سرى خبر “إغتيال عوضية” سريان النار في الهشيم، وبالبداهة وصل إلى آذان “مخبري الصحف”، فسارعوا إلى المكان بحكم المهنة، وبتوجيهات من رؤوسائهم. تقصوا الأمر وأعدوا قصصاً وتغطيات موثقة ل”جريمة العصر” التي شهدها حي “الديم”، استنطقوا الشهود والضحايا، وشهدوا التشييع، وغطوا غضبة أهل الحي المكلومين، ثم عادوا لصحفهم، كتبوا قصصهم، وأعدوا تغطياتهم المصورة. لكن رئيس التحرير “الأعلى” منع رؤوساء التحرير “الأدني” من نشر تغطياتهم الحدث، ولم يكتف بالمنع بل أمرهم بنشر “خبر المكتب الصحفي للشرطة” بحذافيره، وطلب منهم الإلتزام بنصه وعدم الخروج عليه قيد أنملة. رؤوساء التحرير “المغلوبين على أمرهم” انصاعوا لتعليمات رئيسهم الفعلي ونشروا الخبر “الكاذب والمفبرك” الذي أضطرت الجهة التي كتبته الإعتذار عنه في اليوم التالي بسبب بشاعته وعدم صدقيته وسذاجته. لم يحاولوا التحايل على تعليمات رئيس التحرير “الأمني”، ونشر أخبار وقصص من مراسليهم، ولو بطريقة تقديم خبر الشرطة على خبرهم تحت زعم “توازن” النقل. لم يحاولوا حتى إعادة صياغة الخبر بما يجعله خبراً، تصوروا معي صحيفة تبدأ خبراً مثل خبر إغتيال “عوضية” ب:”تعرضت دورية شرطة لهجوم من المواطنين ما اضطرها لإطلاق رصاص في الهواء ماتت بسببه مواطنه في المستشفى”..! بقدرة قادر أصبح الخبر هو الإعتداء على الشرطة، وليس اغتيال مواطنة عزلاء في منزلها..! كل هذا لم يفعله رؤوساء التحرير مجتمعين، وهم يعلمون أن خبر الشرطة مفبرك وغير صحيح، وأن المعلومات الواردة فيه مقصود منها “تبرئة” الجناة مما حدث. أن تنشر مثل هذا الخبر وأنت تعلم أنه خبر “كاذب” تمارس أسوء أنواع التضليل على القراء مهما كان مصدرك، والقانون واضح في هذا، لأن التهمة الرئيسة تقع على الصحيفة وليس على المصدر، فهي حسب “قانون الصحافة” المتهم الأول في قضايا النشر، ويحق لذوي القتيلة مقاضاتها وتغريمها، نقلت عن المكتب الصحفي أو عن الوزير..! لم يمارس أي من رؤوساء التحرير حتى “التقية” برفض نشر الخبر برمته، وتجاهله تماماً، سواء تغطيتهم له، أو “فضيحة المكتب الصحفي”، فخبر “يفوت صحيفة” أفضل ألف مرة من نقلها لخبر كاذب ومضلل..! حتى هذا لم يقدر عليه رؤوساء التحرير، فعلى ماذا يقدرون يا ترى..؟ و”السقطة الثانية” للصحافة إنها اعتذرت عن خبرها في اليوم التالي مباشرة، بعد اعتذار والي الخرطوم عن شرطته، قلت اعتذرت لأنها “أصيلة” في الكذبة السابقة، وليست مجرد ناقلة “كفر” حسب القانون، مسكينة هي صحافتنا تنقل الكذبة وضدها من نفس الشخص دون أن يرف لها جفن..! وهنا وددت نشر “صك براءة” للزملاء من ملح الأرض والشغيلة الذين نقلوا الحدث كما شهدوه، والمعلومات كما عرفوها من مصادرها، أظن وبعض الظن إثم إن بعض “رؤوساء التحرير والناشرين” مجرد “أكلة عيش” خافوا على مناصبهم وامتيازاتهم و”مصاريهم” فالتزموا بتعليمات رئيسهم المباشر “جهاز الأمن”، فسقطوا وسقطت صحفهم تلك السقطة المشهودة، ووقع الإثم على رواة الأخبار وناقليها، فضجت الأسافير ببؤسهم و”عمالتهم”..! وتحضرني هنا “شجاعة” رئيس تحرير صحيفة “الصحافي الدولي” د. خالد التجاني في تعامله مع حدث مشابه، وهي سابقة أظن أن على رؤوساء “التهرير” الإتعاظ بها: على أيام الرقابة القبلية، نزع الرقيب من الصحيفة قصة خبرية عن الحملات المطالبة بتكفير “النيل أبوقرون”، ومنع نشرها، وفي اليوم التالي أخرج “الرقيب” قصة من جيبه وأمر بنشرها، فرد عليه د. خالد التجاني: “عليّ الطلاق ما أنشرها لو تقفلوها، أنا شغال معاكم، تقلعوا خبرنا وننشر ليكم خبركم، قاعدين في الترابيز دي نسوي شنو إذا إنتو بتشتغلوا شغلنا كله”..؟! المهم أن صحف الخرطوم كلها خرجت ذاك اليوم تحمل خبر “الأمن” خلا الصحافي الدولي، ولم تستطع سلطات الأمن فعل شئ، بل جاءت اليوم التالي تطلب نشر الخبر “إعلاناً مدفوع القيمة”. تحملت الصحافة “الخطوط الحمراء”، والنشرات التي تمنع التداول، لكن أن تمنع من النشر وتؤمر به، فهذا فوق الإحتمال، لأن “السلطة” تكون قد سحبت من رؤوساء التحرير كل سلطاتهم القانونية، “اتخاذ قرار النشر ومنعه” وهو من الصلاحيات الأصيلة لرئيس التحرير التي لا ينازعه فيها حتى الناشر ومالك المؤسسة الصحفية، فلماذا يفرط فيها يا ترى..؟! يعني إذا كان جهاز الأمن يقول لرئيس التحرير لا تنشر هذا وأنشر هذا وينصاع صاحبنا دون اعتراض، فإن الأمر لا يخرج من إحتمالين، إما أن يكون رئيس التحرير موظفاً عنده، أو يمسك عليه ما “يذله” به..! فإذا كانت “الأجهزة الأمنية” تملك هذه الصلاحيات فأظن أن عليها أن تقصر وظيفة “رئيس التحرير” على ضباطها، فترتاح وتريحنا، أو أن توزع “رتباً” على رؤوساء التحرير الحاليين إن كانت لم تفعل بعد..! لا أريد من هذا النشر إلاّ فتح حوار مع الزملاء في الداخل والخارج حول مشاكل الصحافة السودانية والصحافيين السودانيين، وأظنها مناسبة طيبة لنفترع هذا الحديث في هذا الوقت من عمر بلادنا ومهنتنا، كما أود أن أذكر الناس بأني لا أستهدف أحداً من الإخوة رؤوساء التحرير الذين أكن لهم كثير من الأحترام والمودة، لكن الفاجعة تستحق “فقأ الدمل” ليبرأ الجرح..!