كنت أخطط للحديث هذا الأسبوع عن دبلوماسية المياه وأبحارنا نحو الطاقة المتجددة وخصوصاً النووية، ولكن سفير مصر العالم دفعني مرتين لتغيير هذا الاتجاه.. المرة الأولى حين كرمته ندوة راشد دياب الفنية، والمرة الثانية حين استضافه المركز العالمي للدراسات الإفريقية على شاطئ النيل الأزرق متحدثاً عن «رؤية جديدة» للعلاقات المصرية السودانية. وللسفير محمد عبد المنعم الشاذلي مكانة كبيرة بين المثقفين في وادي النيل، أصبحت نادرة هذه الأيام، إذ أن السفير يعبر عن رأيه في شجاعة ولا يأبه بغيره، وينسى في سفارته الى أي البلدين ينتمي مصر أو السودان. وفي ندوة الفنان دياب، جعل السفير هدفه أن يحارب أولئك الذين ينذرون بحرب مياه قادمة، ومن حق السفير هذا التفاؤل وهو ينتمي الى فلسفة جديدة تعاونت مصر والسودان فيها إذ جعلت من مبادرة دول حوض النيل، الوسيلة المثلى ليتحول هذا النهر - نهر النيل- الى عاشق للسلام وأن يحرص على ألا تتوجه نقطة واحدة من ثروته الى ما يعكر هذا الجو ولا يحقق السلام. أما رؤية السفير المستقبلية في علاقات مصروالسودان، فإن القراءة الأولى لها، أنه يحاول أن تتجه سياسات مصر والسودان الى علاج أزمة العالم الحالية، أزمة الأمن الغذائي وأن يضع السفير مهراً لهذا الأمن القومي العربي. لم ينكر السفير أن هناك علاقات أزلية بين مصر والسودان أكثر ضماناً لأمن البلدين، ولكنه ناقش حتى هذه العلاقات الأزلية التي يمكن أن تتطور أو تتغير ولكن الأمن القومي أوسع منها. السفير يقول لنا كم مرت بالبلدين أزمات، استطاع أبناؤهما أن يجدوا لها حلاً ويديروها أو يديروا أزمتها إدارة جيدة وناجعة. ولما واجهته إحدى الحسناوات ولكنكم تعاملوننا معاملة دونية؟ قال لها ولماذا قبلت هذه المعاملة الدونية؟!. وكأن السفير يريد أن يقول إن الموضوع موضوع نسبي تقاس فيه الدونية بأين موضع الإنسان من موقعه. وكذلك عندما أُثيرت قصة «حلايب» لم يقل إن السودان ليس له الحق، ولكن قال إن لي رأياً ولكم رأي ولا يفسد اختلاف الرأي للود قضية. مواقع التماس وليسمح لي وقد عشت حالة «حلايب» في مواقع رسمية وإنتهى العقلاء فيها دائماً بالقول ولماذا لا نجرب في حلايب وغيرها من مواقع التماس شمالاً وجنوباً الإدارة المتكاملة، هذه الإدارة المتكاملة التي تغري بتجارب أخرى. وهذا هو روح التكامل لا شكله. وكم من مرة حين الحديث عن التكامل العربي قلنا إن معنى «التكامل» ليس هو التبادل ولكن معناه الإنتاج المشترك لسلعة واحدة عناصرها في مكانين مختلفين إن كانت صناعة أو زراعة صناعية، أو صناعة زراعية. ان «القيمة المضافة» هي نتيجة التكامل وليست القيمة المتساوية. ظاهرة اضطراب القيم أصدرت «اليونسكو» أخيراً كتاباً عن «القيم الى أين؟»، نتيجة مداولات «القرن الحادي والعشرين» في حلقات حوارية مختلفة جمعت عدداً من العلماء والمثقفين وصناع القرار والمفكرين العالميين، وللإجابة عن هذا السؤال أشرف على الكتاب أحد الأصدقاء القدامى «جيروم سنبري» وقد أصبح الآن مساعد المدير العام لشؤون العلوم الاجتماعية، ومن العرب الوحيد بين الذين اشتركوا في الكتاب الفيلسوف الجزائري «محمد أركون» - ومن الكتَّاب جاك دي لور الذي أصدر كتاب اليونسكو «التعلم ذلك الكنز المكنون» والأمريكي بول كندي وغيرهم. «هل أزمة القيم تسأل عنها العولمة» التي تهتم فقط بالتقني والكسب الاقتصادي؟ ولا تهتم بالقيم الأخلاقية؟ وظاهرة الانترنت كوسيلة للتعليم لا يعرفها الكثيرون من الأفارقة والآسيويين والمسلمين؟ تحدث هذا الكتاب عن الارتباك وأسبابه - والذي قصدته من الإشارة الى هذا الكتاب لا نقل أو تلخيص ولكن لأقول للقارئ السوداني إن العالم جميعه اضطربت قيمه، وفي هذا الوقت بالذات نحن نحتاج للصديق الذي يعين. مصر والسودان والمستقبل في هذا الوقت وأزماته التي تحدثت عنها اليونسكو نرى أننا بحاجة الى خلق إن لم يكن اصطناع جو مختلف نشترك فيه مع مصر كما تشترك فيه مصر معنا - وبغض النظر بل ومن أجل أن العالم تضطرب قيمه لابد لنا من البحث عن قيم لنا.. تحمينا من اجتياح قيم العالم وتحفظ لنا ثقافاتنا المشتركة. أدارت فضائية «الجزيرة المحترمة» حواراً حول فشل الستين عاماً الماضية في إدارة أزمات فلسطين وغيرها وذكرتنا بالزمن الذي كانت إرادتنا مشلولة فيه وأيام الاتفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا حول تقسيم النفوذ ووعد «بلفور» وغيره من المأساة والعجز العربي وتجاهلت أو نسيت الجزيرة أن الاتفاق الودي في بداية القرن الماضي كان أساسه حادث «فشودة» المشهور الذي أوقف البريطانيون الزحف الفرنسي على فشودة بقيادة الضابط الفرنسي «مارشان» وكانت حجة البريطانيين أن اتفاق برلين 4881/5881 بتقسيم إفريقيا بعد تمزيقها لا يشمل غرب السودان، وحجة البريطانيين أنهم كانوا يعملون لحماية «العلم المصري» بعد اتفاقية الحكم الثنائي المشهورة، وكلنا يعلم إنه لم يكن لمصر في ذلك الوقت غير العلم في السودان ولكن هذا العلم حمانا من الغزو الفرنسي الذي لم يختف حتى الآن وصدامات «تشاد» لا زالت تحوم حولها الشبهات ولكن المهم أننا تغيرنا وإن كنا لا نستطيع أن نحمي أنفسنا أيام حوادث فشودة، فإن الأمر قد تغير والحمد لله الآن وقد أصبح للسودان سيادة ودولة، كما دولة مصر وسيادتها وتقابلت الإرادات من كل جانب ولا نريد أن نذكر هنا ألا يوجد خلاف بين اتحاديين واستقلاليين، فالجميaع كان يريد الخلاص من المستعمر البريطاني. المهم ألا تفاجئنا الآن صدمات المستقبل وأن نستغل التطورات التكنولوجية لمصلحتنا ولحل مشاكلنا. وقد أكد السيد السفير ما ردده رئيس البنك الدولي ورئيس الصندوق من أن العالم مقبل على أزمة غذاء هذه الأزمة ستحيق بنا وبالمصريين. دور التكامل الذكي وهنا يصر السفير على أن من واجب مصر والسودان أن يتجها الى رؤية واحدة فيها الخلاص من هذه الأزمة ليس فقط لحماية الأمن الغذائي فيهما فحسب بل أن السودان يمكن أن يستعيد الدور الذي طلبته منه منظمة الزراعة الدولية منذ الستينيات بأن يكون واحدة من ثلاث دول هي كندا واستراليا - وأعتقد -الأرجنتين. والسودان بحمد الله فطن لضرورة النهضة الزراعية التي قدمها نائب رئيس الجمهورية أمام برلمانه وطالب البرلمان أن يكون رقيباً على تنفيذها. السودان يقدم أرضه وماءه كما قدم بتروله وغازه وتأتي التقانة والحزم المتقدمة لمضاعفة إنتاج القمح مرات ومرات وليكون هذا هو الرد على مؤامرة الغرب في أن يحول مصدر الغذاء للشرق الأوسط الى مصدر طاقة حيوية تحرمه من الأمن الغذائي ونظرة السفير هذه هي التي نؤيدها ونعتبرها من أولوياتنا وليس عندنا أولويات غيرها. السفير حسن عابدين وذكرى السفير المصري، تذكرنا بسفيرنا د. حسن عابدين أستاذ التاريخ المشهور، الذي عمل سفيراً لبلادنا في المملكة المتحدة. وقد سافر وفد متكون من مستشار الرئيس الوزير مصطفى عثمان اسماعيل، ومن وزير الخارجية السوداني لاستكشاف الدور الذي تريد أن تلعبه بريطانيا في والوساطة لحل مشكلة دارفور. ونشرت جريدة «الرأي العام» مقالاً ممتازاً للسفير حسن عابدين أحاط فيه بخبرته النادرة ومعرفته الدبلوماسية المشهد البريطاني وقدم من الحلول المفيدة الكثير. ونحن إذ نؤيد ما ذهب إليه السفير، نؤكد رغبة منظمة سفراء السودان التي باشرت عملها أن السفراء جميعاً يضعون خدماتهم وتجاربهم تحت إرادة أصحاب القرار في بلادهم وأن آراء البروفيسور حسن عابدين نرجو ألا تذهب مع الريح وتبقى صالحة في الأرض.