] ولكن حين نضيف إليه أباً يغدو غير معروف لغالب الناس ؛ لا هو... ولا أبوه..وأكثر الذين يعرفونه أهل شمالنا الأدنى... والأقصى.. ] سيما الذي كانوا يجوبون أنحاءه – سفراً – قبل تعبيد طرق باصاته... و لواريه.. ] فهو ضوء خافت يظهر في – أو من – جوف الظلام.. ] فيضل سائقي العربات – قليلي الخبرة – إذ يظنونه دلالةً على محطة في الطريق.. ] والطريق ليلاً – آنذاك – لا معالم له... و لا حدود.. ] بل الصحراء كلها تبدو كذلك... تماماً كبحار – ومحيطات – لا متناهية ؛ للناظر.. ] وجنوب دنقلا قرية اسمها بغدادي... أو البغدادي...أو البغدادية.. ] ويُقسم السائقون – وكثير من المسافرين – أنها تبدو لهم مأهولةً ليلاً... و مضيئة.. ] وأضواؤها كأضواء فوانيس... تتحرك من مكان إلى آخر.. ] رغم إنها مهجورة منذ أمد بعيد... ولا أحد يعرف سبب هجر سكانها لها ؛ فجأة.. ] ونقول فجأة لأن كل شيء باقٍ كما هو... إلى يومنا هذا.. ] أو إلى يوم قريب كان الناس يجزمون فيه بذلك... حتى الجامع احتفظ بكل محتوياته.. ] ثم الفُرش... والأثاث... وبقايا الملابس والنعال وحطب النار.. ] ما الذي حدث لهم؟..... لا أحد يدري ؛ فقط تركوا قريتهم – بما فيها – فجأة.. ] أو من يزعم أنه يدري ينسب الأمر إلى آباء الفوانيس.. ] فهم أقدم سُكنى في القرية – يقولون – وأنذروا المقيمين الجدد كثيراً... ليرحلوا.. ] فلما لم يستجيبوا فرضوا عليهم رحيلاً جماعياً مفاجئاً.. ] أو يمكننا أن نقول : رحيلاً فجائياً مفزعاً... لم يُمكِّنهم حتى من أخذ حاجياتهم..وبعيداً عن الخرافة هذه فلا وجود لأبي فانوس.. ] ولا لخرافات مثلها عديدة تتخذ من عقول كثير من الناس قرى... ومدناً... و أمصاراً.. ] فهنالك تفسير منطقي – قطعاً – لهذه الظاهرة.. ] تماماً كما هناك تفسير علمي لظاهرة السراب مثلاً... الذي يحسبه الظمآن ماء.. ] والعقل حين يكون ظامئاً يحسب الخرافة حقيقةً أيضاً.. ] وظمأ العقل الافتقار إلى المنطق.... إلى العلم.... إلى المعرفة.... إلى الحقائق.. ] قد يفتقر إلى كل أولئك وإن كان صاحبه ذا شهادات عليا.. ] والبارحة يشتكي إلي – وإلى الله المشتكى – قارئ مثقف قال إنه ضل الطريق.. ] هو الذي يصف نفسه بأنه مثقف... ورغم ذلك ضل.. ] وسألني إن كنت أعرف أبا فانوس... فقلت : أعرفه كما أعرف الغول والعنقاء.. فمضى قائلاً : لقد تبعت واحداً سياسياً... سنين عدداً.. ] وكلما ظننتني اقتربت منه – ومن ضوئه الذي يبدو جاذباً للتائهين – ابتعد عني.. ] ثم تيقنت الآن ألا فرق بينه وبين أبي فانوس الصحاري.. ] فلما حكيت له حكاية قرية البغدادي المهجورة – ذات الفوانيس – ضحك عميقاً.. ] لقد صار هو – وحزبه – مثل هذه القرية... في نظري.. ] فهي قرية مسكونة ؛ ولكن ليس بآباء الفوانيس كبغدادي... وإنما آباء المتاعيس.. ] والحمد لله أن هجرت بعقلي منها الآن.. ] ولن أتبع منذ اليوم فصاعداً – يقول – إلا فانوس الهدى الحق ؛ ديناً... و دنيا.. ] الذي لا أب – شيطانياً – له.. ] ولا حتى روحياً !.