباس وعند قدوم حملة الحجاج السودانية تأتي إليهم جموع من أهل مكة والمدينة ويقولوا لهم (يا أولاد عباس أدو الناس). و الملفت للنظر هنا أن أحد المتبرعين حضرة السراي الكبير الخواجة هنري جيد وهو سوداني مسيحي مما يبين مدي التعايش الذي كان يسود بين المسلمين و المسيحيين في بلادنا في تلك الفترة. فإذا صحَّت مقولة أن السودانيون كانوا يلقبون بأولاد عبَّاس (أو العبَّاس عم الرسول) فإن الخواجة هنري جيد (و قد دفع عدله بالتمام و الكمال) يصبح من البكور في ذرية الرجل و بالتالي لا يصبح العبَّاس حِكرا علي الجعليين كما تروي قصة الجعلي و قد طلب بمجرد وصوله الحجاز لأداء فريضة الحج و قبل أن يبدأ مناسك الحج أن يذهبوا به قبل كل شي لزيارة قبر جده العبّاس و بعدما وصل هناك و شال الفاتحة و نزَّل ليهو دمعتين عاين لقبر جدو و قال (هملتك هملة آ جدي العبَّاس ،،، هسّع أكان مت في جبل أم علي ما كان عملنا ليك قبة أخير من قبة ود أخوك التعبانة ديك) فالقصة برغم طرافتها إلا أنها تبين كيف أن الرجل كان يهمه العبَّاس أكثر من الرسول الكريم و من مناسك الحج نفسها الأمر الذي يكشف أن العروبة عند دعاة مثلث حمدي تأتي في المقام الأول فهي مقدمة في مشروعهم الحضاري عن الإسلام نفسه.
فليس غريبا أن ترتبط فكرة المشروع الإسلامي لدي طغمة الإنقاذ الحاكمة بالعروبة و بالثقافة العربية و التراث العربي عموما و الذي يمثل الإسلام جزءا منه علي الرغم من أن ظهور الإسلام في جزيرة العرب و نزول القرآن باللغة العربية لا يعني أن الدين الإسلامي دين عربي أو أن العرب لديهم فضل علي غيرهم من البشر حيث يقول سبحانه و تعالي في سورة الحجرات (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)، و يقول الرسول الكريم محمد عليه الصلاة و السلام في حجة الوداع (لا فرق بين عربي أو عجمي و لا بين أبيض و أسود إلا بالتقوي). فأهمية الإسلام منذ ظهوره تكمن في كونه جاء متميزا عما سبقه من ديانات فلم يكن عقيدة خاصة بالعرب بل دعوة لكافة البشر توجِه خطابها للأمة و لكافة الشعوب و تتجاوز الأطر القومية و القبلية علي عكس ديانة موسي التي كانت موجهة لفرعون و لليهود دون غيرهم من البشر (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)). أو ديانة المسيح عيسي عليه السلام الذي أرسله الله إلي اليهود أيضا أو بني إسرائيل (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بل أن الإسلام قد جاء ليحارب التعصب و القبلية و عبادة كل قبيلة لإله خاص بها و ذلك أيضا من خلال عقيدة التوحيد نفسها كما أسلفنا و التي لعبت دوراً بارزاً في توحيد قبائل العرب و التقريب بينها و صهرها في بوتقة واحدة و إزالة مشاعر التفرد و النفور.
فمفهوم الجاهليِّة لدي دعاة الفكر السلفي و علي طليعتهم الأخوان المسلمين القائم علي الإدعاء بعزلة مكة عن محيطها الخارجي، إدعاء باطل الهدف منه إثبات أن الإسلام نزل في بيئة أميِّة جاهلة مغلقة بعيدة عن الفكر (أو منقطعة عنه) و ساكنة في أحد نقاط مسيرة السهم الزينوني الذي تحدثنا عنه سابقا، بإعتقاد فج و جهل عظيم بأنهم بذلك يخدمون الإسلام في حين أنهم في الحقيقة يضرونه و يحوِّلونه لدين منعزل متصادم مع واقع الحياة المتغير و متناقضا مع مقولة أنه صالح لكل زمان و مكان.
فالتاريخ يبين أن العرب كانوا منفتحين علي ما حولهم من حضارات و إمبراطوريات و أن مكة بفعل رحلتي الشتاء و الصيف كانت ملتقيً للقوافل التجارية و مسرحا للأدب و الفكر و التمازج القومي و التلاحم الديني و ظهور مدارس فكرية متقدمة في ذلك الوقت يأتي في مقدمتها الحنيفية و التي كان يطلق علي معتنقيها الحنفاء (أي الميّاَلون عن الضلال إلى الاستقامة) فقد كانت ترفض اليهودية و النصرانية معا و كذلك عبادة الأصنام و تدعو لمكارم الأخلاق و ترفض الزنا و المخاذنة وشرب الخمر والتعامل بالربا ووأد البنات و كان المنتمين لها من الشخصيات التي تميزت بالسمو العقلي والأخلاقي أو بالحنكة السياسية أو الثقافية العالية، ولما كان الشعراء يمثلون في مجتمع ما قبل الدعوة المحمدية الفئة المثقفة لذا كان عدد من كبار الشعراء آنذاك من الحنفاء منهم أمية بن أبي الصلت، زهير بن أبي سلمى، النابغة الذبياني، و عامر بن الظرب، ولهم قصائد في الإيمان بوحدانية الله والبعث والحساب، وفي الترفع عن الدنايا. و ينتمي إليها أيضا زيد بن عمرو بن نفيل العدوي عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بل أن القرآن حدثنا أن سيدنا إبراهيم الخليل أبو الأنبياء كان حنيفيا إذا قال في سورة آل عمران (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفياً مسلماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
و بالتالي فإن ربط الدين الإسلامي بالعروبة و الإدعاء بأنه نزل علي أمة منعزلة جاهلة يعتبر تشويها و تحريفا و تفريغا له من محتواه التوحيدي الشامل الذي يحارب العنصرية و لا يفرق بين الناس علي أساس العرق و اللون و الإنتماء القبلي و يدعو للإنفتاح علي كل الأفكار و الحضارات.
هذا و يؤكد التاريخ أن التيارات و المدارس و الإتجاهات التي ربطت العروبة و القبلية بالإسلام في عمومياتها تمثل القوي الإجتماعية التي عملت دائما لإستغلال الدين من أجل مصالحها الضيقة. و لعل من دخلوا بيت أبي سفيان في فتح مكة من أعيان قريش و كبار تجارها و سادتها و فضَّلوا إعلان إسلامهم من هناك قد فعلوا ذلك حتي لا يكونوا في مرتبة واحدة أو تحت إمرة قادة الفتح الإسلامي و منهم من كانوا عبيدا أو رعاة لبعضهم قبل عقدين فقط من الزمان من أمثال بلال بن رباح و عبدالله بن مسعود و غيرهم في حين أن معظمهم (و علي رأسهم أبي سفيان) من الذين ينحدر أصلهم لقبيلة قريش و يمتد نسبهم إلي قصي بن كلاب (جد الرسول الكريم محمد) الذي حوَّل قريش من قبيلة مستضعفة تسكن الجبال والشِعاب وأطراف مكة إلى القبيلة الحاكمة التي تمسك بزمام السلطة والثروة في العاصمة الدينية المقدسة، وتسكن الأبطح أكرم بقاعها وتقيم بيوتها في الحرم، وتصبح أشرف قبائل جزيرة العرب، ويطلق على أفرادها “أهل الحرم” ويصبح النسب إليهم مكانة رفيعة تتطاول إليها أعناق شيوخ القبائل الأخرى. و لذلك فقد كان هؤلاء بمثابة الثورة المضادة للتغيير الإجتماعي و الفكري الذي أحدثه إنتصار الدعوة الإسلامية و بالتالي فإن دخولهم الإسلام كان في المقام الأول بهدف الحفاظ علي مواقعهم الإجتماعية و القبلية و استعادتها و من أجل أن يجدوا (عاجلا أم آجلا) حظا لهم في الدولة الإسلامية الوليدة فظلوا يتربصون بها سعيا للسلطة. فهم من أشعل الفتنة بين علي و عثمان و كذلك بين علي و أم المؤمنين، و هم الذين رفعوا المصاحف علي أسنة الرماح في معركة صفِّين، و الذين قتلوا الحسين في كربلاء، إلي أن وصلوا السلطة و تربعوا علي عرش الخلافة الإسلامية لفترة دامت أكثر من 88 عاما. و من المعروف أن دولة بني أميَّة و برغم أنها شهدت بعض السنوات تولي فيها الخلافة من يحفظ لهم التاريخ سيرة حسنة في العدل و الحكمة إلا أن بنو أميَّة عموما اشتهروا بالتسلط و الجاه و الترف و رغد العيش و اللهو و المجون فمنهم هشام بن عبد الملك الذي نفِّذ أبشع جرائم القتل السياسي عندما أمر والي العراق خالد القسري بقتل الجِعد بن درهم. و في عيد الأضحي بعد أن إنتهي من الخطبة و كان الجِعد مكبلاً بقيوده أسفل المنبر أمام الملأ خطب في الناس قائلا قولته المشهورة (أيها الناس إذهبوا و ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح اليوم بالجِعد بن درهم ثم نزل وذبحه في أصل المنبر أمام الملأ في مشهد مريع (مشابه تماما لمشهد إعدام شهيد الفكر محمود محمد طه) قرظَّه و أشاد به بن القيِّم الذي كان أحد حاشية هشام بن الملك و الجِعد و مستشارهم من علماء الدين (كما كان عوض الجيد، النيّل أبوقرون، و بدرية سليمان حاشية للسّفاح نميري) في أبياته المشهورة:
ولأجل ذا ضحى بجِعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
إذا قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
و منهم كذلك الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان (الذي تولي الخلافة بعد وفاة عمه هشام بن عبد الملك) و الذي مزَّق المصحف الشريف عندما فتحه يوما فأول ما أطل له قوله تعالي (و استفتحوا و خاب كل جبَّار عنيد) فثار غيظه و قال مخاطبا المصحف الشريف أتتوعدني؟ ثم علقَّه و ظل يضربه بالنشَّاب حتي خرقه و مزّقه و هو ينشد بقولته المشهورة:
أتتوعد كل جبار عنيد ،،، فأنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ،،، فقل يا ربي مزَّقنى الوليد
و لا تختلف طغمة الإنقاذ الحاكمة اليوم كثيرا عن تلك النماذج من سادات قريش و ملوك بني أميَّة في غيّهم و جاههم و قصورهم العاجيِّة و تسلطهم و جبروتهم و ربطهم للدين الإسلامي بالعروبة و القبلية و إستغلاله لتعزيز موقعهم الإجتماعي و تحقيق مصالحهم الذاتية و تحويله من دين يدعو للتعايش و يحارب القبلية و العنصرية و التعصب إلي مطيِّة لتسعير نيرانها، و من دين يدعو إلي مكارم الأخلاق إلي مجرد فتاوي و صكوك غفران لتقنين و توطين الفساد و التفسُّخ و الإنحطاط و التملق و المداهنة، و من دين يدعو إلي السلم كافة إلي مجرد طبول لتسعير نيران الحرب، و من دين يدعو إلي الحكمة و الموعظة الحسنة إلي ألسنة سليطة لا تجيد غير السب و الذم و الشتم و الوعيد.
و في الختام و إذا صحَّت مقولة أن السودانيون كانوا يلقبون بأولاد عبّاس كما يقول شيوخ مكة و المدينة فأترك الأمر للقارئ و فطنته و خياله ليتصور ماذا كان سيحِل بنا لو أن العبَّاس قد مات بالفعل و دفن في جبل أم علي؟؟؟.
الهادي هباني
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.