*(كل الناس خائُفون، يتظاهرون بالبشاشة، ولكنهم يرتجفون من داخلهم، ولا أهمية تذكر لكونهم أغبياء!..). - سلمان رشدي. رواية غضب ص 135. -1- .. تروي الكتب الدينية قصة خلق الوجود وفق تسلسل محدد شاءته إرادة الله.. والمهم في هذه الرواية أن خلق الإنسان جاء بعد المخلوقات كلها كتتويج لها لذلك قيل: خلق الإنسان على صورة الله كمثاله.. أحبائي القرّاء لو أن الله عاد عن رأيه وأراد محو ما خلق أو محو بعض مما خلق .. بمن يبدأ بربكم..؟ - 2 – كلما رأيت هذه الدماء المكفوفة والأجساد الممزقة .. المتناثرة في كل جزء من الأرض .. ورأيت السياسيين والأحزاب والدول تتجاوزها .. وتساوم عليها .. وترتديها قناعاً تساءلت بمرارة المخدوع .. وقنوط المضروب على رأسه .. إلي أي قدر تسير هذه الإنسانية..؟ .. من يتآمر على من ..؟ ؟؟ ولمَ يكون مفهوم الانتصار هزيمة الآخر .. وظلمه .. وسحقه .. ؟ .. لمن تكدّس هذه الأسلحة؟ إنه – كما يسمونه – توازن الرعب .. أليس كذلك ..؟ .. كأنّا خلقنا للرعب المؤدي للموت .. كأنّا ولدنا من أحجار .. كأنّا ولدنا عبيداً لأقوياء الأرض من أغنياء وحكام كأنّ الأساطير التي نسجت لتفسير مظاهر الوجود وظواهر الحياة حقيقية .. وليست من خيوط الوهم والخيال .. وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه .. ؟ . - 3 – الأمر الذي يلعن ويمدح معاً أو ضمن أوقات متقاربة هو النسيان .. إنه أمر بالغ الحساسية والخطورة .. ذلك أنه يمارس أولاً التصنيف بين المواقف والعواطف والذكريات فيضع الإشارات السلبية والايجابية .. وعلى ضوء هذا التصنيف يتم الحذف والإلغاء وطمس الصور والمشاهد .. وتبريد المشاعر أو إشعالها .. وفي هذا خطورة لا تخفى على الجميع .. إذا ننسى أحياناً ما وجب أن نتذكره أو نفعل العكس .. إذ نضع الإشارات السلبية والايجابية في غير مواقعها الصحيحة فنقع في المحظور .. ونرتكب الأخطاء .. والمجازر التاريخية .. وإني لأعتقد أن ذاكرتنا القريبة متبلدة أما البعيدة منذ زمن طويل يلفها التشويش والتناقض . -4 - حين نرى أهلنا مسنين ينوء بهم العجز .. وتنوس الحيوية شيئاً فشيئاً نعود بالذاكرة إلي الماضي يوم كانوا شباباً وكنا أطفالاً يغمروننا بالقوة والحماية والحنان .. وها الأدوار تصبح معكوسة فهم بعجزهم وشعورهم بالحاجة إلي الرعاية كالأطفال … كأن بريق عيونهم يقول : لا تهملونا .. لا تتكرهوا بوجودنا .. لا تسلموا أجسادنا إلي التراب بسهولة … والفارق بين هذين النوعين من الأطفال .. أن الصغار يتطلعون ويتحركون نحو المستقبل بأحلام وآمال متوهجة .. أما الكبار فيلتفتون إلي الماضي بأرواح متكسرة .. وأحلام مفجوعة .. وحسرة المقبل على الغروب .. - 5 – أردَد في هذه الأيام كثيراً ما قاله إيليا أبو ماضي الشاعر المهجري ذات تأمل : جئت .. لا أعلم من أين .. وكلني .. أتيتُ ولقد أبصرت ُ قدامي طريقاً فمشيتُ وسأبقي سائراً إن شئت هذا أم أبيتُ كيف جئت .. كيف أبصرت طريقي .. لست أدري. - 6 – أذكر أني تعلمت في مدرسة القرية (العمارة الشيخ هجو) سنة واحدة قبل أن يعود أبي المزارع ، وفي تلك السنة عرفت الزراعة .. أو تعرفت على حياة النبات للمرة الأولى .. فزرعت بضع حبات ذرة في أرض لجدي ويوم رأيتها نابتة شعرت أني خالق صغير .. لكني عدت من المدرسة ذات يوم فوجدت النباتات الصغيرة قد التهمت .. بكيت .. وبكيت .. ومازلت أبكي ..وعرفت منذ تلك الواقعة أن الجوع .. لا يرحم . [email protected]