إن أول منوطات البحث حول الانتلجنسيا السودانية هى محاولة الإجابة عن الأسباب التى أدت إلى عدم انتشار الأدب السودانى كما هو الحال فى بقية الآداب الأخرى. ولعل هذا الأمر هو أحد المعوقات الأساسية فى سبيل لقاء الأدب السودانى حظه من الانتشار والنقد والتداول إقليمياً وعالمياً، وإن استثنينا الأديب والروائى العالمى الطيب صالح وشاعر القطرين محمد الفيتورى اللذين هربا من حصار القوقعة المحلية إلى عوالم أرحب، نجد أن بقية الأدباء السودانيين مازالوا محاصرين، إن لم نقل مدفونين، إما ذاتياً أو لأسباب أخرى يصعب حصرها نظراً إلى التغييرات المطردة فى نواحى الحياة السودانية المختلفة: اجتماعياً وسياسياً واقتصاديا وحتى تقنياً؛ إذ أن دور النشر والتوزيع السودانية تفتقر إلى أهم المقومات التى تجعلها لا تعى دورها الرسالى فى حمل الثقافة والأدب على النحو الذى يجب أن تكون عليه، فتكتفى بدور الناشر والموزع السلبى على أساس ربحى ليس إلاَّ. وتطوير مؤسسات ودور النشر لتقنياتها المهنية والحرفية وكوادرها وأدواتها فى التعامل مع النصوص الأدبية هى واحدة من الركائز التى يعتمد عليها الأدب السودانى فى عملية اختراق سوق الأدب العالمي. وأنا هنا حين أقول عالمياً، لا أحصر العالمية أبداً فى القراءات والكتابات غير العربية وإنما أقصد بها ما وراء السودانية عموماً. إن غياب النقد هو أحد العوامل التى ساعدت على دفن التراث الثقافى السوداني، وما لم يجد الأدباء السودانيون طريقة لوصول أعمالهم إلى النقاد لن تجدى جميع المحاولات الفردية التى يقومون بها من جلسات استماع، وقراءات، ونشر فى الشبكة العنكبوتية فى محاولات متواضعة جداً منهم للوصول إلى المتلقي. فمعظم الأدباء السودانيين يكتفون بنقد المتلقى غير الأكاديمى والمتمثل فى ردود أفعالهم سواء عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو حتى موجة التصفيقات التى يتلقاها فى ندوة أو أمسية أدبية، ليصبح التصفيق أو مجرد الإشادات الفردية هو «تيرمومتر» النقد الأدبى السوداني. وهذا التواضع فى الحقيقة ليس تواضعاً حميداً، بل هو تواضع المغلوب على أمره، ودون محاولات شخصية أو مؤسسية جادة للوصول إلى حدود أبعد من المتاح لن يصل الأدب السودانى إلى مرحلة التداول التى تتيح بدورها لفت أنظار النقاد وبالتالى نيل الأدب السودانى الانتشار الذى يستحقه. وعليه سيظل النقد مجرد «أخوانيات» تتداول فى أروقة الأدب السودانى الضيقة من نقاد سودانيين إلى مبدعين تربط بينهم علاقات. وبعيداً عن الحركات النقدية الجادة، نجد حركةً يُمكن أن أسميها بالاكتشافات الفردية كتلك التى قام بها الروائى الفرنسى «دو سان بول» والأديب الفرنسى «خافيير لوفان» وما قام به الشاعر «يحيى العبدلي» والدكتور «سليمان يحيى محمد» من تناول نقدى وتشريحى للأدب السودانى بجميع أنواعه، على مر العصور القديمة والمعاصرة؛ ورغم ما فى هذه التجارب من غنى وجدية، إلا أنها تظل قاصرة عن تقديم الأدب السودانى بجميع خصوصيته كما يجب. واحد من معوقات انتشار الأدب السوداني، هو إيغال الأدباء أنفسهم فى السودنة، ولا أعنى بذلك أن الحل فى سبيل ذلك هو التخلى عن التنميط المطلوب لكل أدب؛ ولكن أعنى بذلك تلك الرؤية التغزلية التى يتعامل بها الأدباء السودانيون تجاه ثقافة سودانية جغرافية بعينها وهى ثقافة أهل البطانة والجزيرة على وجه التحديد، فى محاولة منهم لإيهام القارئ السودانى والعربى بأن الثقافة السودانية لم تنتج أنضج من هذه التجربة الثقافية المتفردة فى لغتها ومفرداتها، فالمتتبع لنصوص الأدب السودانى وحتى على مستوى المسرح والدراما يجد التشدق والالتصاق الواضحين بهذه الثقافة التى لا تعدو أن تكون واحدة من روافد الثقافة السودانية واسعة التعددية، وبالتالى لا يصح القول بتمثيلها لها. إن الأدب هو تاريخ الشعب المُصاغ بطريقة فنية - حتى لا أقول أكاديمية - والأدب الحقيقى هو الذى يستطيع أن يتعرف القارئ من خلاله على تلميحات واضحة وسريعة لمجمل الواقع البيئى الذى يتناوله النص الأدبي: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتاريخياً وعسكرياً وأمنيا وكافة المرجعيات التى قد توضح جوانب البيئة بكل دقة؛ وعندها يصبح التشبث بأداة متغيرة هو نوع من الدوغمائية التى تعمل على قتل النص الأدبى وبالتالى على قتل المبدع أدبياً فيحول بينه وبين التطور من ناحية وبين الانتشار من ناحية أخرى. ودون أن نلجأ إلى الخوض فى مركزية الثقافة السودانية وهامشها، فإن ثقافة المركز الفعلية هى خليط متميز من جميع الثقافات السودانية المتعددة والمتشابكة، بغض النظر عن أسباب تشكل هذه الثقافة الوسطية من أسباب سياسية واقتصادية مختلفة على مر التاريخ السودانى المعاصر والقديم على حد سواء. ويمكن اعتبار هذه اللغة الهجينة صالحة للتصدير دون اللجوء إلى التعريفات الجغرافية والإحالات المعرفية إليها؛ متخطين بذلك ورطة التشبث بعنصرية اللهجة الجغرافية ومتجاوزين لحدود جذورها التاريخية إلى أفق سودانى أرحب، يكون فيه العنصر السودانى أشد تعميماً وأكثر وضوحاً. وليس المجال هنا لسرد نماذج من ذلك فالواقع الأدبى السودانى مليء بهذه النماذج المقروءة والمشاهدة والمسموعة.