في يوم الاحد 23 اكتوبر 2011 احتفلت الجبهة السودانية للتغيير في لندن , بذكرى اكتوبر المجيدة . كما احتفلنا بمرور عام على تكوين جبهة المعارضة لنظام الانقاذ . و كانت هنالك ندوة , و حفل ساهر شارك فيه ثلاثة من الفنانين , احدهم الفنان طارق ابوعبيدة ( خضر) من هولندا , و الفنان معاوية الوكيل بانجلترا و ايهاب الماحي في لندن كذلك . و في الفواصل , كنا نتواصل و نتحدث . و كنت احكي للأستاذ احمد بدري عن الايميل الذي استلمته من الاخ الحبيب بشرى النور . و بشرى الذي أكن له كثيراً من الحب و اعرف الكثير عن حله و حاله و ترحاله , لم اسعد الى الآن بلقائه . و لم اشاهده الّا في التلفزيون , يتحدث عن امدرمان و خاصةً حيّ العرب . و بشرى كان قد ارسل لي ايميل يقول فيه انه ذهب لعزاء آل ياجي , و آل ياجي من اعمدة امدرمان , حيّ العباسية . و كانت الزيارة بمناسبة انتقال شقيقتهم الى رحمة الله . العزيز بشرى النور كان يقول لي : ( تعرف يا ابو الاشواق قبل يومين مشيت للعباسية لتقديم العزاء لاولاد ياجي . خالد الدكتور و اخوه سعد المحامي و هاشم . طبعاً مشى معاي الفاضل اورل . و نحن قاعدين جا البروف قاسم بدري . بعد شويه جا الاب فيلو ثاوس و تمت الناقصة , و يونس الله جابو و عيسى دهب . و جات سيرتك و طبعاً ذكرناك بالخير ) . كنت احكي لأحمد بدري عن ايميل بشرى النور و ذكرت له الحضور و عندما وصلت الكابتن عيسى دهب قال احمد بدري مباشرةً و يونس الله جابو و …. . فقلت له : ( انت هاكر و لا قريت الايميل بتاعي ؟ ) . فقال احمد بدري ضاحكاً : ( يا شوقي ديل ما ناس العباسية ) . و كان احمد ملم بالمأتم , وكأنه كان هنالك . و تدخل الدكتور الاخصائي صالح بابكر خلف الله و آخرون . و كان الجميع على دراية كاملة بالمأتم . و أبدو حزنهم و ألمهم لمصاب آل ياجي , و منهم الدكتور خالد اخصائي التجميل , و سعد المحامي , و هاشم اخصائي الأذن و الأنف و الحنجرة . و آل ياجي من ركائز العباسية و قد اعطوا الكثير لمجتمعهم . بالرغم من البعد لا يزال اهل السودان و امدرمان يتواصلون و يهتمون بأخبار بعضهم البعض . و في امدرمان قديماً , لم يكن هنالك ما يفرقنا . لا يفرقنا دين أو قبيلة و لا منصب أو تعليم , الجميع أخوة . و بالرغم من لؤم الانقاذ , لا تزال امدرمان هي امدرمان . و تذكرت العباسية و ميدان الربيع خاصة . و تذكرت اخي الطيب سعد الفكي . الذي اتى من الشريق في الرباطاب و صار أحد اعلام امدرمان , ثم رئيساً لنادي الربيع . و يحمل أحد ابنائي اسمه , و يحمل احد ابنائه اسمي . و يحمل اشقاء ابنه شوقي اسماء اشقائي الشنقيطي و أسعد . و ذكرني بشرى بالأخ الفاضل اورل . الفاضل اورل كان ( فردة ) شقيقي الشنقيطي رحمة الله عليه . و أولاد العاتي ثلاثة و هم كباتن الكرة الفاضل اورل و عز الدين والتوم . و ارتبط الشنقيطي رحمة الله عليه بالفاضل لدرجة انه كان يستأجر منزلاً بجوار اولاد العاتي , و كان هذا المنزل بمثابة نادي لأبناء المنطقة . اجتمع فيه العمّال و الصنايعية و الحكام و العلماء و كبار رجال الخدمة المدنية . و كان المنزل في فريق حمد و هو الحيّ جنوب ميدان الربيع و يفتح المنزل على خور ابوعجة . و لقد ذكر الاستاذ عبد الله الشقليني ( بيكاسو ) و المقيم الآن في الامارات , انه كان يسهر معهم في بعض الأحيان , و كانت قعداتهم تنتهي بي الاغنية العمالية ( ابرول معطون في الزيت ) و هذه الأغنية كانت محبوبة وسط الديمقراطيين و المثقفين و اليساريين . فليس من الغريب ان يغني ابناء العباسية تلك الأغنية , فهي تمثل التلاحم بين كل قطاعات المجتمع , كما يحدث في امدرمان والسودان قديماً , و لم يكن هنالك ما يفرق الناس . كنت اتخيل مأتم آل ياجي . و كيف تتحول المآتم في السودان قديماً الى فيستيفال تواصل و تكامل و حب . فبالرغم من قباحة الانقاذ , لا يزال الناس في بلادي يتواصلون . و كنت اتخيل روعة امدرمان عندما يقول بشرى الفاضل : ( و نحن قاعدين جا البروف قاسم بدري , بعد شوية جا الأب فيلو ثاوس و تمت الناقصة ) . هذه هي عظمة العباسية و امدرمان و السودان . الدين لم يكن يفرق بل كان يجمع . في حديثي مع شقيقي بابكر بدري ( العميد ) و المقيم في السويد منذ ثلاثة عقود , تذكرنا جارنا و حبيبنا الأب فليب مضوي غبوش و الذي كان يسكن في قلب حيّ الرباطاب . و المتزوج الأخت نرجس . و كان الوالد خضر رحمة الله الياس ( الحاوي ) و آخرون يعتبرون انفسهم اولياء امور تلك الأسرة عندما كانت البنات صغيرات . و قد ذكر لي الأخوان عبد اللطيف و حسين أولاد الحاوي بأن أسرة فوتي و الخالة استير فوتي كانوا يعتبرون كأهل بالنسبة لهم . لقد ذكرت أنا في كتاب حكاوي امدرمان أن العم فوتي كان اشهر ساعاتي في امدرمان مثل العم ميلاد و هو كذلك قبطي و العم ابو شنب و هو طويل القامة . و من الساعاتية المشاهير في امدرمان و هو قبطي كذلك و جارنا في الحيّ العم لكلا نصيف لكلا و لقد صار ابنه فادي ساعاتي كذلك . ما تذكرناه أنا و العميد , ان الفاضل اب احمد صاحب الفرن في حيّ الرباطاب و احد مشاهير امدرمان و ظرفائها , و كان في فرنه يجتمع الحكام و العوام . و من هذا الفرن انطلق رجال مايو في يوم 24 مايو بعد قعدة الى خور عمر . فقال لهم معاتباً بعد ايام : ( يعني تاكلوا حلتي , و تمشوا تعملوا انقلاب , اسمع بيهو في الراديو زي الغريب ؟! ) . في أحد الأيام اتى البعض كالعادة لقضاء السهرة في فرن الفاضل اب احمد ( ود عماسيب ) الذي كان يسكن في العرضة شرق الأحفاد . و كثر الناس . و كان معهم ضيفاً سعودياً . و أكراماً للضيف السعودي , طلب منهم ود عماسيب الانتقال لدار جاره للراحة و التوسع بدلاً من مقاعد الفرن , التي كانت عبارة عن صناديق و كراسي خيزران و بنابر . و قام جار ود عماسيب بالترحيب بهم , و وضع الدار تحت تصرفهم . و سخرت كل موارد الدار لخدمتهم . فتأثر السعودي و قال لصاحب الدار ما معناه ( و الله يا شيبه مكانك مكة ) . فضحك الجميع لأن صاحب الدار هو الاب فليب مضوي غبوش المسيحي . هكذا كانت امدرمان . زوجة الأخ العم عباس ( الأب فليب مضوي غبوش آدم ) هي نرجس ابنة استير فوتي . و كما ذكرني أخي الصغير طارق هباش فمن ابنائهم هدى و عزيزة و عواطف و جميل و جميلة و نصر الدين و لطفي و جوزيف و اسحق و آخرين . و شقيقة نرجس هي فردوس . عظمة الأب فليب مضوي غبوش أنه سكن وسطتنا نحن الرباطاب و نحن من لا يعجبنا العجب و لا حتى الصيام في رجب . و أحببناه و أحببنا أهله . و كما كان يقول أخي الصغير طارق هباش أن أولاد غبوش و أبن اخيه محمد جبريل كانوا اشقاء بالنسبة له و لبعض شباب الحيّ . و طارق يتواجد الآن في ايرلندا . و محمد جبريل المسلم و الذي كان يصلي كان يسكن في منزل عمه فليب مضوي غبوش . و أولاد عزيزة كانوا مسلمين , و هم حمد النيل و جهاد و نجوى و اخرين . هكذا كنّا في امدرمان قديماً . و كما أوردت من قبل فأن طارق جبريل و هو من أسرة الهبابيش المشهورة في امدرمان . كان محبوباً و معروفاً في الحيّ . و كل الشباب يدخلون المنازل في أيّ وقت . و طارق كان يحتد مع شقيقاته الصغيرات في المنزل عندما تتأخر طلباته . أذكر في بداية الثمانينات , و قبل اعتقال الأب فليب غبوش فيما سميّ بالمؤامرة العنصرية , عندما أعتقل النميري الأب فليب و مجموعة كبيرة من اهل جبال النوبة . أن كنت في رفقة محمد البدري و هو من أولاد الثورة . و له ارتباط بالبوليس . فشاهدنا اثنين من الشباب يجلسون في كراسي امام عربة , في زقاق غرب مكتب ادراة مستشفى التجاني الماحي , الذي كان لا يزال تابعاً للأرسالية . و نزل محمد للحديث معهم . ثم عرفت منه انهم يراقبون العم فليب مضوي غبوش آدم . أحد رجال الأمن كان يتظاهر بأنه مجنون , كان يجلس أمام منزل الأب غبوش . و صار الأب فليب غبوش يدعوه لدخول الدار و يتبسط معه و يطعمه . و بعد فترة أفهمه بأنه يعرف انه رجل امن , و لكن البيت بيته . لقد تفرقت تلك الأسرة . وتفرق اسحق و يعقوب بين لندن و أمريكا و صارت سارة و يوسف و أمهم في امريكا و يذكرهم أهل امدرمان لأنهم من رحمها . و جدهم من جهة الام عبد ربه كان أحد مشاهير امدرمان و اشتهر بالأغنية التي كنا نغنيها في الخمسينات و نحن صغار ( يا عم يا عم شبط النايلون بي كم … بي خمسة و سبعين و عشان خاطرك يا جميل بي خمسة و عشرين ) . و الأغنية على رزم السامبا و الرمبا التي اشتهرت قديماً . الآن عندما اعيد التفكير لا استغرب لان احمد بدري كان حالّي الامتحان . فنحن نترك امدرمان و السودان و نرتبط بهما كل لحظة في حياتنا . أحمد بدري كان رئيساً لنادي العباسية الثقافي . و هو من مؤسسيه . و هذا النادي كان بلا منازع , اكبر و أهم نادي ثقافي في السودان . و كان ملاصقاً لمنزل الشاعر صلاح احمد ابراهيم . و كان شقيقه الرشيد رحمة الله على الجميع في لجنة ذلك النادي . و أبن خالتهم الرائع فخري . اشترك في ذلك النادي الاديب عصمت العالم و عمر الشاعر و الفنان زيدان ابراهيم رحمة الله عليه و الشاعر التجاني حاج موسى و الآلاف من ابناء العباسية . و منهم تؤام الروح بله رحمة الله عليه . و لهذا كان تخيل احمد بدري كاملاً لمأتم آل ياجي و كأنه ينظر في شاشة التلفاز . فأهل السودان و أهل امدرمان قديماً كانوا في حالة اتصال روحي دائم . و هنالك القليل جداً الذي يفرقنا . و لكن كل شئ كان يجمعنا . العم عبد ربه , الذي كان كفيفاً , كان يرتدي جلباباً و برنيطة مثل التي كان يرتديها رجال الصحة او موظفي الدولة في السودان .. و كان بالرغم من فقدانه نعمة البصر , مرحاً بشوشاً . و كان له مقدرة خارقة في رواية النكتة . و كان لا يتقدم الى بضع خطوات حتى يستوقفه الناس و يبادرونه بالتحية و يطالبونه برواية آخر النكت . و كان له رصيداً لا ينضب . و بعض النكات من تأليفه الخاص . و رسالته كانت اسعاد الآخرين . عندما نتحدث عن امدرمان , يغضب البعض . و يقولون اننا متعصبون لأمدرمان . ان امدرمان هيّ السودان . و أمدرمان ما عندها سيد , أنها بلد الجميع . فليس هنالك أي انسان في السودان ليس له قريب أو حبيب في امدرمان . فهل هنالك اي مكان في العالم يكون رئيس اركان جيشه مثل اللواء حمد النيل ضيف الله , صديقاً لعربجي مثل عثمان طه , و يحمل ابن هاشم ضيف الله اسم عثمان طه . و يحمل ابن عثمان طه اسم حمد النيل . اللواء و البطل الذي انحاز للشعب في اكتوبر عوض عبد الرحمن صغير , مع اللواء حمد النيل ضيف الله , كان صديقاً لصيقاً لسائق التكس ود ارصد . هذه هي امدرمان . و لهذا نحب امدرمان . قبل اسبوعين فكرت في الكتابة عن الوالد ناصر بلال . و هو أول انسان كنت اقبل يده في امدرمان كلما التقيه . و كنت احسب نفسي احد ابنائه . و عندما فكرت قبل أقل من شهر , سألت رفيق الدرب عثمان ناصر بلال , و الذي يحمل اسمه احد ابنائي . ( عن مسقط رأسه قبل الحضور الى امدرمان ) . و هذا بغرض التوثيق فقط . و عندما قال عثمان : ( نحن فور يا شوقي ) . و كانت تلك هي أول مرة اعرف ان رفيق دربي عثمان فوراوي . فقديماً لم تكن هذه الاشياء مهمة . و لا نفكر فيها حتى . المهم ما هو طرحك و ماذا تمثل . و هل انت متابع للأيقاع الامدرماني أم لا . قبل فترة قصيرة بالصدفة أكتشفت ان الدكتور محمد صلاح محمد أحمد , أبن شقيقتي الهام ابراهيم بدري , و شقيقاته ابتسام و اسماء من المفروض ان يكتبوا امام خانة القبيلة تعايشه , فجدهم الأمير صلاح ابن عم الخليفة عبد الله التعايشي . و أن اختي منى ابو قرجة , ستشاهد اسم ابنتها مقروناً بفوراوية , لأنها ابنة الاستاذ عبد الله زكريا . و قديماً في امدرمان كانت هذه الاشياء قد اختفت . و لا تهمنا من قريب أو بعيد . التحية ع. س. شوقي بدري . [email protected]