إن اللحظات الصغيرة من كبت الرؤية تحدث بسرعة كبيرة لدرجة أننا لا ندرك حدوثها، كما أننا لا ندرك جميع تحولات النظرة المجهرية التي تحدث أثناء نظرنا إلى ما حولنا. يغير البشر نظرهم بشكل متكرر أكثر من دقات قلبهم. وتعزز حركات العين السريعة هذه -والتي تسمى "سكادس" (saccades)- من حدة البصر إلى درجة كبيرة عن طريق إعادة توجيه النقيرة في شبكية العين. ويظهر بحث جديد كيف أن هذه التحولات الدقيقة تنطوي أيضا على فترة وجيزة جدا من "العمى" يتم فيها حظر رؤيتنا تلقائيا. تعرف "النقيرة" (Foveola) بأنها جزء صغير من شبكية العين ذات كثافة عالية من الخلايا المخروطية التي تحتوي على مستقبلات ضوئية ذات حساسية شديدة للضوء. وتستخدم النقيرة لرؤية التفاصيل الدقيقة كأن نبحث عن شخص ما بين حشد من الناس، أو عند محاولتنا رؤية جسم صغير على بعد كبير. وعندما ننظر عن كثب إلى شيء ما تقوم أعيننا بتحولات صغيرة وسريعة في النظرة تسمى الحركة الرمشية الدقيقة "ميكرو-سكادس" (Micro-saccades). وعلى الرغم من أن هذه الحركات الرمشية الدقيقة تحسن رؤيتنا بشكل عام إلا أنها تعمل أيضا على تعطيل رؤيتنا "مؤقتا" أو ما يمكن أن نسميه " العمى المؤقت" وذلك وفق ما أظهرته دراسة نشرت في دورية "بي ناس" (PNAS) في سبتمبر الماضي. ووفق تقرير نشر على موقع "ساينس ألرت" (Science Alret)؛ تم رصد فترات من العمى المؤقت التي تصاب بها العين عند حدوث تحولات كبيرة في اتجاه النظر وذلك في دراسة نشرت عام 2001 في دورية "تريندس إن نيوروساينسز" (Trends in Neurosciences). وأطلق عليها الباحثون آنذاك تعبير "نظام تخميد الحركة الرمشية الدقيقة" (saccadic suppression)، والذي يعتبر أمرا حاسما للحصول على رؤية جيدة ويمكن أن نشبهه بتدوير التلسكوب للحصول على رؤية واضحة لمحيطنا. وفي دراستهم الجديدة ركز فريق الباحثين من جامعة "روشستر" (Rochester) و"بوسطن" (Boston) الأميركيتين وفق الجزيرة نت على التحولات الصغيرة التي تترافق مع الحركات الدقيقة للعين التي تحفز النقيرة، وذلك بهدف معرفة إذا كانت تتسبب أيضا بمرحلة من العمى المؤقت كما هو الحال في التحولات الكبيرة لاتجاه النظر. في البيان الصحفي الذي نشرته جامعة روشستر في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تقول جانيس إنتوي عالمة الرؤية والكاتبة الرئيسية المشاركة في الدراسة "لقد لاحظنا أن الحركات الرمشية الدقيقة تكون مصحوبة بفترات قصيرة من التثبيط البصري نصبح خلالها كفيفين تماما". وأضافت "تظهر نتائجنا أن مركز البصر يخضع لتعديلات جذرية وسريعة في كل مرة نعيد فيها توجيه نظرنا مثل النظر من وإلى شاشة الحاسوب". وشارك 6 من المتطوعين في رصد "براغيث" تقفز على "رقعة من الفراء" على شاشة الحاسوب. كانوا في الواقع ينظرون فقط إلى النقاط الموجودة على "خلفية طبيعية مشوشة" تحاكي فرو حيوان. وعند رؤيتهم ل"براغيث رقمية تقفز" يضغط المتطوعون على زر على لوحة التحكم. وأظهرت نتائج المسح الضوئي المتخصص لمنطقة "النقيرة في العين" أن المشاركين لم يتمكنوا من رؤية البراغيث الرقمية مباشرة قبل وبعد تحولات النظرة الصغيرة مباشرة، حتى عندما كانوا ينظرون مباشرة إلى الشاشة. وترى إنتوي أنه من المحتمل "أن يحدث هذا الفقد الوجيز للبصر حتى لا نرى صورة العالم تتغير كلما حركنا أعيننا، وهكذا يكون نظامنا البصري قادرا على إنشاء صورة ثابتة". ووجد الباحثون أن الرؤية قد تعافت بسرعة في مركز العين بعد هذه النوبات القصيرة من العمى، ثم استمرت في التحسن، ليستنتجوا بذلك أن الرؤية قد تحسنت بشكل عام بعد هذه الحركة السريعة للعين. مزيد من الأبحاث أوضح عالم الأعصاب ميشيل روتشي من جامعة روشستر أن هذه اللحظات الصغيرة من كبت الرؤية "تحدث بسرعة كبيرة لدرجة أننا لا ندرك حدوثها، كما أننا لا ندرك جميع تحولات النظرة المجهرية التي تحدث أثناء نظرنا إلى ما حولنا". وأضاف "لدينا في مختبرنا أدوات عالية الدقة لدراسة الرؤية على هذا النطاق الصغير، بينما ركزت الأبحاث الأخرى تاريخيا على المناطق المحيطة للعين حيث لا تكون هذه الدقة مطلوبة في معظم الأحيان. ولا بد من مزيد من الأبحاث التي تسهم في تعزيز فهمنا لآليات الحركات الدقيقة في العين مما يمكن العلماء من تطوير العلاجات اللازمة لأي خلل يمكن أن يصيب هذا الجزء من سلسلة منظومة الإبصار.